يبدو أن أحداً لا يرغب دولة عربية مستقلة - لوبعض الشيء - في قراراتها واقتصادها وتحركاتها، تحاول أن تقول "لا"، لبعض المؤامرات، في محيطها الاقليمي، وانتمائها العربي والإسلامي، خصوصاً إن كان الطرف الآخر على الضفة، جهة غربية، أو أحد وكلائها. هذا الشعور، غدا واحداً من المسلمات لدى كثير من السعوديين، والعرب والمسلمين، فيما يفسره كل طرف وفق ايدولوجيته الخاصة، ضمن فرضيات كلها قابلة للنقاش، إلا أن الذي غدا مؤكداً هو أن مؤامرة كبرى، ضد السعودية، بغض النظر عن أسبابها ومآربها. ولم يعد الحديث عنها تكهناً أو حتى استشرافاً للمستقبل، بل انتقلت من الفكرة إلى "التطبيق"، أما أن تنجح أو تفشل، فتلك مسألة أخرى. المؤشرات كثيرة، في تسليم العراق كلية إلى ايران، وتعاون الأميركيين مع طوائف الحشد الشعبي، وبدر، ورجال الحرس الثوري ونحوها، وممارسة أبشع أنواع التمييز والاضطهاد ضد القبائل العربية السنية، الممتدة بين دول الاقليم كافة. وفي اليمن ليس سراً منذ حين أن الاميركيين، شكلوا غطاء للتمرد الحوثي، ويستميتون في شرعنته، ويضعون مرة اثر أخرى خطوطاً حمراء لتقدم المعارك، نحو "صنعاء"، وأكثر ما هنالك وضوحاً، التسريب المتعمد لما قالت "بي بي سي" إنه افكار وزير الخارجية الاميركي لإنهاء الأزمة اليمنية، وهي التي تضمنت تشكيل حكومة لا تمثل فيها قوى الشرعية سوى الثلث، فيما قسمت الثلثان الباقيان بين الحوثيين وحزب صالح. وكأن الحرب لم تقم، ولم يكن فيها معتدٍ، ولا مخالفاً لقرارات الأممالمتحدة. وسائل الاعلام الغربية نفسها وعلى رأسها "بي بي سي" المعروفة برصانتها وحياديتها، منذ الأزمة اليمنية، لم تتناول حادثة واحدة من دون غمز السعودية، وتهوين جرائم الحوثيين، ما استطاعت. ومثلها بعض الوكالات الأجنبية. بل الأممالمتحدة نفسها، في تقريرها حول انتهاك حقوق أطفال اليمن، دانت التحالف العربي، باستهداف الأطفال، في وقت يجند فيه الحوثيون الأطفال جهرة. فيما بعد قيل إن طرفاً حوثياً ضلل مستشارة المنظمة! آخر المطاف كان قانون "جاستا" في أميركا، الذي يراد به مزيداً من الضغط على السعودية، حتى وإن كان قانوناً عاما، إلا أن الجميع يقر أن السعودية، هي المستهدف به. يأتي ذلك في وقت رفعت فيه أميركا العقوبات عن ايران، المنافس الأيدولوجي، والخصم السياسي للعرب والسعودية، وأبرمت اتفاقاً معها، من دون وضع أي قيود على سلوكها في المنطقة، وتحرشاتها بالعرب، حلفاء أميركا التقليديين، ما أعطى طهران ما يشبه الضوء الأخضر لفعل ما تشاء، حتى وإن كان حرق قنصلية السعودية، وتهديد أمن الحج. السياسة والأيديولوجيا ولم يكن الجانب السياسي هو الوحيد، إذ بات استهداف السعودية ومدرستها نهجاً عالمياً، الشركاء فيه غربيون وروس وعرب ومسلمون، مثلما برهن مؤتمر الشيشان، حيث بدأ تدشين المعركة الفكرية والعقائدية، بموازاة السياسية. ما ذنب السعودية حتىتحاك ضدها كل تلك المؤامرات؟ إنها رفضت أن تسلم المنطقة العربية هدية إلى ايران، وتركها تعبث في لبنانوالعراق وسورية واليمن كيف تشاء، وترى أن الأمن القومي العربي، كل لا يتجزأ، خصوصاً إن كان يستهدف حدودها، أو أمتها السنية الكبرى، فدعمت الثورة السورية باصرار واليمن بحزم، واستعادت وجودها في العراق، وتعمل على قص أجنحة ايران في دول افريقيا السمراء، بالتعاون مع حلفائها الاستراتيجيين في دول المغرب العربي وغرب افريقيا. لما ذا يدعم الغرب ايران، ويسارع في تحريرها من كل قيود الحصار التي فرضها عليها منذ هيمنة نظام الخميني ؟ الجواب ذكره الرئيس الاميركي، وهو الأكثر صراحة بين قادة الغرب، في حواره مع معمجلة "ذيأتلنتيك" فينيسان (أبريل) الماضي،فهو يرى الايرانيين، النسخة الأقل عداء للغربيين، والأكثر استراتيجية وتنظيماً، على رغم الراديكالية والشعارات الاستهلاكية، مثل "الموت لأميركا"، وأن على جيرانهم أن يتقاسموا معهم النفوذ في الاقليم والمنطقة! بوضوح أكثر. يريد تحسين فرصهم، عبر وسائل عدة. بينها تحريرهم من القيود، مثل العقوبات، وغض الطرف عن أخطائهم السياسية والدولية، طالما أنها تأتي في سياق المشروع الكبير، فتنظيماتهم الارهابية مثل بدر وحزب الله والحشد الشعبي وكتائب العباس والزهراء في سورية، ليست هدفاً للقوات الأميركية، مثل تنظيم القاعدة أو داعش والنصرة، ناهيك عن حليفهم بشار، الذي قتل وشرد من شعبه، مالم يشهد له التاريخ الحديث نظيراً، منذ الحرب العالمية الثانية. في سبيل هذا النهج، يتقاطع الغرب مع عدوه الروسي التقليدي، طالما يعزز ذلك فرص ايران وحلفاءها، وينال من فرص الطرف الآخر. إلى غير ذلك من أساليب الدعم، التي هيأت الرأي العام الغربي لتقبل ايران شيئاً فشيئاً، دولة تستعيد صورتها الطبيعية، في وقت تزداد هي تشبثاً بنهجها المليشياتي في العالم العربي، وقتلاً على الهوية. ولأن هذا النهج غدا سُنة غربية، ينظر عدد من المحللين إلى وجاهة اتهام الأميركيين وبعض الغربيين بدور لهم في المحاولة الانقلابية في تركيا، أخيراً. لأنه إذا ما استثنينا المغرب والسعودية، فإنه لا أحد يقف عائقاً أمام الهيمنة الايرانية على المنطقة سوى تركيا، مدفوعة بمصالحها القومية، ونظيرتها الأممية، بوصفها المناوئ التقليدي لإيران الصفوية، تاريخياً. وإلى هنا يلتقي، الروس والأميركيون والغربيون، عند التمكين لإيران، ليس دائماً حباً فيها، ولكن بوصفها العدو الإسلامي الأخف ضرراً في نظرهم. يقولون إنها لديها إرهابيين، لكن لم يقاتلوا الروس في الشيشان، ولا الأميركيين في نيويورك، أو الأوروبيين في مدريد وباريس ولندن. التقاطع بين ظريف وأوباما وكي يحصلوا على الغنيمة بأقل المتاعب، أشركوا معهم بعض العرب المنافسين، أو الذين يريدون نفي الارهاب عن الاسلام بالبراءة من سنية السلفية، فأقيم مؤتمر الشيشان، ليرمز إلى أن الحلفاء ليسوا ضد السنة، بقدر ما هم ضد شريحة دخيلة عليهم، هي "السلفية - الوهابية"، تقليدية كانت أو جهادية، باعتبارها تنشر تفسيراً للاسلام لا يقبل التعايش مع غير المسلمين، بشكل عام، حسب قولهم. وبدا ذلك واضحاً أكثر في تعقيب وزير الخارجية الايراني ظريف على ملاسنة مفتي السعودية مع مرشد ايران، إذ قال "بالفعل. ليسهناكمنتشابهٍبينإسلامالإيرانيينومعظمالمسلمينوبينالتطرفالمتعصبالذييبشربهكبيرشيوخالوهابيةوقادةالإرهابالسعودي" حسب زعمه. لكن الغربيين والروس وبعض العرب والايرانيين، يعرفون أن طهران تكذب، فمشكلتها تتجاوز الجانب العقدي والديني إلى السياسي، فهي لم تسء علاقاتها بالمغرب مما أدى الى طرد سفيرها، أو مع تركيا، وكذا مصر ونيجيريا في وقت لاحق، بسبب السلفية، وإنما بسبب الاختلاف على الخيارات السياسية، ودعمها التشيع السياسي، لتمزيق النسيج الاجتماعي السني. المواجهة حتمية ما ا العمل نحو هذا التآمر العالمي، ضد السعودية، والأمة السنية لتشتيت صفوفها؟ يصعب التهوين من هذه المعركة. لأنها تجاوزت مرحلة التخطيط إلى التنفيذ، ولكن نجاحها ليس قدراً إلهياً، حتى تستسلم له السعودية، أو السنة في العالم أجمع. إيران نفسها وهي التي تملك إمكانات اقتصادية وقومية وأيدولوجية أقل، استطاعت عبر أساليب عدة، مقاومة الضغوط الغربية عقوداً، خاضت فيها حروباً، ودخلت تحالفات واصطفافات، تمكنت عبرها من الصمود، حتى غدت اليوم صديقة الغرب، الذي كانت عدوه اللدود بالأمس، وكان قاب قوسين من إرسال الطائرات لضرب مواقع حيوية فيها، ذات يوم. إمكانات السعودية بحلفائها، وأمتها السنية الضاربة الجذور، أقوى بمراحل، مهما حاول الايرانيون والغربيون، إضعاف تلك القوة، خصوصاً في رمزيتها الدينية عبر التشكيك في سنيتها ولمزها ب"الوهابية" تارة، والتقليل من أهليتها لقيادة الركن الجامع للمسلمين كافة "الحج"، وما يتلو ذلك من الحرمين الشريفين، والمواقع المقدسة. التوجه الجديد، الذي يريد إعادة تأهيل إيران وشيطنة السعودية، وفصلها عن أمتها، يعترض عليه الكثيرون، حتى من أميركا نفسها. مثلما يشير الكاتب الأميركي سايمون هندرسون، في إطار حديثه عن مخاطر التوجه الأميركي الجديد، اذ قال "مندونقيامردكبيرمنقبلالولاياتالمتحدة،منالمرجحأنتميلالمملكةالعربيةالسعوديةإلىالنظرفيمسارعملأكثراستقلاليةوربماأكثرخطورة"، في التعامل مع الاستفزازات الايرانية. غير أن هذا لا يعني سهولة المعركة، اذ وتحتاج جهداً خارقاً، خصوصاً وأن المؤامرة تستهدف كل المقومات، الدينية والاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، فبعد انهاء مراحل اقرار قانون "جاستا" بوسع أي قاض أميركي، الحجز على ثروة السعودية المستثمرة هنالك، مثلما أن التقارير الغربية لا تمل من تكرار، دعوة سياسييها الى الفطام من سكرة النفط الخليجي، لافتة إلى بدائل في سوق نفطية، غدت متخمة. لكن ما يميز هذا النوع من المعارك، أن الشعوب المنتصرة فيها، تخرج أقوى، وأكثر ثقة بالنفس. "ولله ملك السموات والأرض" وحده. وليس أي توجه غربي، هو بالضرورة إرادة كونية، صائرة لا محالة. *كاتب صحافي. [email protected]