هل صحيح أن الصحافة والكتاب في طريقهما إلى الزوال من حياتنا في المستقبل المتوسط على الأقل. وهل صحيح أن ما يعيشه الكتاب اليوم من تراجع ونكوص غير مسبوق مؤشر على أن الصحافة والصحف في طريقها إلى أن يعرفا المصير نفسه.؟ يرى البعض أن هذين السؤالين لا محل لهما من الإعراب في بلد تنخر الأمية أصلا نصف ساكنته، وأن مثل هذا السؤال ينبغي أن يطرح في الأصل في البلاد التي تحتفل بالصحافة والكتاب خاصة، وبالقراءة عموما. وبالتالي فإن الصحافة، وكذا الكتاب، لم يعش في المغرب لا في الماضي ولا في الحاضر ما يسمى بفترات الازدهار والانتعاش حتى نتحدث الآن عن أزمة. ونستطيع القول دون تكلف، إنه لولا الكتب المدرسية والجامعية ، لأغلقت جميع المكتبات أبوابها، ولما تردد الكتبيون لحظة عن تمرير المفتاح أسفل بوابات مكتباتهم، ولذهبوا إلى حال سبيلهم بحثا عن عمل آخر مفيد. وقد اتفق لي صبيحة ذات يوم أن زرت ناشرا بالمغرب كبيرا في مكتبه المشرف رأسا على كتبه المعروضة للبيع وجلست إليه مدة ثلاثة ساعات أويزيد ونحن نخوض في النشر والكتاب والأزمة دون أن يطل ولو زبون واحد برأسه ، نعم ولو زبون واحد .وبدهشة وفضول غريب سألت الناشر: هل الأمور وصلت عندكم حتى هذا الحد؟ فأجاب وقد علا وجهه نوع من اليأس ممزوج بالإنكسار : "وأكثر ، نحن لم نعد نوزع إلا إلى المكتبات، أما القارئ المشتري للكتب فلم نعد نراه إلا نادرا،. مضيفا:" كتب التجميل والطهو والشعوذة والدين هي التي لا زال عليها بعض الإقبال". ومما يدعو للاستغراب حقا أنك تجد أروع الكتب العلمية والفكرية والأدبية التي تكتبها أقلام وازنة لا تكاد مبيعاتها تتجاوز المئات. وربما لا تنفذ الألف نسخة، التي غالبا ما يطبعها الناشرون ولا يتجاوزنها إلا فيما ندر، إلا بعد سنتين أو ثلاثة أو أكثر ، والأمثلة أكثر من أن تحصى. أما الصحافة فهي تعاني في صمت ولم تعمل زيادة درهم واحد في ثمن الجريدة حقا إلا في اتساع الشقة بين القارئ وبين الجريدة التي أصبح اكثر من 90 % من المغاربة يطالعونها في المقاهي. فعوض أن يدفع الزبون أربعة دراهم أو ثمانية دراهم لشراء جريدة أو جريدتين يفضِّل الذهاب إلى المقهى حيث يتصفح جريدتين كُتب لهما الذيوع مجانا في مقابل مشروب عادي. تحول القارئ عند الصحف لعملة نادرة ينبغي استمالتها بأي ثمن فلا تكف تخرج ما في جعبتها من موضوعات طريفة (تاريخية وسياسية وظواهر مختلفة من الفضائح الجنسية أو المالية أو غيرها مما قد يستميل القارئ). وعلى المستوى الدولي وأمام ارتفاع كلفة الإنتاج وانخفاض إيرادات الإعلان فضلت صحف دولية من مستوى "النيوزويك" التي كانت توزع ملايين النسخ أسبوعيا التواري لتتحول إلى موقع إلكتروني من طرف مالكها الجديد، محتذية مجلة "كريستيان ساينس مونيتور" التي تحولت منذ علام 2008إلى موقع ألكتروني و"صحيفة فرانس سوار" الفرنسية وصحيفة الأندبندنت" الشهيرة في شهر مارس الماضي (2016) دون أن نذكر العشرات من الصحف العالمية التي غرقت في ديونها التي وصلت إلى الخط الأحمر ولا تنتظر سوى رصاصة الرحمة .. والحبل على الجرار.. وفي المغرب أستطيع أن أزعم أنه لولا المقاهي التي تحرص على توفير الجريدة لزبنائها كنوع من الخذمة المجانية أو كما يقول الفرنسيون un bon de plusلالتحقت الصحف بالمكتبات التي تغلق أبوابها بالعشرات في كل سنة في ربوع المملكة. والحقيقة أنني عندما سمعت من الناشر أن كتب التجميل والشعوذة والدين والطهو هي أكثر الكتب مبيعا ، وأن كتبا فكرية وعلمية وفلسفية وازنة تشكو من الكساد لم استغرب أن يكون هذا هو مصير الكتاب عندنا نحن المغاربة المشهود في الداخل قبل الخارج أننا أمة لا تقرأ ، وأن التقاليد القرائية في المغرب تحديدا معدومة ولم تكن يوما من الذيوع والانتشار ما يجعلنا نتأسف عن واقع الكتاب والقراءة في يومنا الحاضر. ينبغي حقا أن نعترف بأن عصرنا عصر السرعة بامتياز. فقد أصبح الخبر يُنقل على وجه السرعة في المواقع الإلكترونية، وبعض الخدمات التي تقدمها الهواتف الذكية بين الدقيقة والأخرى جعلت القراء ينصرفون عن الصحف التقليدية ومتابعة مواقع الأخبار الوطنية والدولية بشكل منتظم وسريع ودون حاجة ما إلى أن يشرق الصباح ويقطعوا أميالا لشراء الجريدة هذا فضلا عن أن تعميم الأنترنت على تلك الهواتف زاد الطين بلة بالنسبة للصحف وأصبح مستقبلها فعلا في خطر حقيقي. ومن تم فإن الذين يطرحون سؤال مدى حقيقة تأثير الأنترنت (ومعه التلفزيون والفضائيات والراديو) في الكتاب وفي الصحف من عدمه وبدل الاستمرار في طرح مثل هذا السؤال أن يقتنعوا بحقيقة هذا التأثير وقوته بدل إنكاره. أما الإقبال على الغناء والاحتفاء بأبطال "ستار أكاديمي" و "عرب أيدول" وغيرهما من البرامج الترفيهية فيبدو أنها تدفعنا دفعا للإقرار بأننا نعيش فعلا عصر الغناء والأغنية ، طبعا لا نقصد هنا الأغنية الملتزمة ، ولا الأغنية التي تحترم المستمع بكلماتها الموزونة والمؤثرة، وإنما نقصد نوعا من الأغنيات – وما أكثرها – التي لا يشعر المستمع إليها لا باللحن الجميل ولا بالكلمات الجميلة ، وإنما هي أشبه بالضجيج والصخب منها إلى شيء آخر ، فلا كلمات ولا معاني ولا جمال ولا إحساس ، ومع ذلك تجد لها ملايين المعحبين والمعجبات ، لا لشيء إلا أن موسيقىها وافقت قلوبا فارغة تحب أي شيء ، وتهب نفسها لأي شيء، وليست مستعدة لترويض الذوق والشعور على سماع الجميل من الألحان كلاسيكيا كان أم حديثا. ولا يحضرني هنا إلا ما عبرت عنه الروائية الجزائرية حينما كتبت بمرارة وهي تقارن عملها الروائي الشهير "ذاكرة الجسد " بأغنية "دي دي واه" للشاب خالد قائلة :" وصلتُ إلى بيروت في بداية التسعينات، في توقيت وصول الشاب خالد إلى النجوميّة العالميّة. أُغنية واحدة قذفت به إلى المجد• كانت أغنية “دي دي واه” شاغلة الناس ليلاً ونهاراً. على موسيقاها تُقام الأعراس، وتُقدَّم عروض الأزياء، وعلى إيقاعها ترقص بيروت ليلاً، وتذهب إلى مشاغلها صباحاً. كنت قادمة لتوِّي من باريس، وفي حوزتي مخطوط "الجسد"، في أربعمائة صفحة قضيت أربع سنوات في نحتها جملة جملة، محاوِلة ما استطعت تضمينها نصف قرن من التاريخ النضالي للجزائر، إنقاذاً لماضينا، ورغبة في تعريف العالم العربي إلى أمجادنا وأوجاعنا. لكنني ما كنت أُعلن عن هويتي إلاّ ويُجاملني أحدهم قائلاً: "آه.. أنتِ من بلاد الشاب خالد!"، واجداً في هذا الرجل الذي يضع قرطاً في أذنه، ويظهر في التلفزيون الفرنسي برفقة كلبه، ولا جواب له عن أي سؤال سوى الضحك الغبيّ، قرابة بمواجعي. وفوراً يصبح السؤال، ما معنى عِبَارة "دي دي واه"؟ وعندما أعترف بعدم فهمي أنا أيضاً معناها، يتحسَّر سائلي على قَدَر الجزائر، التي بسبب الاستعمار لا تفهم اللغة العربية! وبعد أن أتعبني الجواب عن "فزّورة" (دي دي واه)، وقضيت زمناً طويلاً أعتذر للأصدقاء والغرباء وسائقي التاكسي، وعامل محطة البنزين المصري، ومصففة شعري عن جهلي وأُميتي، قررت ألاّ أفصح عن هويتي الجزائرية، كي أرتاح. لم يحزنّي أن مطرباً بكلمتين، أو بالأحرى بأغنية من حرفين، حقق مجداً ومكاسب، لا يحققها أي كاتب عربي نذر عمره للكلمات، بقدر ما أحزنني أنني جئت المشرق في الزمن الخطأ. ففي الخمسينات، كان الجزائري يُنسبُ إلى بلد الأمير عبد القادر، وفي الستينات إلى بلد أحمد بن بلّة وجميلة بو حيرد، وفي السبعينات إلى بلد هواري بومدين والمليون شهيد … اليوم يُنسب العربي إلى مطربيه، وإلى الْمُغنِّي الذي يمثله في "ستار أكاديمي" … وهكذا، حتى وقت قريب، كنت أتلقّى المدح كجزائرية من قِبَل الذين أحبُّوا الفتاة التي مثلت الجزائر في “ستار أكاديمي”، وأُواسَى نيابة عنها …. هذا عندما لا يخالني البعض مغربية، ويُبدي لي تعاطفه مع صوفيا. وقبل حرب إسرائيل الأخيرة على لبنان، كنت أتابع بقهر ذات مساء، تلك الرسائل الهابطة المحبطة التي تُبث على قنوات الغناء، عندما حضرني قول "ستالين" وهو ينادي، من خلال المذياع، الشعب الروسي للمقاومة، والنازيون على أبواب موسكو، صائحاً: "دافعوا عن وطن بوشكين وتولستوي". وقلت لنفسي مازحة، لو عاودت إسرائيل اليوم اجتياح لبنان أو غزو مصر، لَمَا وجدنا أمامنا من سبيل لتعبئة الشباب واستنفار مشاعرهم الوطنية، سوى بث نداءات ورسائل على الفضائيات الغنائية، أن دافعوا عن وطن هيفاء وهبي وإليسا ونانسي عجرم ومروى وروبي وأخواتهن …. فلا أرى أسماء غير هذه لشحذ الهمم ولمّ الحشود. وليس واللّه في الأمر نكتة. فمنذ أربع سنوات خرج الأسير المصري محمود السواركة من المعتقلات الإسرائيلية، التي قضى فيها اثنتين وعشرين سنة، حتى استحق لقب أقدم أسير مصري، ولم يجد الرجل أحداً في انتظاره من "الجماهير" التي ناضل من أجلها، ولا استحق خبر إطلاق سراحه أكثر من مربّع في جريدة، بينما اضطر مسئولو الأمن في مطار القاهرة إلى تهريب نجم "ستار أكاديمي" محمد عطيّة بعد وقوع جرحى جرّاء تَدَافُع مئات الشبّان والشابّات، الذين ظلُّوا يترددون على المطار مع كل موعد لوصول طائرة من بيروت. في أوطان كانت تُنسب إلى الأبطال، وغَدَت تُنسب إلى الصبيان، قرأنا أنّ محمد خلاوي، الطالب السابق في "ستار أكاديمي"، ظلَّ لأسابيع لا يمشي إلاّ محاطاً بخمسة حراس لا يفارقونه أبداً .. ربما أخذ الولد مأخذ الجد لقب "الزعيم" الذي أطلقه زملاؤه عليه! ولقد تعرّفت إلى الغالية المناضلة الكبيرة جميلة بوحيرد في رحلة بين الجزائر وفرنسا، وكانت تسافر على الدرجة الاقتصادية، مُحمَّلة بما تحمله أُمٌّ من مؤونة غذائية لابنها الوحيد، وشعرت بالخجل، لأن مثلها لا يسافر على الدرجة الأُولى، بينما يفاخر فرخ وُلد لتوّه على بلاتوهات “ستار أكاديمي”، بأنه لا يتنقّل إلاّ بطائرة حكوميّة خاصة، وُضِعَت تحت تصرّفه، لأنه رفع اسم بلده عالياً! مازال ثمَّة مَن يسألني عن معنى “دي دي واه". (انتهى كلام مستغانمي). فهل بعد هذا التوصيف كلام يقال عن مصير الكتاب والصحيفة عندنا. وما عسى أن نقول إلا" لا حول ولا قوة إلا بالله".