كل نظام اجتماعي أو اقتصادي يحمل في طياته تناقضاته الخاصة به. فعلى سبيل المثال، تعتبر ممارسة الجنس خارج الزواج، في بلد كالسعودية، من المحرمات المطلقة، تحت طائلة الرجم حتى الموت. غير أن بعض السعوديين، خصوصاً كبار المفتين والمتحكمين في النظام، يسمحون لأنفسهم بأن يتمتعوا كما شاؤوا، دون أي إزعاج، بالخادمات الفليبينيات أو البنغلادشيات أو المغربيات. في أمريكا، النظام الرأسمالي بامتياز (لا يتعلق الأمر برأسمالية ليبرالية كما يعتقد الكثير، لأن الاقتصاد الأمريكي يعتبر من الاقتصاديات الأكثر حماية في العالم)، يسمح بظهور أشكال من تحولات السوق لمصلحة الطبقة العاملة والأقل دخلاً. وحتى لا يكون الأمريكيون الفقراء (عمال وطلبة) ضحية الجشع الرأسمالي، ابتكر النظام الرأسمالي سوقاً استهلاكية تلائم ذوي الدخل المحدود: من هنا ابتكر الأمريكيون الخدمة الذاتية (self-service) والأكل السريع (fast food) والمساحات الكبرى (Malls)، إلخ. فكرة الخدمة الذاتية في حد ذاتها ابتكار رائع وراءها رغبة المستثمرين في تقديم خدمات في متناول الجيوب الصغيرة؛ إذ في مقهى أو في مطعم، مثلاً، يستغني المستثمر عن جزء من اليد العاملة لتقليص تكلفة الخدمة ومعها تقليص ثمن المنتوج (مثال: في مطعم كلاسيكي يمكن أن تكلفك وجبة غداء 45 دولاراً، وفي مطعم الخدمة الذاتية، يكلفك 10 دولارات فقط. وفي مقهى يمكن أن تتناول قهوة في مكان رومانسي ب 5 دولارات، بينما في السيلف سيرفيس تستطيع أن تتناول القهوة نفسها بدولار واحد). وفكرة المساحات الكبرى أو السوبر ماكت (Mall) هي أيضاً فكرة لبيع المنتوجات للجمهور العريض، فكلما كثر عدد المستهلكين ازدادت المبيعات وانخفض ثمن البيع، لذا فنحن في أمريكا أو أوروبا أو اليابان، نرى إقبالاً كبيراً للعمال والطبقات المتوسطة على المساحات الكبرى على حساب "الحوانيت" التي تتقلص مع مرور الزمن، ولا يلج الحوانيت إلا الميسورون والطبقة البرجوازية؛ حيث إن هذا النوع من التسوق النخبوي يسمى بالفرنسية achats de boutique وفي الإنجليزية Boutique shopping. هذه الابتكارات "الطبقية" في قلب النظام الرأسمالي، التي تتوخى تقليص الثمن النهائي للمنتوج لصالح المستهلك، عندما تنتقل إلى حاضنة جديدة غير حاضنتها الأولى، تتمسخ (se métamorphose) وتتحول إلى نقيض لها. وهكذا، في المغرب مثلاً، يصبح تناول فنجان قهوة في مقهى معولمة (أو مقهى الفرانشيز) تعتمد فكرة الخدمة الذاتية، يكلفك ضعف ما يكلفه لك الفنجان نفسه في مقهى كلاسيكية مريحة حيث يخدمك نادل خاص بدل أن تقوم بخدمة نفسك. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن المطاعم المعولمة (التي تروج للمنتوجات الغذائية السانتيتيكية)، حيث تبيع لك "الكيمياء" بثمن يفوق ثمن المطعم التقليدي ذي الطبخ الإيكولوجي الراقي. أما أسواق المساحات الكبرى، التي تعتبر شعبية (بأثمانها) في أوروبا وأمريكا، فإنها غير شعبية بالمرة عندنا. محلات الفرانشيز والسيلف سيرفيس هنا تسرق المستهلك مرتين: تسرقه في مقابل خدمته الذاتية، وتسرقه في مقابل الثمن الباهظ، مع تقليص فرص الشغل التي تعتبر أهم مبررات جلب الاستثمارات الأجنبية. الغريب في الأمر أن المنتوجات والفضاءات التي صيغت أصلاً للطبقات الشعبية في أوروبا وأمريكا، عندما تنتقل إلى المغرب تتحول إلى فضاءات نخبوية. عكس ذلك تماماً، فما يسمى بالتسوق من الحانوت achats de boutique، يعتبر سلوكاً خاصاً بالطبقات الفقيرة ولا يليق بالطبقات العليا. لقد تحول ما كان ضرورة طبقية في أمريكا وأوروبا إلى نوع من الموضة والخيلاء المرتبط بسلوك طبقاتنا المتوسطة والبرجوازية، بما في ذلك المتزمتون دينياً. المسألة لا تقف عند هذا الحد، فحتى المستثمرون الأجانب، عندما يحوّلون جزءاً من صناعتهم إلينا، يتعاملون معنا بمكيال غير المكيال الأصلي الذي يميز علاماتهم التجارية في بلدهم الأصلي. سأورد هنا حالتين: الحالة الأولى للعلامة التجارية زارا (Zara)، هذه العلامة مرتبطة بمستثمر إسباني ذي أصول طبقية فقيرة جداً، أصبح ثاني أكبر أغنياء العالم (ثروته تجاوزت 70 مليار دولار). بدأ صديقنا الإسباني استثماره بحانوت واحد وأصبح الآن يدير 5500 محل تجاري في مختلف أرجاء العالم. فكرة نجاح مالك زارا ثورية للغاية: توفير ملابس بأقل الأثمان للجميع. وعندما انتقلت زارا إلى المغرب (محلان تجاريان في الدارالبيضاء)، فرضت على السوق المغربي أثمنة تصل ضعف المنتوج نفسه الذي يباع في إسبانيا، مع العلم أن صناعة هذه الملابس تتم في المغرب بيد عاملة مغربية رخيصة. تأملوا هذه المفارقة: منتوج يصنع في المغرب بتكلفة منخفضة (نتيجة تدني الأجور والهروب من أداء الواجبات الاجتماعية) يباع في إسبانيا (+ تكاليف النقل) بثمن أقل بكثير من الثمن الذي يباع به في المغرب. إليكم بعض الأثمنة لملابس نسائية (يتعلق الأمر بالمنتوج نفسه): معطف: ثمنه 49 أورو في مدريد بينما في الدارالبيضاء ثمنه 799 درهماً قميص: ثمنه 22.95 أورو في مدريد بينما في الدارالبيضاء ثمنه 349 درهماً تنورة: ثمنها 39 أورو في مدريد بينما في الدارالبيضاء ثمنها 599 درهماً الحالة الثانية مرتبطة بالعلامة التجارية فاغور (Fagor)، هذه العلامة خاصة بمنتوجات الأجهزة المنزلية التي تنتجها معامل تعاونية موندراغون بإسبانيا (لها عدة معامل في المغرب من بينها معمل فاغور للأجهزة المنزلية). هذه العلامة؛ أي فاغور (ثلاجات، آلات غسل، مطابخ، إلخ) تبيع المنتوج نفسه في المغرب بثمن يصل إلى ضعف ثمنه في إسبانيا، مع العلم أن الشركة التعاونية الأصلية توفر تكاليف كبيرة أثناء الإنتاج والتوزيع نظراً لانخفاض تكلفة اليد العاملة المغربية (هنا مفارقة صارخة: حيث العامل يتقاضى على الأقل 1500 أورو في الشهر، يباع منتوجه بنصف الثمن الذي يباع فيه في المغرب، حيث العامل لا يتعدى 250 أورو في أحسن الأحوال). بقيت مسألة أساسية في كل هذه المفارقات: المستثمرون الإسبان الذين يحققون أرباحاً كبيرة في المغرب (على حساب العمال والمستهلكين معاً)، يساهمون في الرفع من اقتصاد بلدهم وفي تحقيق مزيد من التضامن الاجتماعي: مالك زارا مثلاً يساهم حالياً بمبلغ 57 مليون أورو لبناء مصحات وتوفير تجهيزات لتتبع 225.000 مريض بداء السرطان؛ وتعاونية موندراغون، التي تحقق أرباحاً مهمة في المغرب، تساهم في الرفع من المستوى الاجتماعي والاقتصادي والتربوي لعمالها ومنخرطيها في إسبانيا، دون أن يستفيد العمال المغاربة من الامتيازات نفسها لأنهم مجرد عمال وليسوا عمالاً متعاونين. ترى هل يستفيد المغرب والمغاربة بدرجة استفادة إسبانيا نفسها من الاستثمارات الكبيرة لكمشة من أثريائنا في إفريقيا والإمارات وهونج كونج وأوروبا وأمريكا؟ ترى هل يحذو كبار أثريائنا حذو مالك زارا ويخصصون جزءا من ثروتهم للتضامن مع المغاربة الفقراء؟ أم إن الاستثناء المغربي فعلاً قاعدة عامة؟ *أستاذ جامعي