يرتبط الجواب عن هذا السؤال بسؤال تركيبي آخر يتعلق بمعرفة أيهما أولى ضمن هذا الموضوع، هل الولاء للوطن أم الولاء للحزب السياسي ؟ للتذكير فقط، ظل المغاربة منذ أن وطأت أقدام المولى إدريس الشريفة هذه الأرض المباركة، يدينون بولائهم للوطن وبإخلاصهم لله ولرموز الدولة الشريفية الثابتة، وبعد أن تسربت إلى جسم دولتنا العريقة جمرة الاستعمار الخبيثة بسبب الدعم التي كانت أمتنا تقدمه بشكل متواصل للثورة المدنية التي قادها الأمير عبد القادر بالجزائر الشقيقة، تحوَّل تكتل المغاربة إلى تنظيم جديد قادته بعض الأسر التي كانت قد أدركت بسرعة أهميته ومزاياه، فاستحوذت عليه، وسلبها حب الوطن، فبجلته إلى درجة التقديس. وبعد أن شارك الجميع في مقاومة الاستعمار، واستقل الشعب تحول التنظيم إلى " حزب سياسي " حاول السيطرة على دواليب الدولة، وبدأ بالتدريج ينتقي عناصره بدقة، في الوقت الذي بقيت فيه بقية المجتمع، متشبثة بولائها للوطن، وبإخلاصها للملك، دون التصريح لا علنية ولا ضمنيا برغبتها في السلطة، على اعتبار أن مقاومة الاستعمار كانت ولازالت من خصائص المواطنة الملتزمة، على عكس الكثير من رفاق نضالهم، الذين رأوا ومن حقهم ذلك، أن خوض المقاومة لم يكن بسبب الولاء للوطن فقط، وإنما كان أيضا بهدف الوصول إلى السلطة. في تلك الفترة، كانت الأسر المذكورة قد تأثرت فعليا بمفهوم " الحزب " الذي أكثر موريس دو فيرجي في شرحه في كتابه " الأحزاب السياسية "، علما أن بنجامان كونستان [1816] كان قد عرف الحزب بأنه " اجتماع لرجال يعتنقون العقيدة السياسية نفسها "، وعلى دربه سار دافيد هيوم في كتابه " محاولة حول الأحزاب "، لكنهم أجمعوا على أن هدف الأحزاب هو الوصول إلى السلطة، شريطة أن يكون للحزب عقيدة يعتنقها أعضائه بهدف تجميعهم، وهو شرط ينتهي بتحويل هذا التكتل إلى تنظيم سياسي على الجميع الذوبان فيه حتى التقديس، وهو ما تجسده فكرة " الالتزام بما يقرره التنظيم " ولو كان يتعارض مع المصلحة العليا للوطن. وبهذه الطريقة تحول ولاء المتحزبين من الوطن إلى الحزب السياسي، وهذا أمر طبيعي لأن الوطن في هذه الحالة، يصبح هدفا لتحقيق المصالح الخاصة [ مصالح الأقلية المتحزبة ] على حساب المصلحة العامة [ مصلحة الأغلبية الساحقة ]، وهو ما أسهم في خلق صراع دائم بين الأقلية المحظوظة، والأغلبية المسحوقة. أي بين طبقتين. للأسف ليس في المغرب، لا المفهوم الماركسي للحزب، ولا المفهوم الليبرالي له، بل لدينا مفهوما خاصا للحزب، هو الحزب/المقاولة، وهو تنظيم كما عشناه ونعيشه طبقا لواقع الأمور منذ أن عرف المغرب مفهوم الحزب، يشبه إلى حد ما، " شركة عائلية " توسعت عبر المصاهرة والقرابة بهدف الوصول للسلطة قصد احتكار ومواصلة الاستيلاء على الوظائف والمرافق والمؤسسات العمومية الحساسة، مما أنساها التفكير في المصلحة العامة. وللتذكير، لم تكن أهداف وطبيعة هذه التنظيمات العائلية خافية على القصر الذي احتضن وقاد ثورة الملك والشعب، وإنما كان الملك الحسن الثاني قد انتبه إليها، فتعامل معها بطريقتين: أولا ذكَّرها بأن الثورة هي ثورة الملك والشعب حين قال ما يفيد إنه لما عاد الملك محمد الخامس من منفاه السحيق، لم يدخل المغرب على عربة حزب من الأحزاب، وإنما دخله محملا على أكتاف أبنائه البررة؛ ثانيا حاول رحمه الله أن يعقلنها بجعلها مدرسة وطنية تواصل تطوير الممارسات التي اكتسبها المجتمع ضمن إطار ثورة الملك والشعب، فأدمج ضمن دستور 1962 مفهوم الحزب/المدرسة، تلك المدرسة التي حافظ عليها دستور 2011 من خلال فصله السابع الذي ينص على أن : " تعمل الأحزاب السياسية على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي...إلخ". للأسف لم تقم الأحزاب بهذه المهمة لا حاليا ولا في الزمن الماضي، لأن الجشع والتفكير في المصلحة الخاصة أنساها أسباب النزول، بل أصبحت طبقا لواقع الأمور، تعتقد أنها دولة داخل الدولة، وأنها قادرة على قلب الموازين في أي لحظة، وهو شعور خاطئ يشبه إلى حد ما، شعور " الذب المغرور بنفسه "، لأن بعضها لم يعد يستحيي لا من نفسه، ولا من المجتمع، بل لم يعد تستحيي حتى من الدولة نفسها ! بطبيعة الحال، من سمع أو قرأ الخطاب الملكي ليوم 30 يوليوز 2016، سيدرك حجم " طلوع الدم والنرفزة السامية " من سلوك أحزابنا الوطنية خلال السنوات الأخيرة، ذلك أن الملك حين يقول في مناسبة لها دلالة دستورية عميقة [ تجديد البيعة = تجديد العقد الاجتماعي بين الملك والأمة ] : " إننا أمام مناسبة فاصلة لإعادة الأمور إلى نصابها : من مرحلة كانت فيها الأحزاب تجعل من الانتخاب آلية للوصول لممارسة السلطة، إلى مرحلة تكون فيها الكلمة للمواطن (...) فالمواطن هو الأهم في العملية الانتخابية وليس الأحزاب والمرشحين "، فمعنى ذلك، أن مهمة الأحزاب السياسية موضوع الفصل 7 من الدستور، سقطت بعدم تفعيلها في الواقع، وبسقوط هذه المهمة تكون الأحزاب قد فقدت شرعيتها واقعيا وفقدت احترام واعتراف الدولة لها وإن كانت دستوريا موجودة. إن عبارة " إننا أمام مناسبة فاصلة لإعادة الأمور إلى نصابها ..."، تفيد طبقا لما سيأتي من الزمن، أن تنظيمات مدنية قيد التشكل نظريا في الوقت الراهن، سوف تكلفها الدولة بمهمة تفعيل الفصل السابع من الدستور، أي تأطير المواطنين والمواطنات، وهي المهمة التي يرتبط تفعيلها واقعيا، بتأهيل المجتمع. وبالتالي، إذا جاز القول إن المجتمع يتألف من الناخبين وغير الناخبين الذين يشكلون الأغلبية الساحقة والمسحوقة في المجتمع، فإنه من المحتمل أن تكون المناسبة على أشدها مستقبلا، بين أشخاص منتمين لأحزاب سياسية، وأشخاص ينتمون إلى تنظيمات مدنية جديدة، وسوف ينظر إلى المنتمين حزبيا على أنهم يشكلون نوعا جديدا من " الخوالف " لكونهم تخلوا بشكل إرادي عن ولائهم للوطن، واستبدلوه بولائهم للحزب السياسي شأنهم في ذلك شأن من تنكر لأمه واعترف بأن أمه هي البقرة لأنها تعطيه الحليب كل يوم. ولكن السؤال دائما هو من سيتولى رئاسة الحكومة مستقبلا ؟ خلال الثلاثين يوما الأخيرة، تبين من خلال استطلاع للرأي العام في جهة مراكشآسفي، أجريناه مع ثلة من طبقتنا الشعبية المسحوقة شملت حوالي 1000 من المستضعفين، أن المستطلعين يدركون بأن المنافسة ستكون بين حزب المصباح وحزب الجرار، وأنهم على علم أيضا بأن بعض الأشخاص سيترشحون باسم أحزاب أخرى بدعم إما من قبل الحزب الأول أو الحزب الثاني على أساس أن ينضم الشخص المدعوم إلى هذا الحزب أو داك عند الحاجة. وما يثير الانتباه هو أن هناك شبه اتفاق بين المستطلعين على أنهم لن يصوتوا لفائدة من وعدوهم في استحقاقات سابقة وخانوا وعدهم، وأن شريحة كبيرة منهم قَسَمَتْ بأنها سوف تصوت لأحزاب أخرى إذا رشحت شخصيات تلتزم بالعمل لأجل المصلحة العامة. ونستنتج من هذا الاستطلاع، أن ما حصلت عليه الأحزاب المعنية سابقا، سوف يتقلص بمعدل الثلث، والذي سوف يتوزع على الأحزاب الستة المذكورة، أي أنه لا حزب المصباح ولا حزب الجرار سيحصل على الأغلبية، مما يفسح المجال أمام السيناريوهات الآتية: - السيناريو الأول: سوف يحصل حزب المصباح على مقاعد يقل عددها أو يساوي ما سوف تحصل عليه أحزاب الميزان، والوردة، والحمامة، والكتاب، والسنبلة، والحصان. - السيناريو الثاني: سوف يحصل حزب الجرار على مقاعد يقل عددها أو يساوي ما سوف تحصل عليه أحزاب الميزان، والوردة، والحمامة، والكتاب، والسنبلة، والحصان. - السيناريو الثالث: سوف يتصدرا حزب الجرار وحزب المصباح بشكل متساو انتخابات أعضاء مجلس النواب، بفارق بسيط عما سوف تحصل عليه أحزاب الميزان، والوردة، والحمامة، والكتاب، والسنبلة، والحصان. وسوف تكون النتيجة المحتملة هي استحالة ولاية ثانية لحزب المصباح، وصعوبة ترأس حزب الجرار للحكومة المقبلة، مما يحيل على احتمالين: إما أن يترأس الحكومة شخص من تكتل الأحزاب الستة المذكورة، لكن من سيحظى منهم بالإجماع ؟ أو يترأس الحكومة شخص تيقنوقراطي وهو احتمال وارد، لأنه حتى في حالة تصدر كل من حزب المصباح وحزب الجرار انتخابات مجلس النواب المقبلة، فإنه سيبقى مهددا بسحب الثقة موضوع الفصل 103 من الدستور، مما يعني أن رئيس الحكومة المقبلة، سوف يعين من خارج الأحزاب السياسية، وهنا سيدخل المغرب مرحلة جديدة، سوف تضطر معها الأحزاب السياسية إلى التفكير جيدا في ما أسماه الملك محمد السادس بالقطبية السياسية. *أستاذ التعليم العالي مساعد القانون الاقتصادي الدولي والأوروبي