شغلت المرأة اهتمام المفكرين والفلاسفة على مر العصور، بل يمكن القول إنه ما من موضوع أخذ قدراً من الاهتمام مثل موضوع المرأة وما يتعلق بها، ودار الجدل حول كل ما يتعلق بالمرأة من حقوق وواجبات وأدوار، بل وصل هذا الجدل أحياناً حول شخص المرأة وطبيعتها، وفي مجتمعاتنا تُثار من حين لآخر تلك القضايا، وتُطرح قضايا عمل المرأة ومشاركتها في الحياة السياسية، وحقوقها الاجتماعية وغير ذلك من حقوق عامة. ويمكن لكل متابع لهذا الشأن أن يشهد ما تطرحه تلك الآراء من وجهات نظر متباينة، يبقي بعضها على المرأة رهينة لبيتها، ودورها محصوراً داخل جدرانه، ولا يسمح إلا بالنذر اليسير من الحقوق للمرأة تتناسب مع دورها المحدود، والبعض الآخر يعطي المرأة الحق باقتحام كافة المجالات في مساواة تامة مع الرجل، وبين هذين الوجهتين من يرى للمرأة أدواراً خاصة بها ولكن هذا لا يمنعها من المشاركة في بعض الميادين ولعب العديد من الأدوار في الحياة العامة، ولكل طرف من تلك الأطراف حجته وأسانيده من ضوابط وضعها الدين أو ظروف رسمتها التغيرات الاجتماعية والثقافية المعاصرة. هذه الآراء المتباينة نجد لها صدى في مجتمعاتنا العربية المعاصرة، التي لا يمكن الجزم بأنها تتعامل مع المرأة قانونياً وتشريعياً بنفس الشكل، فقد نالت المرأة حقها في التصويت والترشيح للمجالس النيابية في العديد من الدول العربية، وتقلدت مناصب وزارية، بينما لا تزال امرأة أخرى ممنوعة من قيادة السيارة... للحديث عن موضوع المرأة، لا مناص من التطرق لأهم البراديغمات التي قاربت الموضوع بمخلف تَلاوينها وتشعباتها (الأسطورة، الدين، الخطاب...). _ مكانة المرأة في البراديغم الأسطوري: "أيتها المرأة، يا ملكة الخطايا، أيتها العظمة الدنيئة، أيها الخزي الرفيع" هذه الجملة عبّر عنها "شارل بودلير" في مطلع إحدى قصائده بديوان "أزهار الشر"، جملة تختزل الثنائيات المتناقضة؛ ملاك محفوف بالخطايا – عظيمة لكنها دنيئة- خزي وعار دال على كل ما هو وضيع ورديء غير أنه متسامي، متعالي ورفيع... إن المتتبع للكتابات الأسطورية والفلسفية والدينية والأدبية... يجد أن المرأة شغلت حيزا ممتدا ومعقدا في الثقافات البشرية عموما، ابتداءً من تحميلها عبء الخروج من الجنة في بداية الخلق، إلى الزمن السلعي الذي كثرت فيه الدعوات النفعية الشكلية لتحرير المرأة والدعوة لتحقيق المساواة بين الجنسين. والمتفحص لبنية الخلفيات التي شكلت المرأة في صورة جنس آخر ضعيف، سلعي، شرير ومقدس... هي خلفيات حركية المجتمعات الذكورية نفسها، التي اعتمدت في سياقات متعددة النصوص الخرافية والأسطورية، والنصوص الدينية وأدبياتها، والبنية الجسدية للمرأة وما تفرضه من أدوار إنتاجية ثانوية، والفلسفات والثقافات وأفكار التصوف والأمثال الشعبية والحاجات الجنسية والعاطفية... هذه الخلفيات انطلقت في مجملها من تهميش المرأة وتشييئها لصالح بناء قوة شخصية الرجل"الفحل" وتسييده على المرأة. وللمرأة دور كبير في نشوء الأساطير، ولكن الدور الذي أعطي لها كان على الأغلب شريرا. لن نذكر هنا أساطير العالم، بل سنكتفي بأسطورة يونانية تروي أصل الشر. وهناك أكثر من قصة لأنثى تدعى باندورا، هذه الأسطورة توضح بشكل جلي مكانة المرأة كرمز للغواية والانتقام وجلب اللعنة. في أولى هذه السيناريوهات تُعتبر باندورا أول كائن أنثى مارست الغواية لاستدراج شقيق زوجها. وبهذا تكون باندورا أول كائن أنثى حل بالعالم من أجل تنفيذ مؤامرة انتقامية فجرها امتلاك البشر للنار المقدسة، فحلت لعنة زيوس على البشر بشكل أنثى. والسيناريو الثاني يقول بأن باندورا كانت سبب في توزيع الشرور حينما سقطت الجرة الإلهية من يدها، وأخذ الناس ما شاءوا، منهم الشر ومنهم الخير. والثالث يخبرنا أن المرأة هي سبب أوجاع وآلام العالم كله، وذلك لأن الناس في اعتقادهم كانوا يعيشون في أفراح ولا يعرفون معنى الألم ولا الحزن، لكن حدث أن الآلهة أودعت أحد الناس صندوقا وأمرته بعدم فتحه، وكان له زوجة تسمى باندورا مازالت تغريه بفتحه حتى فتحه فانطلقت منه فراشات وخفافيش،ومنذ تلك اللحظة أصيب الناس بالآلام والأحزان،فكانت المرأة سببا في الكوارث التي حلت بالبشرية كلها نتيجة لفضول المرأة وإغراء زوجها بالعصيان. ففي الأساطير القديمة عدت المرأة «موضوع تحريم وأصل الخطيئة، يمكنها أن تكون أي شيء ما عدا أن تكون إنسانا تاريخيا، لها وضع اجتماعي وسياسي وثقافي، أو لها أي امتداد من شأنه أن يؤسس عميقا لهويتها التي غابت عنها طويلا، وتغيب وسط القيم الذكورية/ الأبوية المهيمنة على كافة أشكال السلطة والقوة رغم ما تحفل به بعض الأساطير من نماذج نسائية فاعلة، فقد حظيت المرأة بأدوار قيمية في العديد من النصوص الأسطورية الرّبة والآلهة، وهي الفاعلة والمسيطرة وهي صاحبة القوى الخارقة وهي فوق كل ذلك المعشوقة، وآلهة الحب والجمال والخصب... وقد ألف الفلاسفة التقليل من شأن النساء والسخرية منهن زمنا طويلا، اعتقادا بأنهن كائنات متدنية شريرة، لا تصلح لأي شيء غير الأعمال المنزلية والجنس... فاتخذوا منهن موقف الاحتقار والدونية والتهميش، وأُلحقن بالعبيد، «فنجد استبعاد أرسطو لفئات معينة من المجتمع من ممارسة تجربة التفلسف، العبيد والنساء عندما نظر إلى هاتين الفئتين على أنهما شكل من أشكال الملكية للرجل السيد. واستمر رسم المرأة ونقشها في صور خيالية توارت عليها الأزمنة حتى ترسخت وكأنما هي الشيء الطبيعي. وفي هذه الصور جرى تضخيم الجانب الحسي في المرأة إلى أن تحولت إلى مجرد جسد شبقي ليس له وظيفة سوى إثارة الرجل وإغرائه، كما جعلها حمورابي حقا مملوكا للرجل يرهنها ويبيعها حسب شريعة هذا القانوني "الفحل". وجاءت المنحوتات القديمة في بلاد الرافدين مصورة للمرأة على أنها جسد جنسي تبرز فيه الأعضاء الجنسية دون سائر الأعضاء. عندما سجل الإنسان القديم بكتاباته أحداث عصره وأساطيره ومعتقداته كان قد مر على الإنسانية مئات ألوف السنين ولا تستطيع الذاكرة الجماعية أن تعرف إلا أوضاعا قريبة من عهدها لّفتها الأساطير التي نسجت حولها كملخصات رمزية تنتقل من جيل إلى جيل. إن الإنسان حتى اليوم وبالرغم من تقدمه في العلم وحصيلته في التجارب وتسجيل خبراته والكشوفات الأثرية التي أصبحت في متناوله غير قادر على اختراق الغيب ليعرف البدايات. إن هذا الغيب هو العماء والظلمة الأزلية الذي يعجز العقل عن سبر غوره وتحديد زمنه ومعرفة هوية خالقه أو المادة البدائية التي انبثقت منها مظاهر الكون. ولهذا لا نجد في أساطير الخلق البابلية والكنعانية والمصرية واليونانية والرومانية اله يدعي انه خالق الكون وانه العلة الأولى. ولكن هناك إله هو كبير الآلهة في فترة زمنية معينة. وهذا الإله غير منفصل عن باقي الآلهة. انه أحد الظواهر الطبيعية التي عبدها الإنسان في مرحلة الثقافة الذكورية. ففي مصر مثلا كان الإله الأكبر هو رع أو أتون اله الشمس، بينما الشمس في الأساطير الكنعانية كانت أنثى وهي مجرد رسول بين الآلهة. من زاوية أخرى عاشت المرأة ردحا طويلا لا يعرف مداه في وضع متميز. فالآلهة في أساطير كثير من شعوب الحضارات القديمة كانت في البدء أنثى: ايزيس، الأم الكبرى، تعامة، اينانا، عناة، عشتار أفروديت، سيبيل، هيرا، جونو، ديميتر، أرتيميس، وأتينا إلهة الحكمة. رغم ذلك لم تكن الأسطورة سوى محاولات إنسانية مبكرة لتقديم تفسيرات لواقعه، وللإجابة على ما يجري من حوله. إلا أنه لم يلبث إلا أن اهتدى إلى الفلسفة التي استطاعت تحجيم الفضاء الأسطوري، ثم جاءت مناهج العلم الحديثة الصارمة لتدك ما تبقى من حصون الأسطورة، لما تنطوي عليه الأخيرة من عناصر غيبية تتهاوى أمام العقل. لكن القفزات الفكرية للعقل البشري لم تلغِ وللأبد ما تبقى من الأساطير، والتي وإن تحللت فقد تسربت بشكل أو بآخر إلى لا وعي إنسان، الإنترنت والعولمة والغزو الفضائي. وعلى أي حال، فإن طغيان الأسطورة يرتبط عكسياً بمدى تقدم العلم. فالمجتمعات المتحضرة تنزّل الأسطورة إلى مستوى الحكاية المسلية التي لا بأس من استعادتها من وقت لآخر، فيما المجتمعات الأقل تحضراً لا تكف عن بلورة سلوكياتها ومناهجها في التفكير حول أساطيرها التي ورثها الأسلاف. لذا ظلت مركزية الذكر في الثقافة الإنسانية وهامشية الأنثى رغم كل النتائج العلمية الحاسمة فكرة محورية مسيطرة على الوعي البشري، بموجبها يمكن القول أنه تم ذَكْرَنَة الوعي الإنساني إلى حد اعتباره مسألة مشروعة وطبيعية... إشارة: في مقام آخر إن تسنى ذلك، سيتم إيراد التطور الكرونولوجي لمكانة المرأة على مستوى البراديغم الثيولوجي، ثم على مستوى اللغة والخطاب.