مع اقتراب أي استحقاق انتخابي في المغرب ترتفع حرارة قاعات المكاتب السياسية للأحزاب وتعلو روائح الحريق، وكأن قِدر البرنامج الانتخابي نُسي على نار الصراعات الداخلية، من أجل منح التزكية والترشح في دوائر بعينها ربما قد ينال المراد ويستقر بهم المقام مستلقين على كراسي مخملية في مرتفعات قاعة البرلمان. واستعدادا لهذه المواقف يشحذ كل حزب ألسنة خطبائه ووجهائه، وينتشر الحشد على كل وسائل التواصل بمختلف أشكالها وألوانها. منهم من ينشر أفكارا مكررة للحزب من مبادئ وأحداث يعاد صياغتها بصورة أو نص جديد يلائم السياق، ومنهم من يقصف خصما معينا وينعته بكل أنواع الفساد والكذب والدجل، ومنهم من يفجر فضيحة ما لتصفية حساباته. لكن المتتبع يقف أمام ظواهر يعجب لها العجب وتطيش لها الأذهان، فقد صرنا من الرواد في الميدان بالرغم من أن مستوانا لم يرق بعد إلى مصاف الآلة الدعائية المصرية أو المبارزة المباشرة القذرة الأمريكية. فحين تفتح صفحات الجرائد تجد أن البعض يكيل التهم للبعض الآخر، منهم من يتهم حزبا آخر بالتحكم وبكونه يدا مخزنية، ويأتي حزب آخر يتهم الحزب الأول بكونه حزبا متحكما بدوره ويتاجر في الدين، غير أن حزبا ثالثا يعلن أن حصيلة الحكومة أصفار متراكمة، ورابع يتهم حزبا بكونه أتباع تنظيم عالمي إرهابي يهدد الأمن والسلام في العالم. وفي خضم هذه الدوامة، يقوم حزب آخر بالدفاع عن أحزاب أخرى لأنها استحقت ثقة صاحب الجلالة وأنها تعمل وفق توجهاته وتحت قيادته! حين تتابع النعوت التي كالها كل أمين عام للأخر تجد ما يندى له الجبين، انطلاقا من الاستعمال المفرط للحشو واللمز، إلى إدخال مصطلحات غريبة عن الخطاب السياسي يلوكها الأمناء العامون، وتمسكها الصحافة لتزكم بها أنوف القراء من قبيل: اسكوبار، داعشي، الشيطان ومول شيء ما، وزوج فرنك، وروبي والحمار، وما إلى ذلك، حتى صار بعض السياسيين ينعتون على صفحات الجرائد بألقاب قدحية في كل مناسبة تعوض أسماءهم الحقيقية عند العامة والذين يتداولونها كمنطوق سياسي رائج ومقرف. في الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي حين صرخ دونالد ترامب قائلا إن بيرني سندرس باع روحه للشيطان، وهو يقصد بالكلمة الأخيرة خصمه هيلاري كلنتون، قامت الدنيا ولم تقعد في الولاياتالمتحدة، وعاب كل الساسة والمحللين السياسيين تدني مستوى ترامب، مما أفقده نقطا ثمينة في استطلاعات الرأي جعلته يتعلل بتقديره الكبير للمرشح الديمقراطي السابق كخطوة منه لكسب ود الديمقراطيين والمتتبعين. يضاف إلى ذلك اللغط الكبير جدا الذي أحدثته دعوته للروس ليقرصنوا حساب هيلاري كلنتون ليجدوا 33000 "ايمايلا" مفقودا من "سيرفراتها" أثناء توليها حقيبة الشؤون الخارجية، لغط جعل مكتب التحقيقات الفيدرالي يباشر أبحاثه بعد تعرض حساب الحزب الديمقراطي للقرصنة باحثا احتمال حدوث ذلك بناءا على تحريض من ترامب، وهو ما قد يعرضه للمساءلة القانونية. خطابنا السياسي بالمغرب بات تراشقا بالألقاب والتهم غير المبنية على أرقام ووقائع قانونية ثابتة بقدر ما تبنى على تناقضات يعيشها المواطن محدود الدخل، وما يعانيه من مشاكل اقتصادية واجتماعية مرتبطة أساسا بضعف الخدمات المحلية وبطء التنمية المحلية، وأحيانا كثيرة بغياب أي امتيازات تخفف عنه غلاء الأسعار وكثرة الضرائب، وكأن لسان الحال يجعل من سياسيينا مخلوقات فضائية لم تعرف من مشاكل المغاربة إلا ما يكتب على صفحات ويكيبيديا، وهو أمر تكرس أكثر باكتشاف أن ألد خصوم المخزن بالماضي والمتشبثين بخطاب الكادحين والمقهورين هو من أوائل المستفيدين من امتيازات ما أصطلح عليه بقضية خدام الدولة. الخطاب السياسي المتدهور بالمغرب لم يقف عند حدود الشعبوية في التعامل مع القضايا ارتباطا بالحكومة أو المعارضة، بل تجاوزه إلى إقحام رمز البلاد وضامن وحدتها، فصار مزاج صاحب الجلالة باروميترا سياسيا ينزل قياديا سياسيا درك المهانة والويل، ويرفع قياديا آخر مراتب أصحاب الكرامات والعطايا. فصرت تقرأ على صدر جريدة أن الملك غاضب من السياسي فلان ولذلك لم يكن ضمن مدعوي المناسبة الفلانية، وأن آخر يشاطره الملك مائدة إفطاره، وحين يصعد زعيم سياسي منبر خطابة تجمع حزبه أو ندوة في فندق ما يشير بكل سهولة ودون ما اتزان إلى أن الملك غاضب من فلان لأنه لم يفعل كذا وكذا، وأنه صار قاب قوسين أو أدنى من الدخول في غياهب النسيان، وأن التاريخ سيذكر له غضب الملك كآخر إنجاز أنهى به مشواره السياسي، ثم يصعد السياسي الآخر ليعلن أن الملك ليس غاضبا وأنه لو كان فعلا كذلك ما بقي هو على كرسي طرفة عين. وهنا يقبض بتلابيب هذا الإقحام ويفرق دمه بين قبائل الصحافيين وحركات نضال "فيسبوك" وأصحاب "الترول" السياسي، وهو أسلوب خطابي مضلل، كما حدث حين تم التصويت على رفع سن التقاعد، يغطي على المشكل الحقيقي لجل سياسي البلد، وهو افتقادهم للكاريزما وغلبة ثقافة الشخصنة وتمجيد الأفراد ومناقشة سلوكهم وأمزجتهم وحياتهم الخاصة، بدل نقاش المشاكل الحقيقية وتقديم حلول ضمن دائرة نفوذهم السياسي عبر التصويت ومقترحات اللجان وتقديم الملتمسات، وكذا برنامج الحزب الذي يصبح جدول أعمال لما سيقدم عليه حين يتولى المسؤولية. وصرنا نرى أن حملات عديدة تم الترويج والتجييش لها في الفضاء الأزرق أكثر تأثيرا وأقوى أثرا من مواقف أحزاب وصراخ أمنائهم العامين. وهو أبلغ رسالة حول مدى الشرخ الذي صارت تعيشه الممارسة السياسية بالبلد، بين واقع معاش بكل حيثياته وتجلياته وخطب سياسية تتخذ طابعا سرياليا لسياسيين أقرب إلى المهلوسين منهم الى منفصمي الشخصية. وهنا أفتح قوسا حول الدراسة الوطنية للصحة النفسية للمغاربة، والتي كانت جد متشائمة وتدق ناقوس الخطر حول مستقبل أجيال بأكملها تعيش عبث مسؤوليها السياسيين وتخبطهم بدون محاسبة ولا ردع. من الأجدر إذن تأهيل المشهد السياسي المغربي بلغة واضحة مفيدة تنبعث من أرض الواقع وتروم الإصلاح والتحديث، وتشريح مواطن الخلل وحقنها بالعلاج الضروري لبث أكسير الحياة داخل العقل السياسي المغربي ليرى مستقبل البلد وليس مستقبل عضو الحزب أو القيادي السياسي، وليدفع بآليات الحكامة لتبوئ المغرب المكانة اللائقة به على مستويات السياسة والبرامج التنموية العمومية وترفع من مستوى ثقة المستثمرين والمؤسسات الدولية، فيكون مستقبلنا، ككلامنا، واثقا، واضحا ومزدهرا. *مركز الرباط للدراسات السياسية والاستراتيجية