تفتخر المجتمعات الغربية بما وصلت إليه من حداثة وانفتاح على الآخر وتقبل للثقافات والأجناس المختلفة. ويتقاسم معها هذا الفخر كل مواطن عالمي يتمنى أن تتحقق الوحدة في التنوع وأن يسطع نيّر الاتفاق في الآفاق. لكن بضع عمليات إرهابية نفذت بشكل عشوائي في بعض المدن الأوروبية كانت كفيلة بزعزعة هذا الاستقرار الفكري والعقدي وبأن تهدد هذا السلم الاجتماعي الذي ساد حتى الآن بين الأعراق والديانات المختلفة. أنت اسمك محمد فأنت مشروع قنبلة... أنت لونك قمحي فأنت خطر محتمل... هذه الفتاة التي ترتدي الحجاب لا يجب أن تتواجد معنا في "المترو" هكذا بلا حياء وكأن شيئا لم يحدث، ألا تخجل مما فعله بنا من هم على دينها... هذا الشخص القادم من الضفة الجنوبية بلحيته المقلمة يجب تفتيشه جيدا فأمثاله هم من قاموا بكل هذه العمليات الإرهابية... نظرات الريبة والحذر تتربص بك في كل ركن وكل زاوية وتفعل بك ما فعله الرصاص في ليلة دامية... هذا هو حال المجتمعات الغربية في هذه الآونة، إرهاب في كل الاتجاهات !! فمن يتحمل المسؤولية في هذه القضية؟ ومن هو المذنب حقّا ومن هي الضحية؟ على الأقل يدلنا هذا التناقض الصارخ بين شعارات الانفتاح والديمقراطية وحقوق الإنسان وبين مظاهر العنصرية والعنف والإرهاب المضاد على مدى حاجة الإنسانية إلى تعلُّم دائم ومستمر لمبادئ العيش المشترك. فهذه الظاهرة المعقدة وإن كان ظاهرها تعصُّب واضح لا يحتاج إلى تبرير أو تحليل إلا أنها في الحقيقة تقع في منطقة تماس بين مساحة التديُّن وحدود التعايش بين المجتمعات الدينية. نحن نفهم من التديُّن عامة الالتزام بالأحكام والمحافظة على الشعائر والطقوس الدينية وجعل الدين مرجعا في السلوك والمعاملات. غير أنه مفهوم حساس جدا ولا يسهل اختزاله وربطه بجانب من جوانب الدِّين المتعلق بالعبادات وإغفال بقية الجوانب الأخرى. مما يقودنا إلى التساؤل عما نفهمه من تعبير "الدِّين" وتأثيره على الهوية الفردية والجماعية في عالمنا المعاصر. فمفهوم الدِّين فضفاض جداً وما نعرفه عنه إجمالا هو كونه مصطلح يطلق على مجموعة من الأفكار والعقائد التي توضح الغاية من الحياة والكون وما يترتب عن ذلك من أحكام وممارسات. وبما أن الدِّين قد تم تطويره عبر أشكال مختلفة في شتى الثقافات حيث أن بعض الديانات ركزت على مفهوم الاعتقاد بينما أخرى على الجانب الواقعي، وفي الوقت الذي اهتم فيه البعض بالجانب الفردي نجد آخرين يعتبرون أنشطة المجتمع الدينية أكثر أهمية فإن مظاهر التديُّن كان لا بد أن تختلف من دين لآخر وأحيانا حتى بين معتنقي الدِّين نفسه. وهنا يجب أن نفرق بين مظاهر التديُّن من جهة وبين رموز الهوية الدينية، وهي أشياء نقوم بها للتعبير عن الانتماء لجماعة تدين بنفس الدين أو المعتقد كارتداء نوع معين من اللباس أو حمل أنواع معينة من الحلي بشكل بارز، وكذلك من خلال طريقة إلقاء التحية فعلا أو قولا. ويقع اللُّبس حين يكون أحد مظاهر التديُّن هو أيضا من رموز الهوية. وهذا ما حدث في قضية ارتداء الحجاب وما رافقها من جدل في المجتمعات الغربية العلمانية التي ترفض تواجد الرموز الدينية في المؤسسات العمومية حيث يصعب في هذه الحالة أن نفرق بين التديُّن والرمزية الهوياتية. المسألة الثانية مرتبطة بمفهوم "التَّعايش" والتعقيد الذي يكتنفه حين يتعلق الأمر بالمجتمعات الدينية حتى وإن كان نظام الدولة نظاما علمانيا. وفي هذه الحالة يمثل الشق التشريعي للدين نقطة محورية. فالدين، نوعا ما، هو "دستور" المتدينين الذين صاروا الآن يعيشون على اختلافهم ضمن حدود الدولة الواحدة وبدستور موحد. لذلك، فعلاقة المجتمعات الدينية بدولتها العلمانية قد تتخللها بعض التداخلات في الأمور المرتبطة بالأحوال الشخصية من زواج وطلاق وإرث ودفن، وخصوصا حين يتعلق الأمر بمظاهر التديُّن وتعارضه مع المصلحة العامة. كما أن علاقة المجتمعات الدينية ببعضها البعض قد تعتريها بعض الاعتداءات السلوكية من طرف الأغلبية وقد تصل أحيانا لدرجة الانتهاكات الحقوقية، وهذا حدث ولا زال يحدث في عديد من الدول الغربية. والسبب طبعا هو رفض هذا الاختلاف أو ما ينتج عنه من مظاهر اجتماعية يصعب تقبلها، خصوصا أننا لا نعترف بالوجود "الأصلي" لهذه "الأقليات" الدينية ضمن حدود الدولة المعنية. ظلت هذه الممارسات إلى غاية الأمس مجرد حالات معزولة وغالبا ما كانت تجد من ينتقدها ويعارضها داخل الأغلبية نفسها. لكن، وللأسف الشديد، تغير كل شيء في الآونة الأخيرة. في السنوات الأخيرة وقعت أحداث دامية شملت مناطق عديدة من العالم وهمت بالخصوص منطقة الشرق الأوسط حيث تدخل المجتمع الدولي بقيادة الدول الغربية بشكل مباشر أو غير مباشر، وبين مؤيد ومعارض كان لتدخله هذا أكثر من علامة استفهام. لقد اختلطت الأمور على القاصي والداني ولم يَعُد أحد يَفهَم من يبني هذا العالم ولِمَ أصلا يُهدَم... وحده الله يَعلَم. من جهة ثانية استغلت التيارات المتشددة هذه الوضعية تغذيها الرغبة في السلطة والنفوذ، فعملت على تفعيل نظرية المؤامرة والدعوة من جديد إلى حرب مقدسة. هذه المرة ستكون حربا بأساليب خبيثة، فمفهوم "العدو" صار مختلفا ولا يمكن مواجهته بالطرق القديمة. لقد حولت هذه الجهات الإرهابية أتباعها إلى قنابل حية ورصاصات طائشة لا تميز بين رجل كبير وطفل صغير وامرأة حامل وشيخ ضرير. إنه الإرهاب الذي لم تسلم منه لا المجتمعات الشرقية ولا الغربية واستنكرته الأعراف والتقاليد والشرائع السماوية. لقد أدى هذا الإرهاب إلى قلب الموازين وتغليب كفة التعصُّب والمتعصبين، فمن يحمل البندقية يحمل أيضا نفس الهوية. اليوم أصبحت مظاهر التدين الإسلامي ترمز إلى التطرف والإرهاب وأصبح المسلمون في المجتمعات الأوروبية والغربية عموما منبوذين يعاملون بعنف وقسوة وفي أحسن الأحوال بكثير من الشك والريبة. نعم لقد فاز الإرهاب !! لا لن يفوز... ما دامت هناك جهود تُبذَل ومبادرات لا تُهمَل. لن يفوز ما دامت في الكون قوى تبني كل ما يُهدَم. ففي كل أنحاء العالم هناك أفراد ومؤسسات تعمل من أجل إصلاح المجتمعات، ولن يوقفها شيء ما دام الدافع هو إيمانها بعدالة قضيتها ونبل مقصدها. لقد أصبح ملحوظا ازدياد الوعي بأهمية التربية الأخلاقية في حياتنا وبضرورة مسايرتها لروح العصر والقيم العالمية. وبأن هذا المسار التربوي والتعليمي يجب أن يكون مستمرا ويشمل كل شرائح المجتمع وكافة الفئات العمرية لكي نمحو التعصبات بكل أشكالها ونعيد للدين دوره في تهذيب النفوس وترسيخ القيم، بعيدا عن الخرافة والأوهام وكل ما يبث الشقاق بين الأمم. لقد حان الوقت لنساهم بدورنا في البناء ولا نقف متفرجين على ما آلت إليه أوضاع البشرية. لقد حان الوقت لنستعيد إنسانيتنا، لننتصر للتسامح والمحبة وكل القيم النبيلة وننسى الماضي بأحداثه الأليمة، لنتذكر ما قدمته كل الشعوب والملل من إنجازات تأسست بفضلها حضارتنا العظيمة. هذا عصر الحضارة الإنسانية، حضارة جامعة لا شرقية ولا غربية. هذا عصر الحرية والتعايش والعالمية. فلن يُرهبوننا أولئك بتطرفهم وتشددهم وقنابلهم البشرية ولن يُرهبوننا هؤلاء بتعصبهم وعنصريتهم وأفكارهم الرجعية... نحن لنا الحق في أن نحيى في أمان ولن نيأس مهما طال بنا الزمان.