العدل هو عماد الحكم. فبالعدل تعم السعادة والأمن والاستقرار داخل المجتمعات. وبغيابه يسود البؤس، والحقد بين الأفراد، والجريمة، وعدم استقرار المؤسسات القائمة. ولقد كان العدل محور اهتمام ومطالب الإنسان منذ أن جعله البارئ عز وجل خليفة له على الأرض. وليس غريب بأن يكون جوهر جميع الرسالات السماوية هو إقامة العدل على الأرض:" لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" (الحديد، 25). وللعدل معنيان، المعنى الأول لغوي، والمعنى الثاني اصطلاحي. فالعدل لغة هو ما قام في النفوس أنه مستقيم، وهو ضد الظلم والجور (لسان العرب). أما اصطلاحا، فيمكن تعريف العدل بأنه اتباع الحق والانصاف واجتناب الظلم والجور في السلوك والأحكام. ومن الأشياء التي تبهر في القرآن الكريم، والتي لا تسع القارئ، وخصوصا الإنسان المؤمن، إلا أن يستشعر مدى عظمة ونبل خالق هذا الكون، هناك الآيات التي تتطرق إلى مسألة العدل. وقد استعمل القرآن الكريم في حديثه عن العدل تارة كلمة "العدل" وتارة أخرى كلمة "القسط"، وكلاهما يلتقيان في نفس المعنى والهدف. والملاحظ هو أن القرآن الكريم يتطرق إلى نوعين من العدل: أولهما عدل الله تعالى مع العباد، وثانيهما العدل الذي يجب أن يقوم في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان؛ مهما اختلفت الأعراق والديانات والمعتقدات. أولا- عدل الله تعالى مع العباد: لقد تطرق الله تعالى إلى مسألة عدله مع العباد في كثير من المواضع في القرآن الكريم. فإذا كان جل في علاه يدعو عباده الى العدل، فمن باب أولى أن يكون العدل إحدى صفاته التي يتصف بها بل وإحدى أسمائه الحسنى. فالبارئ عزوجل يجلي في محكم كتابه جانب من عدله مع العباد في الحياة الدنيا وفي الحياة الأخروية. عدل الله في الحياة الدنيا: في هذا الشق يمكن التطرق إلى نوعين من العدل الرباني، أولهما عدل في الأحكام، وثانيهما عدل في الواقع. عدل في الأحكام: لقد خلقت أحكام القرآن الكريم ثورة في المجتمع الجاهلي، لم يسبق لها أي تشريع سابق. فالقرآن الكريم دعا إلى العدل مع الخالق تعالى؛ بالإيمان بربوبيته، وتوحيده، وعبادته حق عبادته، واتباع أوامره واجتناب نواهيه. وبذلك يكون الإنسان المسلم عادلا مع الله عزوجل، وكذلك عادلا مع النفس بأن يفتح أمامها أبواب رحمة الله تعالى وسبل الظفر بالجنة واتقاء سخطه وعذابه، ومن ذلك قوله تعالى على لسان لقمان:" وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" (لقمان، 13)، وقوله عز من قائل :"وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ" (يس، 61). ومن جانب آخر، فقد حرم القرآن الكريم قتل الإنسان لنفسه لما في ذلك من ظلم وبشاعة في حق النفس:" وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا" (النساء، 29/30). وجعل الله تعالى للمرأة نصيبا في الإرث يتماشى وفق ميزان "القوامة"(أعباء المعيشة ومصالح الأسرة) الملقاة على كاهل أخيها الرجل:" الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ" (النساء، 34)؛ بنسب متناهية في الدقة والحكمة، وذلك في قوله تعالى:" يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ"(النساء، 11). وفي ذلك عدل ورحمة من الله جل في علاه إزاء المرأة المسلمة. والعدل ليست هي المساواة. وأن من المساواة ما هو إجحاف، وظلم، وتشويه لطبيعة الإنسان، وإخلال بركائز وسعادة الأسر والمجتمعات؛ وذلك كله بدافع الهوى والغرور والاغترار بالأكاذيب وبالفلسفات الغربية المادية الباطلة والمجانبة للصواب. عدل في الواقع: عدل الله تعالى هو عدل ملموس في الحياة الدنيا، قبل دار البقاء. ومعنى ذلك أن البارئ عزوجل يجازي عباده الصالحين في الدنيا على صلاحهم وتقواهم قبل مجازاتهم في الآخرة؛ بإنصافهم، وبخلق سبل الحياة الطيبة لهم، وبالتمكين لهم في الأرض. وهذه صورة من عدل الله تعالى مع عباده. ومثال ذلك ما ورد في سورة يوسف عليه السلام الذي كابد الظلم والافتراء بأن رماه إخوته في البئر، وباعوه كعبد بثمن بخس من أجل إبعاده عن أبيهم، وسجن بعد اتهامه بالخيانة من لدن زوجة سيده، قبل أن يبرأ من هذه الخيانة الكاذبة ويعينه ملك مصر في منصب "عزيز مصر" (رئيس الوزراء وقائد الجيش)، لصدقه وعفته وعلمه، ثم يأتيه بعد ذلك إخوته يستعطفون إحسانه ويطلبون عفوه. وكل مؤمن صالح، صادق مع الله ومع الناس، إلا والله يجعل له نفس الجزاء، ألا هو التمكين في الأرض:"وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ "(يوسف،22). كما أنه تبارك وتعالى يعاقب الفاسق، والظالم، والمجرم في الدنيا قبل الآخرة. فالله تعالى يمهل ولا يهمل، حتى في دارنا هذه التي خلقها الله تعالى دار ابتلاء واختبار:" وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ" (ابراهيم، 42)، ومثال ذلك ما لاقاه فرعون من عقاب في الدنيا بأن طمس الله تعالى ملكه، وأباد هيبته بين الناس بعد أن أماته غرقا وأنجى بدنه حتى يعلم الجميع بمآله المشئوم:" وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون" (يونس،90/92). وكذلك مآل الطغاة والظلمة. ولنا في أحداث التاريخ المعاصر العديد من الأمثلة الحية كالنهايات المشؤومة والمخزية لتشاوشيسكو، وشارون، والقذافي وغيرهم. العدل في الحياة الأخروية: يتطرق القرآن الكريم إلى العديد من حالات عدل الله تعالى يوم الحساب. فالله تعالى لن يحاسب الإنسان إلا بما عمل في دنياه، دون جور أو هوى أو تعسف:" ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ " (الحج،10). وهذا العدل الرباني الذي سيمر منه كل إنسان يوم القيامة هو عدل في أعلى وأسمى معانيه: " وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ " (الأنبياء، 47). فالله تعالى لا يحاسب الإساءة إلا بمقدارها، أما الإحسان فإنه جل في علاه يضاعفه أضعافا كثيرة: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا " (النساء، 40). وعدالة الخالق تبارك وتعالى لا تضاهى لدرجة أن من يستحقون عقاب الخزي يوم القيامة لو حاكموا أنفسهم بأنفسهم على ظلمهم وجرائمهم – رغم هوى الإفلات من العذاب – لشهدوا على أنفسهم بعدالة عقابهم وأقروا بظلمهم وقبح عملهم:" "اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا"(الإسراء،14)؛" فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ " (الأعراف، 37). ثانيا- العدل بين الناس: دعا الله عزوجل عباده إلى الالتزام بأخلاق العدل وذلك في قوله جل في علاه: "إنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (النحل، 90). وكل فرد من أفراد المجتمع إلا وهو ملزم بأن يكون عادلا في أقواله وأفعاله مع الآخرين. ولعل من أكبر المكلفين بالعدل هم الحكام والقضاة. وبالتالي ألزم تعالى الحاكم أو القاضي بأن يكون عادلا بين رعيته أو بين الناس. وجعل من ذلك نبراسا لا محيد عنه في ممارسة الحكم أو القضاء، بل إن شرعية الحاكم أو القاضي لا يمكن أن تؤسس إلا على مبادئ العدل ولا يمكن أن يمارس سلطته إلا وفق ما سلف:" إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً "(النساء،58)، وقوله تعالى كذلك:" وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (المائدة، 42). والعدل الرباني لا تشوبه شائبة. ولا يمكن أن يعرف تراجعا عن مبادئه مهما كان الموقف أو الحالة؛ بحيث أن البارئ عزوجل يدعو إلى العدل حتى ولو مس الأمر النفس أو الأهل والأصدقاء، وذلك في قوله تعالى:" وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ " (الأنعام، 152)، وقوله عز وجل:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ"(النساء،135)، وقوله عز من قائل:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المائدة، 8). والعدل الذي لا يكونه أساسه النبراس الرباني هو دائما معرض لهوى ومزاجية النفس. والهوى لا يؤدي إلى العدل وإقامة الحق، وإنما يؤدي إلى الظلم والشطط:" إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي "(يوسف،53). ولذلك نهى الله تعالى عن اتباع الهوى في إقامة العدل:" فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا"(النساء،153). خلاصة: إن العدل في القرآن الكريم هو عدل كامل ومطلق، يسمو على جميع الحساسيات، لا يكتنفه أي نقص أو زلة، وليس محدود لا في الزمان ولا في المكان. ومقال واحد لا يسع لاستعراض كل الآيات التي تتطرق إلى عدله سبحانه وتعالى؛ خصوصا أن العدل الرباني يرادفه رحمته تعالى، وهو أرحم الراحمين. * دكتوراه العلوم السياسية، أستاذ باحث بجامعة عبد المالك السعدي.