إذا نُظم استطلاع للرأي بين صفوف الجالية المغربية التي يتجاوز عددها خمسة ملايين عبر مختلف دول العالم، فإنني أكاد أجزم أن النتيجة ستكون سخطاً عارماً واستياءً شديداً مفاده "الجاليات المغربية تريد إسقاط السفارات". ويكفي أن تسأل أي مواطن مغربي مقيم في المهجر عن علاقته بسفارته بلده ليقول لك دون مقدمات "كل شيء يهون وكل مشوار يسهل باستثناء مشوار إلى السفارة المغربية". ولعل هذا يُحقق فعلاً "الاستثناء المغربي" الذي يتبجح به المسؤولون المغاربة بمناسبة وبدون مناسبة. وإذا حدث أن أغواك ضميرك بالاعتراض على تأخير معاملة أو تضييع شهادة أو تعطيل مصلحة، فالويل لك والثبور، وما ستناله هو عقاب فوري قد يبدأ بالإهانات من المسؤول المبجل الذي يتعامل مع المغاربة الذين يشدون إليه الرحال بعد قطع أميال طويلة للوصول إلى عتبة السفارة الموقرة كأنهم متسولون جاؤوا يطلبون صدقات. هذا إن حالفه الحظ ووجد باب المسؤول مفتوحة، فليس لها توقيت ثابت، وهي تفتح أبوابها أحياناً في الثامنة والنصف وأخرى في التاسعة، وأحياناً لا تفتح ويبقى الجميع يترقب المسؤول المنتظر بالساعات ليكتشفوا بعد ذلك أنها أغلقت لمناسبة وطنية أو عالمية! في سفارات البلدان الأخرى بما فيها العربية، يُستقبل المواطنون بالشاي والقهوة والشوكولاته، وتجد منتسبي السفارة كلها جنود مجندون لخدمة مواطنيهم، فيتواصلون معهم بكل الوسائل، بالرسائل النصية والإلكترونية والورقية والاتصالات الهاتفية وبالرقم الساخن على مدار 24 ساعةً، أما سفاراتنا المغربية فيستقبلنا موظفوها بوجوه عبوسة قمطريرة تُنبئك بأنهم جميعاً يُغردون خارج السرب وما يزالون أوفياء إلى العهد البائد بممارساته وفساده الإداري واستهتاره بالمواطنين، واستغلال مناصبهم في السمسرة وقضاء المصالح الشخصية بدل العمل على خدمة الوطن وتحسين صورة المغاربة عامةً وصورة المغربيات خاصةً، والتي وصلت حضيض الحضيض لدرجة صارت معها المواطنة المغربية تخجل من ذكر جنسيتها أحياناً حتى لا تلصقها التهمة. أما موظفوها المبجلون، فهم يمنون عليك أن تكرموا عليك بساعات عملهم الثمينة وتلقي ملفات المغاربة الذين تعاملهم في رحابها معاملة المتسولين، وذلك إلى غاية الساعة الثانية عشرة ظهراً، وهي تعني الثانية عشر إلا ربع، إذ ما إن تصل الساعة الحادية عشرة وخمسة وأربعين دقيقة حتى يبدأ الموظفون في التأفف ونهر كل من يأتي في هذه الساعة بالقول "إننا ننتهي من العمل في الساعة 12”، وإذا رد أحد بالقول إن الساعة لم تصل الثانية عشر بعد، يكون نصيبه نظرات شزراء وكلمات تنطق بعصبية ونبرة ازدراء وانحطاط لا تليق البتة بموظف هيئة ديبلوماسية من المفترض أن تخدم مواطني البلد الذي تمثله عوض الإمعان في إذلالهم. جاء عام 2011 وحمل معه ثورات في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا والبحرين والمزيد مما تحبل به الأيام القادمة، لكن سفاراتنا العزيزة بأوربا وآسيا وأميركا والخليج وآسيا تأبى إلا أن تُبحر عكس التيار وتسير على نهج إدريس البصري في سياسة القمع الإداري واستفزاز المراجعين لغايات في أنفسهم بالتصريح لا التلميح، والوقاحة لا اللباقة، وبالممارسة التي تتخذ طابع القاعدة لا الاستثناء. وللتأكد من هذه الحقائق والوقائع المرة التي تشهدنا سفاراتنا، يكفي زيارة مدونات المغاربة المقيمين بالخارج أو زيارة المنتديات الاجتماعية التي يشاركون فيها مثل "فيسبوك" أو تويتر" أو "لينكد إن" وغيرها الكثير ليتبين المرء حجم التذمر الذي يبديه المغاربة، وهول الضرر الذي يلحق بهم صباح مساء عند مراجعة السفارة، فيصبح مجرد التفكير في الذهاب إلى هناك لتجديد جواز أو تسجيل مولود جديد في الحالة المدنية أو تصديق شهادة عليا كابوساً مخيفاً قد يجلب لصاحبه مرض السكري والأمراض العصبية، بل وحتى الأزمات القلبية من هول ما يجده هناك. فقد تكون في أمس الحاجة إلى تصديق شهادة من وزارة التعليم العالي المغربية عبر السفارة فتنتظر بالأشهر بينما يحصل عليها مواطنو الجنسيات الأخرى خلال أسبوع! وقد تنتظر حولاً كاملاً ثم تتلقى رداً بارداً يقول إن الشهادة وصلت، لكنها ضاعت في السفارة! والسبب تراكم الأوراق وانشغال الموظفين الموقرين بالمكالمات الهاتفية، فتضيع عليك فرص عمل وقد تُطرد من العمل لأن ليس لديك ما يثبت أن شهادتك معتمدة من وزارة التعليم العالي المغربية، فلا تملك إلا أن تقول "لا حول ولا قوة إلا بالله"، أو إشعال النار في جسمك إذا طفح بك الكيل وكان حبل صبرك قصيراً وذُقت من السفارة ألواناً شتى من ألوان الاضطهاد والعذاب النفسي الذي لا هو بالموت الرحيم ولا هو بالقتل السريع. في كل بقاع العالم، يندمج المغاربة في المحيط الذي يوجدون فيه برقيه وتحضره ومعاملاته الإدارية المرنة والسلسة في أوربا وأميركا والخليج وأستراليا وآسيا بإداراتها ومؤسساتها التي حولت غالبية معاملاتها إلى إلكترونية فأضحت مكاتبها تخلو من الأوراق المتراكمة ولا تحوي إلا حواسيب رفيعة، بينما تجد في سفاراتنا الموقرة جبالاً من الأوراق غير المرتبة وأوراقاً في الأرض وفي المكتب وفي الرفوف، والغبار يكسوها جميعها ويغطي قبلها الزجاج السميك الحاجب للرؤية الذي وضعته السفارة المغربية في أبوظبي. تدخلها فتكتشف أنك دخلت في لمح البصر إلى إدارة توجد في التراب المغربي بكل تفاصيله، بأوجه موظفيها المتجهمة، وركام أوراق مكاتبها وعلو صوت منتسبيها وصُياحهم لسبب ولغير سبب، وبمرحاضها النتن الذي يجعلك تُفضل انفجار مثانتك على تفريغها في مرحاض لا يُمكن دخوله إلا بوضع كمامات. نعم، فقد كان حرياً بالسفارة المغربية وضع إحضار الكمامات ضمن متطلبات مراجعة السفارة، خاصة للمرضى المصابين بالسكري أو الذين يتناولون أدويةً تضطرهم إلى دخول المرحاض بين الحين والآخر. وهكذا لا يكون من نصيبك من وطنك الأم إلا هذه الإهانة النفسية وهذا الربط العاطفي الذي يقتل فيك كل معاني الاعتزاز بالوطن وحبه التي تحاول جاهداً بثها في نفسك رغم كل شيء. ولا شك أن هذا لا يمس المواطنين المغاربة فحسب، بل يمس أيضاً مواطنو الدول الأجنبية الأخرى الذين يحجون إلى السفارة المغربية لطلب تأشيرة سياحية عن بلد سمعوا في الحملات التسويقية أنه من بين "أجمل الدول في العالم"، وإذا به يُفاجأ بسوء التعامل في السفارة ومرحاض نتن واستهتار بالوقت، وهو ما يؤدي بالكثيرين إلى الرجوع عن قرارهم واستبدال المغرب بوجهة سياحية أخرى باقتناع تام وهم يتساءلون: إذا كان حال السفارة بهذا الشكل، فكيف سيكون حال غيرها من المرافق داخل المغرب؟ متى تثور الجاليات المغربية على سفاراتها؟ ومتى تُستبدل بسفارات تواكب على الأقل مستوى معاملات الأرض التي تقع عليها؟ ومتى يقوم السفراء بواجباتهم في تمثيل المغرب أحسن تمثيل وخدمة مواطنيه؟ ومتى يرتقي موظفو السفارة بأدائهم ويتركوا وراءهم الممارسات الإدارية التي تنتمي إلى زمن غير هذا الزمان وعالم غير هذا العالم؟ تفاءلنا خيراً عندما تم تعيين مجلس أعلى للجالية المغربية قبل بضع سنين وتم التطبيل والتزمير لأعضاء هذا المجلس الذي عين من قبل أعلى سلطة في البلاد في خطاب الملك محمد السادس في خطاب ألقاه بمناسبة الذكرى الثلاثين للمسيرة الخضراء، بتاريخ 6 نونبر 2005، وهو تاريخ لا يخلو من دلالة، إذ اختير في هذه المناسبة بالذات لإعطاء قدسية وأهمية لاسترجاع كرامة الجاليات المغربية وإعادتهم لحضن الوطن كما رجعت الصحراء المغربية إلى تراب الوطن سنة 1975، مجلس قيل إنه سيسترجع إلى حضن المغرب جالياته المنتشرة في ربوع المعمور ويرعى شؤون أفرادها ويشجعهم على الاستثمار في داخل المغرب ويتواصل مع الكوادر والموارد البشرية المغربية للاستفادة من خبراتها، لكن هذه الوعود الوردية التي هلل لها كثيرون واستبشروا بها خيراً لم تتجاوز الزيارات التي قام بها الوزير المكلف بشؤون الجالية المغربية، والتي لم تأت إلا كرد فعل على فضيحة مغربية هنا أو هناك! كنا نعلق آمالاً عراضاً على أن يترجم قرار الإعلان عن هذا المجلس إلى خطط عملية شاملة تعيد المواطن المغربي إلى حضن موطنه الأم، فيشم ريح أمه وعبق تراب وطنه في كل مرة يزور فيها السفارة، ويقصدها كلما حلت به ضائقة، ويحج إليها كلما تجرأ شخص أو جهة على التعدي على حقوقه. لكن هيهات هيهات! سفاراتنا بعيدة كل البعد عن أن تصل إلى هكذا مستوى، فليس لنا منها إلا الأوجه العبوسة وتضييع الوثيقة تلو الوثيقة والشهادة بعد الشهادة، وكيل الإهانة وراء الإهانة، وتضييع الأيام والأيام وحرق الأعصاب وإتعاب النفسيات. فهل تستفيق سفاراتنا وتغير سلوكاتها وتكف عن إذلال المغاربة أم علينا أن نتفق على حرق أجسادنا في أبواب سفاراتنا بكل عاصمة حتى نُلفت الانتباه إلى معاناتنا وحتى تتحقق ثورتنا المأمولة على سفاراتنا؟! *كاتب وصحفي مغربي مقيم في أبوظبي