المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    ارتفاع رقم معاملات السلطة المينائية طنجة المتوسط بنسبة 11 في المائة عند متم شتنبر    إيداع "أبناء المليارديرات" السجن ومتابعتهم بتهم الإغتصاب والإحتجاز والضرب والجرح واستهلاك المخدرات    بلومبرغ: زيارة الرئيس الصيني للمغرب تعكس رغبة بكين في تعزيز التعاون المشترك مع الرباط ضمن مبادرة "الحزام والطريق"    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة    بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    عبد الله بوصوف.. النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة        المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور        قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانقلاب التركي وجماعة الخدمة
نشر في هسبريس يوم 24 - 07 - 2016

أكتب عن الانقلاب على حكومة أردوغان المنتخبة،وأنا أشعر ببعض الحرج، ليس في إدانة الانقلاب والانقلابيين، فذلك واجب أخلاقي قبل أن يكون موقفا سياسيا، عند كل من يحترم نفسه ويحترم مسيرته ومساره.وقد قمنا بذلك في حينه وفي الدقائق الأولى للانقلاب. فالمستهدف من الانقلاب لم يكن أردوغان وحزب العدالة والتنمية وحسب، بل تجربة تركيا في النهوض والاستقلال، وكان رجب طيب أردوغان علامة بارزة وعنوان هذه النهضة والتحول الاقتصادي والتنموي في تركيا.
أشعر بالحرج لأن الطرف المتهم هو جماعة الخدمة،أو حركة فتح الله غولن.فلن أخفي أنني على علاقة صداقة فكرية وثقافية وشخصية بكل أطراف هذه الأزمة؛ من مناضلي العدالة والتنمية ومسؤوليهم، ومن أفراد جماعة الخدمة داخل تركيا أو خارجها، ومازالت هذه العلاقة وطيدة،وكذا علاقاتي مع أفراد كثر من جماعة النور،وهي على ما أتصور قد اتخذت موقفا ذكيا في الموضوع،وانحازت للشرعية ضد الانقلابيين.
أقول الحرج،وأنا أستغرب لكثير من الباحثين والأساتذة والإخوان المغاربة، من مختلف الأطياف الإسلامية،الثقافية والسياسية، ممن لهم علاقة وطيدة بحركة فتح الله غولن؛ استفادوا من دعمها، ومن كرم ضيافتها في تركيا، ومن تمويلها لكثير من ندواتهم وأنشطتهم،وهم يرونها اليوم تجتث اجتثاثا،ويصلب منتسبوها إلى جذوع النخل،وربما غدا يعدمون أو تقطع أيديهم وأرجلهم، من دون خلاف، ولم يكتبوا ولا تكلموا، لا دعما ومؤازرة، أو وساطة وصلحا،أو مواساة وإعذارا...وأعرف منهم الكثير ممن دسوا رؤوسهم في التراب،وهم يعرفون أنفسهم. وهم يعبرون في الحقيقة عن أزمة ضمير، وأزمة أخلاق، وأزمة مسؤولية، وأزمة تدين...
وكتب،في المقابل، بعض قليل ممن لهم علاقة بالشأن التركي من الباحثين الإسلاميين المغاربة،ليس دفاعا عن فتح الله غولن وجماعته،ولكن هجوما على أردوغان وحزبه؛إذ أصبح في عرف هؤلاء البعض القليل،هو المسؤول عن الانقلاب،بل ربما هو المدبر له، مع أنه كان بين الحياة والموت، وكان هو الهدف الأول للانقلابيين، قتلا أو اعتقالا. ولو اعتقلوه لساموه سوء العذاب، ولأهانوه وحزبه أمام العالم، بما يقتل صورة القائد الشجاع، والنموذج التنموي الإسلامي الناجح، وبما يقتل في النفوس كل طموح أو نخوة أو رغبة في التحرر والتنمية في العالم الإسلامي، كما فعلوا مع محمد مرسي، ومع منصف المرزوقي بمقدار. ورصدت فئة أخرى من الكتبة من الكتائب الإلكترونية، وأغلبها من المتعاطفين مع حزب العدالة والتنمية المغربي، بنفحة حزبية مندفعة، وخلفية سياسية حادة، خصوصا بعد التأكد من دحر الشعب التركي للانقلاب؛ كتبوا دعما لأردوغان بلاحدود، حتى إنك تخالهم لايدافعون عن الشرعية في تركيا بل على أنفسهم هنا، مع أن أغلبهم بقي صامتا وخائفا في الساعات الأولى للانقلاب، وخصوصا بعد بداية استهداف الانقلابيين للمؤسسات السيادية للدولة في أنقرة: قصف البرلمان، والمقر المركزي للمخابرات التركية، وتطويق القصر الرئاسي...واختفاء أردوغان، وبداية دعم الغرب المنافق وأمريكا إعلاميا للانقلاب، عبر تصريحات وبيانات وتعليقات ملتبسة، وكانت الحكومة المغربية بقيادة عبد الإله بن كيران أشجع من مناضلي الحزب في التنديد بالانقلاب والانقلابيين وفي دعم الحكومة التركية المنتخبة.
ولم يحصل الحرج من احتمال تورط جماعة الخدمة في الانقلاب، مباشرة، أو عبر استثمار قوتها الاجتماعية، وحضورها الوازن، ربما، في أجهزة الدولة التركية، وتوظيف معرفتها الدقيقة بمفاصل الدولة. ليس هذا مصدر الحرج، فعلاقة الاسلاميين،عموما، بالانقلابات العسكرية، معروفة في تاريخهم السياسي، مع أنهم كانوا الأكثر تضررا دائما من الانقلابات العسكرية ناجحها وفاشلها، سواء دعموها، كما في انقلاب الضباط الأحرار في مصر بقيادة جمال عبد الناصرسنة1952م، أو بالمشاركة الفعلية فيها، تخطيطا وتدبيرا، كما في السودان سنة 1989م،أو سواء عارضوها؛ كما في الجزائر في سنة 1991م ، أو في انقلاب السيسي في مصر سنة 2013م. فقد كانت الانقلابات العسكرية وبالا على الحركات الإسلامية، مهما كان موقعها فيها وموقفها منها. فقد زادت كل الانقلابات الحاصلة من متاعبها، وأرجعتها سنوات ضوئية إلى الوراء، تفكيرا وحالات نفسية وإمكانيات. ولكن الحرج حصل من معرفتي الجيدة، كما أتصور، بجماعة الخدمة؛ فقد قرأت عددا كثيرا من كتب الأستاذ فتح الله غولن؛ قرأت كتب: ( ونحن نقيم صرح الروح) و( التلال الزمردية، نحو حياة القلب والروح) و( طرق الإرشاد في الفكر والحياة) و( أسئلة العصر المحيرة) و( ترانيم روح وأشجان قلب) و( الموازين، أو أضواء على الطريق) و( النور الخالد، محمد مفخرة الإنسانية، في مجلدين). وأنجزت دراسة منشورة حول المعنى الديني عند فتح الله غولن.وشاركت قبل شهرين في ندوة دولية نظمتها مجلة حراء،وهي مجلة تركية بالعربية تصدرها الجماعة.كما زرت تركيا أكثر من مرة، وزرت جماعة الخدمة، وتعرفت على مؤسساتها الإعلامية والعلمية وعلى مدارسها التربوية والتعليمية، وشاركت مع أفرادها في ندوات علمية وثقافية، شرقا وغربا.كما أعرف بشكل جيد مناضلين من حزب العدالة والتنمية التركي، من مستويات متعددة من المسؤولية في الدولة وفي الحزب.وقد زارنا ،من مدة الأستاذ أحمد داود أوغلو، رئيس الحكومة السابق في أكادير، في مؤتمر علمي، كما أعرف مستشاري وزراء، وكذا صديقنا ابراهيم غولن من مستشاري الرئيس أردوغان إلى الان، وأعرف إعلاميين ومثقفين وجامعيين من الحزب.كما لاأنسى معرفتي الجيدة بجماعة النور، وهي حاضنة هذه الفئات جميعها في إطار المشروع التربوي والثقافي الذي أسسه الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي( ت 1960م). وتجسده كتبه المعروفة، أتوفر عليها جميعها في مكتبتي، خصوصا المجلدات الكبيرة( الكلمات) و( المكتوبات) و( اللمعات) و( الشعاعات). وهي عبارة عن مدونة أخلاقية وتربوية وثقافية تأثر بها كل ألوان الطيف الإسلامي والديني في تركيا، وفي خارج تركيا.كما أذكر أني أنجزت أكثر من بحث عن سعيد النورسي، وألقيت أكثر من محاضرة عن فكره، سواء في المغرب أو في تركيا، أو في غيرهما من البلاد العربية والإسلامية.
اضطررت للتصريح بهكذا معلومات ومعطيات لأبرر كوني أكتب في موضوع ذاتي جدا، لاأعتبر نفسي بعيدا عنه. فقد كنت أتابع جدا التجربة التركية وكان يشغلني جانبها الفكري وإمكانية إنجاز حداثة وتنمية بناء على رؤية دينية تتسم بقدر كبير من العقلانية والعلمية واليسر في فهم المرجعية الدينية، وكنت أرى النموذج التركي مؤهلا لذلك، وهو كذلك، بنظري، ومازال إلى الآن. كما كنت أتابع تطور الخلاف بين العدالة والتنمية وجماعة الخدمة، ونصحت أكثر من مرة أصدقائي من المنتسبين إلى جماعة الخدمة أو العدالة والتنمية إلى ضرورة وضع قواعد لتدبير الخلاف بينهم، والحذر من انزلاقه ليكون تناقضا، أو سقوطه في محيط المتلاعبين بالعقول من الفاعلين في الصراع الإقليمي والدولي، مما سيصادف رغبة دفينة وواقعية عند الكثير منهم لتدمير نموذج النهوض التركي الذي يقوده العدالة والتنمية. كماتنبغي الإشارة إلى أن جماعة الخدمة على خلاف حاد وحقيقي مع جماعة النور، في المنهج وفي التقدير السياسي، مما لايذكر عادة إلا في دوائر ضيقة جدا. ولكن الخلاف بدأ يتسع كثيرا وسيتسع، بنظري، أمام اقتراب جماعة النور من الحكومة ومن العدالة والتنمية.وهو موقف بنظري فيه قسط كبير من الذكاء السياسي، وبعد النظر، والذي ربما افتقده الإخوة في جماعة الخدمة.
وعليه، لم يفاجئني الانقلاب العسكري في تركيا؛ فخبرتي في تتبع مسارات الحركات الإسلامية، تقول لي بأن العسكر وأجهزة الدولة العميقة هي القوة الوحيدة القادرة اليوم على لجم الإسلاميين، والحد من طموحاتهم السياسية، وتدمير مشاريعهم، بل وتكسير صناديق الاقتراع التي تفرزهم على ظهورهم.وللأسف، لاقوة سياسية، يسارية أو ليبرالية، تلوح في الأفق، قادرة على منافستهم، على قواعد التدافع المدني الديمقراطي، في العالم العربي والإسلامي، أمام افتقادها للتأطير الأيديولوجي اللازم والمحفز، والانضباط التنظيمي المتسق، والفعالية المستمرة في الإنجاز والفعل. وهي خصائص تميز، عادة، الحركات العقائدية، ومن ضمنها الحركات الإسلامية، أو الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية. لكن الذي فاجأني أن تكون جماعة الخدمة متهمة في موضوع الانقلاب، بله المشاركة فيه.
فالذين اتهموا جماعة الخدمة بالضلوع في الانقلاب هم إخوانهم وحلفاؤهم التربويون والثقافيون والسياسيون إلى وقت قريب. فقد ساهموا جميعا منذ2003 في تشكيل حكومة قوية، قادت حركة النهوض الجديد لتركيا باقتدار تحت عنوان: العدالة والتنمية، وقيادة كارزمية وشجاعة عنوانها: الطيب رجب طيب أردوغان.هذا الرجل قاد حركة نقدية تصحيحية سياسية وتنظيمية وفكرية في # حزب الفضيلة# وأطاح بقائد كلاسيكي لايشك أحد من الإسلاميين في دوره التأسيسي للحركة الإسلامية الفاعلة في الواقع التركي، ضمن أمواج عاتية من العسكرة والعلمنة المتحيزة والأتاتوركية القاسية، مع عداء للدين والمتدينين، بغطاء ورعاية وتبرير من كتائب من المثقفين الموالين للغرب، وهو البروفسور نجم الدين أربكان، رحمه الله. هذا الزعيم الإسلامي لم تكن جماعة الخدمة على وفاق معه؛ ربما لطابعه الصدامي، وحدته السياسية، وخلفيته الإخوانية البارزة والمستفزة لخصومه السياسيين أو العسكريين، داخل تركيا وخارجها.
لذا وجدت جماعة الخدمة في أردوغان الزعيم السياسي المناسب، ووجد أردوغان في جماعة الخدمة الحاضنة الاجتماعية المناسبة والقادرة على تعويض قاعدة وجمهور حزب الفضيلة الذي ظل وفيا ومرتبطا روحيا ونفسيا بنجم الدين أربكان في حزب السعادة الذي أسسه بعد الانقلاب عليه. كما أن أردوغان يعلم بأن الانشقاق عن التنظيم الأم، وعن القيادة الكلاسيكية في حجم أربكان، يصعب معه بناء تنظيم جديد، وضمان نموه واستمراريته بل وبقائه السياسي. وتجارب الانشقاقات وسط الإسلاميين تزكي ذلك؛ في مصر وسوريا والعراق وفلسطين والجزائر وتونس والمغرب وماليزيا...
يؤكد كل هذا، بنظري، أن جماعة الخدمة كانت طرفا أساسيا في بناء هذا المشروع النهضوي التركي الجديد، وهذا لاينكره أنصار العدالة والتنمية، من المخلصين والموضوعيين والنزهاء، وهم كثير ممن أعرف. كما لاينكر كثير من أبناء جماعة الخدمة مجهود العدالة والتنمية، وكذا الطاقة القيادية الكبيرة التي تميز أردوغان، وقد ظهر للعالم الكثير منها في مواجهة الانقلابيين، برباطة جأش وبشجاعة غير طبيعية، مما لم نعهده في الحكام المستبدين، الذين يختفون بمجرد تحركات عسكرية أو شعبية ضدهم، فيغادرون البلاد هربا من شعوبهم ومن جيوشهم.
فأن يقع الخلاف بين أطراف تحالف سياسي، في بلد ما، فهو أمر عاد وطبيعي جدا، في ظل أنظمة ديموقراطية، لكن أن يتحول الخلاف إلى تناقض، ثم إلى حمل السلاح، والتورط في انقلاب عسكري ضد الخصم السياسي، فهو الذي يثير الدهشة والاستغراب. فمن خلال مطالعاتي لكتب الأستاذ فتح الله غولن، ومعرفتي بمحبيه وبالمنتسبين لجماعته، لم ألمس في أية لحظة، ولم أرصد أية إشارة، تظهر أن هذا الرجل عنيف، ولاحتى أنه متوغل في السياسة، وفي شؤونها اليومية، كما يصوره الإعلام اليوم. إلى درجة أن بدأنا نقرأ ونسمع أنه هو من أعطى الأوامر لإسقاط الطائرة الروسية، وهو من أعطى أوامر الضغط على الزر في اللحظة صفر للانقلاب،وأنه زار دولة عربية قبيل الانقلاب بقليل، والتقى المتصهين دحلان، وينسق مع إسرائيل ومع المخابرات الأمريكية ضد بلده تركيا...وغيرها من الاتهامات الغليظة...
عدت للاستماع إلى العشرات من أشرطة فتح الله غولن على اليوتوب، ماوجدت أن هذا الرجل رجل سياسة بلأصل؛ وجدته كما أعرف، من كتبة ومن منتسبي جماعته، رجلا صوفيا، يعيش حالة عزوبة اختيارية، كثير البكاء، والدعاء، قال عنه أخونا المرحوم الدكتور فريد الأنصاري في روايته : (عودة الفرسان): (فتح الله يحمل في قلبه ما لا طاقة له به؛ ولذلك لم يزل يبكي، حتى احتار الدمع لمأتمه). والرواية سيرة ذاتية بنفس شاعري كتبها فريد الأنصاري عن فتح الله غولن في قرابة أربعمائة صفحة،لا أعرف ماكان سيقوله المرحوم فريد لو امتد به العمر إلى أيامنا هذه؟ وحتى تصور فتح الله غولن الفكري الإسلامي يغلب عليه الجانب الوعظي السلوكي الفردي؛ لن تظفر عنده بأية مقولة سياسية، أو أي موقف سياسي، أو تحليل لواقعة سياسية، أو ظاهرة سياسية، إلا بما له علاقة بالخلاص الديني الفردي، أو بمجرد تعابير عامة في كتبه في خضم إجاباته عن بعض الأسئلة الموجهة إليه. فقلت مع نفسي: أيمكن أن يكون هذا الرجل، بهذه البساطة وبهذا الخطاب الوعظي، مشرفا على عملية تدميرية ضخمة، في حجم انقلاب عسكري، يريد تدمير بلده، وهو بلد إسلامي أوروبي ناهض.
ولكن ماأعرفه حقيقة، ويعرفه العالم، بناء على الوقائع والأحداث والمعطيات، أن الانقلاب أمر حاصل.وأن تركيا الناهضة كانت مقبلة على الدخول في باب جهنم؛ أي جحيم من الفوضى وربما الحرب الأهلية، قد تتقسم بعدها تركيا إلى أربعة دول على الأقل، بحسب تقديرات الاستراتيجيين. وأن العدالة والتنمية، بقيادة أردوغان، كان سيؤدي الثمن غاليا ، على نجاحه في هذا المشروع النهضوي بعنوان إسلامي، وبأدوات علمية واقتصادية وتقنية عالية الجودة والفعالية.
فالحكومة التركية ربما تمتلك من الوثائق والبيانات والمعطيات والتفاصيل، المادية والفنية، مايجعلها أكثر إلماما بخيوط الانقلاب و معرفة بالمتورطين فيه.
لذلك ضللت ألح على أبناء جماعة الخدمة على عدم التشبث بمقولة صنعها الإعلام الغربي المتحيز عند تأكده من فشل الانقلاب وتصدي الشعب التركي له، وللأسف كررها الأستاذ فتح الله غولن متأخرا في تصريحه الأول، وهي أن الانقلاب مفتعل؛ إذ في هذه المقولة استبلاد للشعب التركي، وتقليل من وعيه ويقظته، بكل مكوناته، وإلا كان أردوغان يستحق هذه السنة كل أوسكارات هوليود على صناعته لهذا الفيلم الخيالي/الواقعي. كما ألححت على من أعرف ومن استطعت التواصل معه، عبر الفايس بوك والتويتر، من منتسبي جماعة الخدمة على النزول مع الحشود والجماهير التركية إلى الميادين واحتلال الشوارع والتصدي للانقلابيين، بعد دعوة أردوغان، وإصدار بيانات من داخل تركيا تندد بالانقلاب وترفضه، وليس الاكتفاء بادعاء أن الانقلاب موضوع ومصنوع ومفتعل من أردوغان، وياليتهم اقتدوا بمواقف شرفاء العلمانيين واليساريين والقوميين الأتراك الأشد عداء لأردوغان وحكومته وحزبه، عندما اعتبروا إرادة الشعب خطا أحمر لامساومة عليه، فنزلوا إلى الميادين لمواجهة الانقلابيين، وتركوا خلافاتهم السياسية وراءهم.
على هذا الأساس، أعتقد أن جماعة الخدمة ارتكبت أخطاء سياسية فادحة، كلفتها وستكلفها ثمنا باهضا، بالحق وبالباطل، وعدلا وظلما، بل ستعرضها لظلم ذوي القربى وهو شديد، لأن أعداء المشروع الإسلامي في تركيا سيعملون في هذه الأجواء المحتقنة على تعميق الفجوة بين الطرفين، وعلى ملئها بالأحقاد ونزعات الانتقام والتدمير والتهادم الذاتيين، مما سيؤدي ثمنه بالجملة المشروع الإسلامي الديموقراطي الناهض في تركيا، على الأمد المتوسط والبعيد.
ومن أخطاء جماعة الخدمة، بنظري:
عدم تأسيس إطار سياسي واضح ومسؤول.
غياب قيادة سياسية معروفة قادرة على إدارة الأزمة.
عدم الفصل بين العمل الاجتماعي والتعليمي والعمل السياسي، والاكتفاء بمفهوم الخدمة كمفهوم هلامي وفضفاض.
ضعف الوعي السياسي والخبرة السياسية عند منتسبيها، مع الحرص المبالغ فيه على التخفي السياسي.
عدم النزول إلى الميادين لمواجهة الانقلابيين، والسقوط، على الأقل، في انتظارية سلبية، فسهل تصنيفها ضمن الداعمين للانقلابيين.
إصرار كثير من أعضاء الجماعة إلى اليوم على شن حملة إعلامية شرسة على أردوغان وعلى حكومته المنتخبة، من دول إقامتهم، سواء كانت أوروبية أو أمريكا ممن دعموا الانقلاب أو سكتوا عنه في بداية الأحداث، أو من دول عربية تعيش تحت سطوة حكام انقلابيين أو مستبدين معادين لتركيا، وليس لحزب العدالة والتنمية ولأردوغان وحسب.
هذه الأخطاء التي راكمتها جماعة الخدمة في مسارها السياسي، هي أخطاء راكمتها قبلها حركات إسلامية؛ في مصر والسودان والجزائر وغيرها، ومازالت تراكمها على مستويات مختلفة، وتصر على المضي فيها، والمتتبع لشهادات الترابي، رحمه الله، على تاريخ الحركة الإسلامية في السودان سيصعق بالحقائق والكوارث التي ذكرها.
فعندما نعود إلى احتمال مشاركة جماعة الخدمة في الانقلاب، ففي غياب المعطيات الدقيقة في مثل هذه الحوادث، أتصور بأن الخدمة تعاني من هشاشة البنية التنظيمية، تضاف إلى خيالها السياسي المحدود، وذكائها السياسي الضعيف، مما قد يعرضها لاختراقات، قد تنتهي باختطاف الجماعة، واختطاف مكاسبها وأطرها، والزج بها في هكذا محرقة سياسية، وهي الانقلاب العسكري. أما التورط المباشر في الانقلاب، عن سبق تخطيط وإصرار وتنسيق مع قوى داخلية، عسكرية وتكنوقراطية وسياسية، أو قوى خارجية، أمريكا أو إسرائل أو بعض الدول الأوروبية، أو غرفة العمليات الدولية، بتعبير منصف المرزوقي، فالكلام في هذا الموضوع يحتاج، كما ذكرنا، إلى معطيات دقيقة جدا، وإلى بيانات ولوائح وقرائن، لا مجرد ظنون وشبهات وتأولات، ولا أعلم إن كانت الحكومة التركية تتوفر على هكذا حقائق وإثباتات ضد جماعة الخدمة، ويبقى صاحب الاختصاص في الموضوع هوالأجهزة القضائية المختصة في إطار القانون واحترام حقوق الإنسان.
لهذا كله حصل لي حرج كبير وأنا أتابع هذا الموضوع؛ إذ لاأخفي إعجابي بالتجربة التركية، بعنوانها الإسلامي، لايعرف قيمتها إلا من وطئت قدماه أرض تركيا، وجالس الأتراك بمختلف أطيافهم الفكرية والسياسية، وولج جامعاتهم ومكتباتهم ومراكزهم العلمية ومنتدياتهم، وتجول في حدائقهم ومشى في أزقتهم، ودخل إلى ملاعبهم، وجلس في مقاهيهم ومنتدياتهم. يضاف إلى ذلك أن المغرب في حاجة إلى حليف من حجم تركيا؛ تركيا ناهضة وقوية ومستقرة. لذلك حرصت، شخصيا، على الحفاظ على علاقاتي مع مكونات الطيف الإسلامي التركي، ولم يمنعني ذلك من نصحهم، ومن الاختلاف معهم، خصوصا مع إخوة جماعة الخدمة، والذين بدؤوا يؤسسون خطابا سياسيا هجوميا على العدالة والتنمية، غير دقيق، وغير محسوب العواقب، وفي بعض الأحيان بناء على تقديرات سياسية غير دقيقة وغير استراتيجية.
وفي المقابل لاأتصور أن حملة الحكومة التركية، وتصريحات أردوغان على حدتها وقساوتها، ومهما كانت مبرراتها، قادرة على اجتثاث جماعة الخدمة، مهما تمت مصادرة ممتلكاتها ومقراتها، وإغلاق مدارسها، واعتقال المنتسبين لها، لأنها، ببساطة، هي في الأصل فكرة. والأفكار لاتموت بهكذا إجراءات، بل تحي أكثر وتؤثر أكثر باعتقال حمالها أو اضطهادهم أو قتلهم، ولنا في التاريخ عبرة. كما قد تدفع تلك الاجراءات القاسية إلى انبثاق خطاب متطرف داخل جماعة الخدمة يتغذى من المظلومية والإهانة والحصار الذي تتعرض له الجماعة، ويصعب التحكم في مساراته واتجاهاته. كما أن اجتثاث جماعة الخدمة هو، بمعنى آخر، تدمير لحاضنة اجتماعية وتربوية وأخلاقية لمشروع العدالة والتنمية نفسه؛ إذ قد يظهر الأثر الكارثي للاجتثاث على المدى المتوسط والبعيد.وسيكون أول المستفيدين من عمليات الاجتثاث أعداء تركيا الناهضة، في الخارج، وأعداء المشروع الإسلامي الديموقراطي في الداخل. ويوم يغادر العدالة والتنمية الرئاسة والحكومة سيعرف مقدار الخطأ الفادح الذي وقع فيه باجتثاث رصيد اجتماعي وتربوي وأخلاقي مما تمثله جماعة الخدمة، ربما اختلف معها اليوم، ومع قيادتها، خاصة فتح الله غولن، ومهما كانت علاقتها بالانقلاب، دعما أو سكوتا، أو ربما كانت مجرد كبش فداء استغفل من قوى معادية لأردوغان ولمصالح تركيا الحقيقية في الداخل أو في الخارج، من أجل إسقاط تركيا الناهضة.
إننا مطابون اليوم، خصوصا من مثقفي المغرب، ممن لهم علاقة بالأتراك بتطوير خطاب معتدل في الموضوع بما يفتح الإمكانية للبحث عن حلول وسطى خارج منطق الاحتراب والصراع الذاتي، مما يستفيد منه بلدنا المغرب كبلد صديق لتركيا وداعم لها في محنها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.