ترددت على لسان مختلف المتدخلين في نقاشات الجلسة الأولى من الندوة الدولية الخامسة حول حرية الإعلام، تحت عنوان»التواصل والحرية: تحدي الإدراك«، والتي نظمتها وزارة الاتصال يومي 15 و16 يوليوز 2016، بشراكة مع مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية بالرباط، على أن "الموضوعية غير موجودة". وهو رأي لا يعتبره المناقشون في الندوة كإشكال مهني يدخل في إطار أخلاقيات وقواعد المهنة، بقدر ما هو إشكال إنساني يرتبط بمسألة غاية في التعقيد تتمثل في الإدراك، أي بتصور الواقع وتمثله. إن هذا الإشكال لا يحضر فقط في مهنة الصحفي، وفي حقل الإعلام والتواصل، وإنما في كافة مناحي العلوم الإنسانية، بما فيها العلوم السياسية، وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، والتي تتخذ من التمثلات أهم مواضيعها. فإلقاء لمحة حول هذه العلوم يضعنا أمام خلاصة، ذكرها عالم السياسة جون واتربوري، على شاكلة اعتراف، في مقدمة كتابه أمير المؤمنين، وهي أن الموضوعية صعبة المنال في ميدان العلوم الاجتماعية1. ما يفسر هذه الصعوبة، هو ما يجيبنا عنه حقل الفلسفة عبر علم البراديغم سواء عبر نظريات توماس كون، أو سواء عبر اجتهادات الفيلسوف الفرنسي إذغار موران حول المنهج، والتي اعتمد فيها على كتابات توماس كوهن حول البراديغم. لقد تحول كون من الفيزياء إلى تاريخ العلوم وعاد ثانية إلى هموم فلسفية أكثر، هي التي كانت في البدء قد قادته إلى التاريخ، وذلك عندما طلب منه مد يد المساعدة في تلقين جامعي يقوم على إعطاء دروس تجريبية في الفيزياء لمن ليسوا من ذوي الاختصاص العلمي، مما قوض من الأساس، هو ونظريات وممارسات علمية متجاوزة بعضا من مفاهيمه الأساسية حول طبيعة العلم وأسباب نجاحه الخاص2. دون كون هذه التجربة عبر كتابه بنية الانقلابات العلمية، والذي عرض فيه عدة أمثلة لانقلاب الرؤية لدى علماء الفيزياء والكيمياء بعد ظهور براديغمات جديدة، ويعني بذلك الاكتشافات العلمية التي تحظى بإجماع كافة العلماء، وتحدد لجماعة الباحثين نوعية المشاكل والحلول لفترة ما3 فتتغير رؤيتهم للطبيعة . وقد اعتبر إدغار موران على أن الواقع مجرد فكرة4، بمعنى أن الواقع ليس هو الواقع كما هو، وإنما الواقع كما نتمثله ونبنيه على شكل صور ذهنية. كما سبق لسغموند فرويد أن اعتبر بأن الإنسان لا يتوفر على محك داخلي يجعله قادرا على التمييز بين الواقع والتصور. تبرز هذه الاجتهادات، والتي يمكن تصنيفها بكونها حديثة، في البراديغم الجديد الذي طبع العلوم الإنسانية والاجتماعية على الخصوص في الوقت المعاصر، عبر الاتجاه نحو التأويل، أي فهم تمثلات الفاعلين والتي تحدد سلوكياتهم، والابتعاد عن الوضعانية. فبعدما تميزت السوسيولوجيا بأبحاث إيميل دوركايم بتشييء الظاهرة الاجتماعية، أي دراسة الوقائع الاجتماعية كأشياء، عبر الاعتماد على بنية الدولة والمؤسسة...، وذلك بمعزل عن تمثلات الفاعلين والتي تساهم في فهم هذه الظاهرة، تميزت العلوم الاجتماعية بعد ذلك بطفرة تمثلت في التركيز على التأويل والبحث عن المعاني والدلالات التي يضفيها مختلف الفاعلين على الظاهرة الاجتماعية التي يساهمون في إنتاجها وتفسر سلوكياتهم في إطار ثقافي واجتماعي. وفي الستينات، ظهرت نظرية الاختيار العقلاني، والتي طبعت ميدان العلوم الإنسانية لفترة طويلة، قبل أن تظهر مدرسة شيكاكو الثانية والتي ستجمع بين نوعين من التحليل، هما البنيوية ودراسة تمثلات الفاعلين عبر فكرة التفاعلية الرمزية. وكذلك، قبل أن يقوم ريمون بودون حديثا بإحياء منهج كبار رواد علم الاجتماع la méthode compréhensive أو الطريقة التفهمية، والتي تهدف إلى استيعاب سلوكيات الأفراد عبر فهم معتقداتهم التي يفسرون بها هذه السلوكيات، وهي طريقة تقترب من طريقة كليفورد كيرتز، التوصيف الكثيف، أو التأويل انطلاقا من تمثلات الفاعلين. وفي السبعينات، وبالاعتماد على الفيلسوف كلبرت رايل، قام الأنثروبولوجي الأمريكي كليفورد كيرتز بصياغة نظرية تأويلية للثقافة، اعتبر فيها، مع ماكس فيبر، على أن الإنسان حيوان غارق في شبكات من الرموز نسجها بنفسه حول نفسه، وفك هذه الشبكات، بحسب كيرتز، لا يحتاج إلى علم تجريبي يبحث عن قانون، وإنما إلى تأويل يبحث عن معنى. وذلك عبر تقنية التوصيف الكثيف، أي فهم تصورات الفاعلين المحددة لسلوكياتهم كما يفهمونها أنفسهم5. وفي التسعينات أنتج عالم الاجتماع ريمون بودون نظرية تشكل طفرة في مجال العلوم الاجتماعية، انطلق فيها من تشظي النظرية الاجتماعية المعاصرة، ليصيغ نظرية عامة، اعتبرها قادرة على تفسير مختلف الظواهر الاجتماعية، وقد أطلق عليها إسم النظرية العامة في العقلانية. يرى بودون عبر هذه النظرية بأن العمل الاجتماعي يخضع للمعنى، أي لمعتقدات الفاعلين، وهي معتقدات تتخذ في أذهانهم طابعا إدراكيا، ويعتبرونها بمثابة أسباب مفسرة لسلوكياتهم، وبالتالي، فبحسب هذه النظرية، ينبغي البحث عن المعنى6. إن مختلف هذه المناهج تبين لنا مدى ذاتية سلوكيات الفاعلين، والتي تحددها في أغلب الأحيان عوامل غير عقلانية، مثل التنشئة، المعتقدات، الخلفيات الفكرية، السياق الاجتماعي والثقافي. ولعل هذه الأطر هي ما ركزت عليه أولى نظريات علم الاجتماع والتي ربطت سلوكيات الأفراد بدوافع غير عقلانية، قبل أن تسميها السوسيولوجيا الحديثة عبر أبحاث إميل دوركايم بالحتميات الاجتماعية. إن هذه الأطر بالنسبة لإميل دوركهايم هي أطر غير واعية يولد الأفراد ويجدونها مسبقا، وذلك بحكم أن وجود المجتمع في المنطق الدوركايمي يسبق وجود الأفراد7، وبالتالي تحتم عليهم سلوكيات محددة وطريقة محددة في التفكير هي طريقة تفكير المجتمع. و بالتالي فسلوك الفرد محكوم بالوعي الجمعي. فبحسب دوركايم، ليس فقط أن أنواع السلوك أو التفكير خارجة عن الفرد وإنما لديها قوة تفسيرية وقسرية، وذلك بحكم أنها تفرض نفسها عليه، سواء أراد ذلك أم أبى8. إننا إزاء عالم لا يقدم الوقائع معزولة عن تصورات الفاعلين، بقدر ما هو عالم مفعم بالمعنى. وإذا أردنا أن نعرف من أين يأتي هذا المعنى، يجيبنا على ذلك حقل الفلسفة، وحقل علم النفس الاجتماعي. يعتبر هذا الأخير على أن المعنى أو المعتقدات التي يحملها الفاعلون في أذهانهم، ويفسرون بها تصرفاتهم هي معتقدات غير واعية، تعود للفكر الاجتماعي وللثقافة السائدة، وللتنشئة، وللدين... وباقي البنى غير الواعية، وهو ما توضحه الترجمة الحديثة لكتاب جوستاف لوبون، الآراء والمعتقدات، وحجته في ذلك، أنه لو كان المعتقد يستند إلى العقل لتشابه لدى جميع الناس9. في حين أن حقل الفلسفة هو أعمق من حقل علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي، بحيث يعتبر عبر أبحاث إدغار موران على أن هناك نواة عقلية افتراضية هي التي تجمع المنطق والتصور والمعتقدات، وهو ما يسميه بالبراديغم، مستندا في ذلك على الكتاب الثاني لتوماس كون والذي وظف فيه مصطلح البراديغم الاجتماعي والثقافي، بعدما كان مقتصرا في كتابه الأول على البراديغم في مجال العلوم الحقة10. إن الإشكال الذي توضحه لنا هذه الرؤى والمناهج ليس هو فقط أن كل السلوكيات هي مذوتنة، أو هي خليط من التفاعل الرمزي بين البنيات الكبرى والتمثلات الفردية، وإنما كذلك، ليس لكل الفاعلين القدرة على الإدراك المعرفي للخلفيات اللاواعية لسلوكياتهم، فليس كل الناس فلاسفة، أو متخصصين في العلوم الإنسانية، يفصلون بين الواقع كما هو وبين بناءات الآخرين لهذا الواقع. كما أنه حتى الباحثين المتخصصين يفكرون وينتجون بحوثهم في سياق سياسي واجتماعي وثقافي يحدد مسبقا خلفياتهم الفكرية. ويبقى الفلاسفة هم الفئة الوحيدة القادرة على التعالي عن الواقع كما يبنيه الآخرون، وتحليل الظواهر بمعزل عن هذه البناءات، ما داموا يبحثون عن الحقيقة. لكن، أي دور للفلسفة في ما يتلقنه المغاربة عبر الجامعة والمدرسة، وأي دور لهذه الأخيرة في النقاشات العمومية، وفي بناءات المواطن العادي، وذوي الخبرات المعرفية ذات الصبغة البركماتية والمهنية. فما دامت أن الفلسفة لم يُرتق بها بعد إلى هذا الدور، يمكننا أن نقول بأنه لا وجود للموضوعية أمام تغييب دور الفلسفة، وبأنه لا زال الإنسان الحديث بمثابة حيوان ثقافي غارق في شبكة من الرموز. ومن المنطقي القول بأنه لا وجود للموضوعية أمام ضعف إحساس الأفراد الفاعلين بالهيمنة التي تمارسها عليهم البنى اللاواعية. بيبليوغرافيا واتربوري، جون، أمير المؤمنين، الملكية والنخبة السياسية المغربية، ترجمة عبد الغني أبو العزم، عبد الأحد السبتي، عبد اللطيف الفلق، مؤسسة الغني، ط3، 2013، ص 12. س. كون، توماس، بنية الانقلابات العلمية، ترجمة سالم يفوت، دار الثقافة، الطبعة الأولى، 2005. ص 11. موران، إدغار، المنهج، الأفكار: مقامها، حياتها، عاداتها وتنظيمها، الجزء الرابع، ترجمة، د. جمال شحيد، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، دجنبر 2012. گليفورد، گيرتز، التوصيف الكثيف، نحو نظرية تأويلية للثقافة، في كتاب تأويل الثقافات، ترجمة محمد بدوي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1 ، 2009، صفحات، 79- 128. بودون، ريمون، أبحاث في النظرية العامة في العقلانية، العمل الاجتماعي والحس المشترك، ترجمة، د. جورج سليمان، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، يونيو 2010. Durkheim Emile, les règles de la méthode sociologique, 13e édition « Quadridge » : 2007. لوبون، جوستاف، الآراء والمعتقدات، ترجمة عادل زعيتر، دار العالم العربي، الطبعة الأولى يناير 2012 . 1 - واتربوري، جون، أمير المؤمنين، الملكية والنخبة السياسية المغربية، ترجمة عبد الغني أبو العزم، عبد الأحد السبتي، عبد اللطيف الفلق، مؤسسة الغني، ط3، 2013، ص 12. 2 - س. كون، توماس، بنية الانقلابات العلمية، ترجمة سالم يفوت، دار الثقافة، الطبعة الأولى، 2005. ص 11. 3 - نفسه، ص 15. 4 - موران، إدغار، المنهج، الأفكار: مقامها، حياتها، عاداتها وتنظيمها، الجزء الرابع، ترجمة، د. جمال شحيد، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، دجنبر 2012. 5 - گليفورد گيرتز، التوصيف الكثيف، نحو نظرية تأويلية للثقافة، في كتاب تأويل الثقافات، ترجمة محمد بدوي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1 ، 2009، صفحات، 79- 128. 6 - بودون، ريمون، أبحاث في النظرية العامة في العقلانية، العمل الاجتماعي والحس المشترك، ترجمة، د. جورج سليمان، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، يونيو 2010. 7 - Durkheim Emile, les règles de la méthode sociologique, 13e édition « Quadridge » : 2007. 8 - Ibid. 9 - لوبون، جوستاف، الآراء والمعتقدات، ترجمة عادل زعيتر، دار العالم العربي، الطبعة الأولى يناير 2012 . 10 - موران، إدغار، المنهج، الأفكار: مقامها، حياتها، عاداتها وتنظيمها، مرجع سابق. *باحثة في العلوم السياسية والاجتماعية، بجامعة محمد الخامس، أكدال.