من يتأمل علم الاجتماع بدقة، فهناك منهجان مهيمنان عليه: منهج علمي موضوعي ومنهج ذاتي إنشائي تأملي وأخلاقي. ويعني هذا أن ثنائية الذاتية والموضوعية حاضرة في مجال العلوم الإنسانية بشكل لافت للانتباه. وفي هذا ، يقول إدغار موران(Edgar Morin):"هناك نمطان من السوسيولوجيا في مجال البحث الاجتماعي: سوسيولوجيا أولى يمكن نعتها بالعلمية ، وسوسيولوجيا أخرى يمكن نعتها بالإنشائية .وتعتبر الأولى بمثابة طليعة السوسيولوجيا.في حين، تعتبر الثانية بمثابة المؤخرة التي لم تتحلل ،بشكل مناسب، من إسار الفلسفة، ومن المقالة الأدبية والتأمل الأخلاقي. يستعير النمط الأول من السوسيولوجيا نموذجا علميا كان بالضرورة هو نموذج الفيزياء في القرن التاسع عشر. ولهذا النموذج ملمحان، فهو آلي وحتمي في آن واحد، إذ يتعلق الأمر، في الواقع، بتحديد القوانين والقواعد التي تؤثر، تبعا لعلاقات سببية، خطية ومنتظمة، في موضوع تم عزله، وفي مثل هذا النموذج يتم استبعاد كل مايحيط بالموضوع المدروس من موضوعات أخرى.يضاف إلى ذلك أن هذا الموضوع المدروس يتم تصوره كما لو كان مستقلا استقلالا كليا عن شروط ملاحظته.ولاشك أن مثل هذا التصور يستبعد من الحقل السوسيولوجي كل إمكانية لتصور ذوات أو قوى فاعلة أو مسؤولية الذوات وحريتها. أما في السوسيولوجيا الإنشائية، فإن ذات الباحث تحضر، بالمقابل، في موضوع الباحث، فهو ينطق ، أحيانا، بضمير المتكلم، ولايواري ذاته...لقد كان مفهوم الذات غير مستساغ من قبل المعرفة العلمية ، لأنه كان مفهوما ميتافيزيقيا ومتعاليا...في حين، إن تقدم المعرفة البيولوجية الحديثة، يسمح، اليوم، بمنح مفهوم الذات أساسا بيولوجيا. فماذا يعني أن يكون الإنسان ذاتا، اليوم؟ إنه يعني أن يضع الإنسان نفسه في قلب عالمه...فالذات هي، بالجملة، الموجود الذي يحيل إلى ذاته وإلى الخارج والذي يتموضع في مركز عالمه."1 وبناء على ما سبق، هل يمكن دراسة الظواهر المجتمعية في ضوء العلوم الوضعية أو الطبيعية أو التجريبية على أنها أشياء ومواد وموضوعات، كما يقول إميل دوركايم وأوجست كونت ؟ أم ندرسها في ضوء المقاربة الذاتية أو التفهمية كما يرى ديلتاي وماكس فيبر؟ أم يمكن الجمع بين هذين المنهجين في دراسة علم الاجتماع؟ إذاً، هناك مواقف مختلفة حول المنهج الصالح لدراسة الظواهر المجتمعية ، ويمكن حصرها فيما يلي: الموقف الوضعي: تشير كلمة السوسيولوجيا إلى عنصرين مترابطين هما: علم ومجتمع.بمعنى أن السوسيولوجيا تدرس الظواهر المجتمعية دراسة علمية موضوعية، باستجلاء العلاقات السببية والارتباطية بين المتغيرات المدروسة، سواء أكانت مستقلة أم تابعة. وفي هذا الإطار، يقول مارسيل موس (Marcel Mauss) " السوسيولوجيا هي كلمة وضعها أوجست كونت ليشير بها إلى العلم الذي يعنى بدراسة المجتمعات...وكل ما تصادر عليه السوسيولوجيا هو، ببساطة ، اعتبار أن ما يسمى بالوقائع الاجتماعية هي وقائع موجودة في الطبيعة .أي: إنها خاضعة لمبدإ النظام والحتمية الكونيين، وأنها، بالتالي، وقائع تنطوي على معقولية.2" هذا، ولقد تأثرت السوسيولوجيا مع إوجست كونت وإميل دوركايم بالمرحلة الوضعية التي تبنت مناهج العلوم الطبيعية او مناهج العلوم التجريبية، بالاحتكام إلى الفرضيات، والملاحظة الخارجية، والتجريب، وكثرة الاختبارات، واستصدار القوانين والنظريات العامة. أي: يقوم علم الاجتماع الوضعي على الملاحظة العلمية الخالصة، والتجريب الدقيق، والمنهج المقارن، والاسترشاد بالحتمية التجريبية القائمة على العلية والارتباط بين التغيرات المستقلة والتابعة.لذا، كانت العلوم الطبيعية والفيزياء والرياضيات والكيمياء نموذجا للاقتداء من قبل السوسيولوجيين الوضعيين. وعليه، تدرس السوسيولوجيا عند إميل دوركايم الظواهر الاجتماعية على أساس أنها اشياء مادية وموضوعات مادية، يمكن إخضاعها للملاحظة الخارجية. وفي هذا النطاق، يقول دروكايم: " إن الظواهر الاجتماعية تشكل أشياء، ويجب أن تدرس كأشياء..لأن كل ما يعطي لنا أو يفرض نفسه على الملاحظة يعتبر في عداد الأشياء...وإذاً، يجب عينا أن ندرس الظواهر الاجتماعية في ذاتها، في انفصال تام عن الأفراد الواعين الذين يتمثلونها فكريا، ينبغي أن ندرسها من الخارج كأشياء منفصلة عنا...إن هذه القاعدة تنطبق على الواقع الاجتماعي برمته وبدون استثناء."3 وإبعاد الذاتية والتأملية في البحث، واستعمال التجريب، وتكرار الاختبارات، والاحتكام إلى الجبرية الاجتماعية التي تستند إلى الحتمية، والعمومية، والجبرية، والعقاب المجتمعي، والابتعاد عن التصورات المسبقة، والتخلص من الأفكار الشائعة بنقدها وغربلتها علميا وموضوعيا. وفي هذا، يقول دوركايم:"إن القاعدة التي ننطلق منها لاتفترض أي تصور ميتافيزيقي، ولاتتتضمن ،أي نظر تأملي في كنه الموجودات.إن ما تطلبه هو أن يضع عالم الاجتماع نفسه في وضع فكري شبيه بالوضع الذي يكون عليه الفيزيائيون والكيميائيون والفيزيولوجيون، حينما ينخرطون في استكشاف منطقة مجهولة عن ميدانهم العلمي .فعلى عالم الاجتماع ، بدوره، وهو يحاول النفاذ إلى المجتمع أن يعي بأنه ينفذ إلى عالم مجهول.وعليه، أن يشعر بأنه، أيضا، إزاء وقائع غير منتظرة مثلما كائن عليه وقائع الحياة، قبل أن تتشكل البيولوجيا كعلم."4 يقوم التصور الوضعي عند دوركايم على التخلص من الخطاب التأملي الذاتي والفلسفي، وتبني مناهج العلوم الطبيعية المبنية على التجريب، والملاحظة الخارجية الدقيقة، والمقارنة العلمية، أو الارتكان إلى الخطوات المنهجية التالية: تعريف موضوع الدراسة، وملاحظة الظواهر بإعادة بنائها بناء علميا، وتنظيم الوقائع في ضوء استكشاف العلاقات التي تتحكم في المتغيرات المستقلة والتابعة، والخاصية العلمية للفرضية السوسيولوجية،وعليه، يعتمد الموقف الوضعي على منهجية استقرائية تجريبية ، تستند إلى مشكلات اجتماعيةن وفرضيات علمية، والتجريب التكراري والترابطي، وتمثل الإحصاء الرياضي، والوصول إلى اليقين في شكل قوانين ونظريات. وفي هذا، يقول السوسيولوجي الفرنسي كلود بابييه (Jean Claude Babier):" إن السوسيولوجيا هي علم، وذلك بالتحديد، لأن من يمارسون البحث السوسيولوجي يسعون إلى القيام به بروح علمية ...فالسوسيولوجيا تسعى إلى تحديد الثوابت والقواعد التي تتمفصل ضمن نظريات أو أبنية نظرية. وذلك من أجل كشف الظواهر الاجتماعية الي تقدم نفسها لعلماء الاجتماع ولمعاصريهم، بوصفها مشكلات اجتماعية. فالمظهر الأول للعمل الاجتماعي هو، إذاً، تعيين المشكلة أو المشكلات الاجتماعية التي يتعين دراستها...وتفسير الظواهر الاجتماعية يتم بالاعتماد على نظريات تشكل أنساقا وأبنية تقوم على قضايا منظمة بشكل عقلي. تقابل تلك الأبنية بوقائع تجريبية، وتتطور تبعا لمقابلتها بوقائع ومعطيات اختبارية أو تجريبية.كما تقوم تلك النظريات على مسلمات، أي على جملة من القضايا الأساسية غير مبرهن عليها، تعتبر بمثابة قضايا بديهية...وتحدد هذه المسلمات، بدورها، نموذجا نظريا. أي: إطارا تصوريا شاملا... والسوسيولوجيا تقوم على ثلاث مسلمات، وتعتمد نموذجين نظريين أساسيين: المسلمة الأولى: يشكل الإنسان نوعا وحيدا أو ثابتا لايتغير في الزمان... المسلمة الثانية: يشكل مجموع الوقائع الاجتماعية (المجال الاجتماعي) مجالا خارجيا بالنظر إلى الفرد... المسلمة الثالثة: ينطوي تنظيم الوقائع الاجتماعية على معنى يجري كشفه عن طريق تطبيق مناهج الفكر العلمي..."5 وهكذا، نجد إميل دوركايم ، في كتابه (الانتحار)، ينطلق من نتيجة اساسية هي أن الانتحار ليست ظاهرة نفسية او عضوية، بل هي ظاهرة مجتمعية، مرتبطة بتقسيم العمل في المجتمع الرأسمالي الصناعي. وبالتالي، يتحدد معدل الانتحار بحسب درجة اندماج الأفراد في الجماعة ، والعلاقة بينهما علاقة علية أو سببية. وبناء على ما سبق، يعتمد المنهج السوسيولوجي الوضعي على التفسير أو دراسة العلاقات السببية والارتباطية بين الظواهر المدروسة أو الملاحظة . ويعني هذا أن التفسير " هو كشف العلاقات الثابتة التي توجد بين عدد من الحوادث والوقائع، واستنتاج أن الظواهر المدروسة تنشأ عنها.إنه منهج العالم الفيزيائي الذي يختزل مجموعة معقدة من الظواهر إلى منظومة بسيطة من العلاقات تشكل ترسيمة أو خطاطة صورية للظاهرة موضوع الدراسة. ولايتساءل العالم عن علة مثل تلك العلاقات الأولية...لأن كل تفسير، سوى ذلك، سيتجاوز نطاق العلم ، ليلتحق، بوجه من الوجوه، بالأسطورة والسحر."6 الموقف التفهمي: يستند الموقف الفهمي إلى مبدأ الفهم الذي يناقض مبدأ التفسير الذي نجده عند الوضعيين. فالخاصية المميزة للفهم هي البداهة والوضوح، وإدراك التجربة المعاشة إدراكا مباشرا ، دون إحضاعها للتفسير العلي، والارتباط السببي.أي: ندرك بعض الحوادث والوقائع بالبداهة والمباشرة ، دون التعمق في الأسباب والعلل ، وتفسير الوقائع تفسيرا علميا موضوعيا للبحث عن الحتمية أو الجبرية بين الوقائع المردوسة. ومن هنا، يقول السوسيولوجي الفرنسي جول مونرو(Jules Monnrot):" فالخاصة المميزة لظاهرة الفهم هي البداهة والووضح.وما يكون موضوع تفهم يكون على قدر من الوضوح، بحيث يكون كافيا ومكتفيا بذاته.فمن المستحيل سيكولوجيا الشك في البداهة، بل يتعين التسليم بها .فالبداهة تأخذ شكل معرفة مباشرة حالما عرضت لنا بوصفها بداهة.وكل محاولة نقوم بها لتأسيس البداهة على أساس الاستقراء هي محاولة ستفضي إلى تقويضها...ففعل الفهم فعل معرفي مباشر، وعلينا أن نقول عن الفهم ما يقوله باسكال عن روح الدقة، فهو رؤية نافذة، وإدراك مباشر. إن الفهم هو إدراك لدلالة معيشة تعطى لنا بمثابة تجربة بديهية...والفهم بالمعنى الذي نشير إليه في هذا المقام، هو دوما فهم لوضعية وجودية وجدانية، فنحن نستطيع تفهم وضعية ما أو فهم تطورها وبخلاف العلاقات القابلة للفهم، فإن العلاقات التفسيرية هي علاقات...تقوم على الاعتقاد بصحة جملة من الطرائق والإجراءات الموضوعية. فالفهم هو بداهة مباشرة .في حين، إن التفسير هو ترير أو تعليل حدودث ظاهرة ما بافتراض ظاهرة أخرى."7 وعليه، إذا كان التفسير هو إدراك للعلاقات العلية والسببية ضمن المنظور الوضعي، فإن الفهم هي معرفة بالذات في علاقتها بالوجود.اي: إن الفهم معرفة واضحة وبديهية ومباشرة ، تساعدنا على إدراك تجار بالذات إدراكا واضحا. اضف إلى ذلك أن الفهم فعل ذاتي شعوري ووجداني داخلي مرتبطة بالذات العارفة أو الذات الفهمة التي تسعى جاهدة لإدراك الواقع مباشرة، دون المرور بالوقائع العلمية أو السببية أو اللجوء إلى الاستقراء التجريبي. وعلاوة على ذلك، يرتبط الفهم بالمعنى والدلالة والمقصدية والغاية. وإذا كان الفعل الإنساني فعلا إراديا وواعيا، لايتكرر، وغير مطرد، فيصعب دراستع دراسة علمية تفسيرية. ومن الأفضل، الاكتفاء بفهم الفعل الإنساني وتأويله، بالنظر إليه بمثابة واقعة إنسانية دالة ، وليس معطى فيزيائيا أو تجريبيا ينبغي دراسته دراسة موضوعية، بل ينبغي دراسة الفعل الإنسان ضمن عناصره الدالة في نماذج وعبر أنماط مثالية ، وليس من خلال أنساق مادية. هذأن يدل الفهم على إدراك الأافعال الإنسانية وتأويلها، ونقل إحساس أو تقدير أو انفعال ما. ويعرف ديلتاي (M.Dilthy) الفهم بكونها تجربة جوانية وحدسية داخلية، تقوم على العلامات الحسية التي تكون انعكاسا لهذا الباطن الداخلي:" نطلق اسم الفهم على السيرورة التي نعرف من خلالها ماهو جواني(باطني) ، اعتمادا على علامات ندركها من الخارج بواسطة حواسنا .فحين أقول، مثلا، لم أفهم كيف تصرفت بهذه الكيفية أو حين أقول أيضا: إنني لم أعد أفهم نفسي، فإنني أعني بذلك، في الحالة الأولى ، أن مظهرا من مظاهر ذاتي الذي اندغم في العالم الحسي، أضحى يبدو لي كما لو أنه يصدر عن قوة غريبة عن ذاتي، وأنني عاجز عن تأويله كما هو، وفي الحالة الثانية أعني بذلك أنني دخلت في حالة غريبة، لاعهد لي بها.وترتيبا على ذلك، فنحن نطلق اسم الفهم على السيرورة التي نعرف بواسطتها ما هو نفسي باطني اعتمادا على علامات حسية تعتبر تجليا أو مظهرا له."8 ظهر الموقف التفهمي مع ماكس فيبر (Max Weber) الذي أحدث قطيعة إبستمولوجية في علم الاجتماع، بالانتقال من الموضوع المجتمعي كما عند إميل دوركايم إلى موضوع الفاعل الاجتماعي. ويتسم هذا التوجه بالطابع الدلالي والتفهمي والتأويلي، والتركيز على الذات بدل الموضوع.أي: دراسة الفرد في علاقته بأعضاء الجماعة التي ينتسب إليها أو علاقاته مع المجتمع في كليته، بالتوقف عند مختلف الدلالات والمعاني والمقاصد والغايات والنوايا التي يعبر عنها الفعل الإنساني والسلوكي في علاقته بأفعال الآخرين، ضمن الكينونية المجتمعية نفسها. وعليه، تسعى النظرية التفهمية مع ماكس فيبر إلى فهم الظاهرة المجتمعية باستخلاص دلالات أفعال الأفراد ، واستكشاف معانيها ومقاصدها وغاياتها ونواياها. والدليل على ذلك كتابه عن الراسمالية حيث بين بأن الأخلاق الكالفينية البروتستانتية هي التي ساهمت في نشأة الرأسمالية، والدليل على ذلك الأفعال السلوكية كحب العمل، وحسن التدبير والادخار، والاهتمام بتراكم الثروات، والابتعاد عن الزهدوالتقشف والانطواء السلبي الذي نجده في الديانة الكاثوليكية. وفي هذا السياق، يقول يير بريشيي (Pierre Bréchier)" إن فهم الفعل الإنساني ، حسب فيبر، ليس مسعى سيكولوجيا، بل هو السعي إلى فهم السيرورة المنطقية التي تقود الفاعل الاجتماعي إلى اتخاذ قرار ما في ظرف خاص.إذ يتعين إعادة تشكيل المنطق العقلي للفاعل، كما ينبغي، أيضا، فهم الجانب اللاعقلي في سلوكه، تبعا للأهداف التي يتوخاها والوسائط التي يتوسلها، من أجل التوصل إلى فهم تفسيري للفعل.9" لكن الموقف التفهمي قاصر عن إدراك الحقائق إدراكا علميا صحيحا، ولايمكن الوصول إلى اليقين إلا بالجمع بين الفهم والتفسير معا ، ذلك " أن المعرفة التي تتأسس على الفهم فقط هي معرفة مسرفة في مقتضياتها ومطالبها ومقصرة فيها في آن واحد...كما يبدو ، أيضا، أن الرغبة في فهم جميع الظواهر، تجنح بالمعرفة في متاهات الأسطورة والسحر. فالذهنية البدائية هي بالضبط الذهنية التي ترمي إلى فهم كل شيء، أي إلى ربط جميع الظواهر، فيزيائية كانت أم ذهنية بصيرورات الوعي.10" (الموقف التوفيقي: ( الموقف البديل أو المغاير: يقول الفيلسوف البلجيكي جان لادريير (Jean Ladrière) باستحالة دراسة الظواهر الاجتماعية دراسة موضوعية علمية؛ لأن هذه الدراسة تغفل الجوانب الذاتية ، ولاتعنى بدراسة المقاصد والقيم والغايات التي ترتبط بتصرفات الفاعلين وسلوكياتهم ذاخل المجتمع. ومن ثم، يكون التركيز - هنا- على التفسير في ضوء الحتمية أو الجبرية الاجتماعية، وتهميش دور الفهم في رصد دلالات الفعل الإنساني. كما أن تبني المقاربة الذاتية أو التفهمية يلغي البعد الخارجي من الظاهرة الاجتماعية، ويكون التركيز فقط على ماهو ذاخلي ودلالي وفردي. ومن هنا، يصعب على الباحث السوسيولوجي أن يكتفي بمنهج واحد ويستغني عن الآخر. وبالتالي، يستحيل تطبيق التجريب العلمي على الظاهرة الإنسانية.لذا، لابد من البحث عن بديل جديد أو علمية أخرى تتجاوز نطاق العلمية التجريبية ، كأن تكون علمية مرنة تتلاءم مع مرونة العلوم الإنسانية. أي: يدعو جان لاديير إلى تدشين صورة مغايرة للعلمية. وفي هذا الصدد، يقول جان لاديير:" هل بوسعنا أن نعتمد في مجال دراسة الظواهر الاجتماعية على المناهج التي برهنت على جدارتها في ميدان علوم الطبيعة؟...وهل بالإمكان دراسة العناصر المكونة للفعل الانساني بنفس الكيفية التي ندرس بها خصائص موضوع من الموضوعات الفيزيائية؟ ألا نجد أنفسنا ، بخلاف ذلك، إزاء منظومة واقعية تستعصي، بشكل جدري ، عن كل محاولة للموضعة ، وذلك نظرا لاسباب مبدئية؟ يبدو ترتيبا على هدا ،أننا أمام إمكانيتين اثنتين ، الأولى تتطلب ايجاد وسيلة وضع الفاعلين بين قوسين، وذلك من خلال العمل على إبراز الأنساق التي يمكن دراستها عن طريق اعتماد المناهج التي برهنت عن جدارتها في دراسة الأنساق المادية... والإمكانية الثانية ، تكمن في التخلي، بشكل كلي، عن كل المصادر الي يمكن أن تقترح من قبل علوم الطبيعة، وذلك عبر إنشاء أداة تحليل أصيلة تتلاءم وطبيعة الموضوع المدروس(الظواهر الإنسانية والاجتماعية) .أي: تتلاءم والإطار العام للفعل الإنساني... إلا أن كل طريق من هذين الطريقين تعترضه صعوبات، فإذا قررنا تناول الوقائع الاجتماعية بوصفها أشياء أو أنساقا مادية...فإننا سنطرح، بذك، من مجال المعرفة كل ما يتصل بنظام الدلالات ونسق المقاصد والغايات والقيم... ومن جهة ثانية، إذا اخترنا طريق الفهم، ألا نتقيد بمنظور ذاتي بشكل لافكاك منه؟ إن حقل الظواهر الإنسانية والاجتماعية يمكن أن يمنحنا صورة للعلمية مغايرة للعلمية في مجال الظواهر الفيزيائية، إلا أن هذا لا يعني انتظار ظهور نمط لعلوم الإنسان مغاير كلية للشكل المميز للعلوم الطبيعية.11" وعليه، يدعو جان لاديير إلى بديل آخر للعلمية، والسعي نحو إيجاد أداة أصيلة جديدة لمقاربة العلوم الإنسانية بصفة عامة، والعلوم الاجتماعية بصفة خصة، لكن لايمكن تبني هذا الطرح حتى يتم استكشاف هذا العلم البديل، والتحقق من هذه العلمية المغايرة، وتبيان خطواتها النظرية والتطبيقية، وإلا سنكون عدميين. وعني هذا لابد من التوفيق بين المنهجين: الفسيري والتفهمي لدراسة الظواهر الاجتماعية حتى يتحقق لنا بديل علمي إنساني جديد. الخاتمة: 1 -Edgar Morin: Sociologie, Fayard, 1984, pp:11-18. 2 - Marcel Mauss: Essai de sociologie, éd Minuit, Paris, France, 1971, pp:6-7. 3 - E.Durkheim:Les règles de la méthode sociologique, éd Flammarion, 1988, p:103-104. 4 - E.Durkheim:Les règles de la méthode sociologique, éd Flammarion, 1988, p:79. 5 - Jean Claude Babier: Initiation à la sociologie, éd.Erasme, France, 1990, pp:14-17. 6 -Gilles Gaston Granger:La raison, PUF, 1993, pp:81-83. 7 -Jules Monnrot: Les faits sociaux ne sont pas des choses, Gallimard, Paris, pp:38-42. 8 -M.Dilthy:Le monde se l'esprit.t1, Aubier- Montaigne, 1947, pp:320-322. 9 - Pierre Bréchier: Les grands courants de la sociologie, PUF, 2000, pp:80. 10 -Gilles Gaston Granger:La raison, PUF, 1993, pp:81-83. 11 -Jean Ladrière:La dynamique de la recherche en sciences sociales, PUF, 1994, pp:5-11.