ليست الانقلابات العسكرية شيئا جديدا على تركيا الحديثة، فقد شهدت أول انقلاب عسكري في 27 مايو 1960 بقيادة الجنرال جمال جورسيل على حكومة رئيس البلاد جلال بايار، وكان الانقلاب ناجحا. أما الانقلاب الثاني كان في 12 مارس 1971، وعُرف باسم "انقلاب المذكّرة"، وهي مذكّرة عسكرية أرسلها الجيش بدلا من الدبابات، وفي 12 سبتمبر 1980 حصل انقلاب "كنعان إيفرين"، الذي أعقبته حالة قمع سياسي غير مسبوقة، وهو من أشهر الانقلابات في التاريخ التركي لما تبعها من قمع ودموية أشد من سابقيها، وبالدستور الذي قدم للاستفتاء الشعبي في 7 نوفمبر 1982، أصبح "إيفرين" رسميا الرئيس السابع للجمهورية التركية. الانقلاب الثالث كان أقل دموية، إذ أصدر الجيش مذكرة 1997 العسكرية أو عملية 28 فبراير وتسمى أيضا "ثورة ما بعد الحداثة"، وتتضمن القرارات الصادرة عن قيادة القوات المسلحة التركية في اجتماع مجلس الأمن القومي يوم 28 فبراير 1997، والتي عجلت باستقالة رئيس الوزراء نجم الدين أربكان من حزب الرفاه وإنهاء حكومته الائتلافية، وتزعم هذا الانقلاب الأميرال التركي سالم درفيسوجلو. بعد تأسيس حزب العدالة والتنمية التركي، حقق فوزا كاسحا في انتخابات 2002، هذا الاكتساح السياسي الذي حققه حزب أردوغان، كان بمثابة إشارة من الشعب التركي الذي مل من حكم العسكر غير المضمون النتائج، والذي ما يكاد يخرج البلاد من أزمة سياسية حتى يدخلها أخرى، وطبعا فهذه الأزمات كانت تنسحب حتى على القطاع الاقتصادي، مما كان يوقف عجلة التطور والتنمية التركية. لقد عمل حزب العدالة والتنمية على تحقيق نهضة شاملة في تركيا، ونقلها إلى مصاف الدول المؤثرة اقتصاديا وسياسيا إلى جانب القوى الكبرى، وهو ما عزز صدارة حزب العدالة والتنمية في تركيا، التي جعلت أردوغان يفوز في انتخابات الرئاسة ليتوج رئيسا للبلاد، ويواصل المسار التنموي لتركيا الحديثة. إلى أن شهدت البلاد انقلابا عسكريا في يوليوز الحالي، والذي لا زالنا نعيش أطواره، بعد إعلان الرئيس التركي فشله وإحالة المتورطين فيه على القضاء. لقد كان مثيرا للانتباه تجاوب الشعب التركي مع الرئيس أردوغان، عندما دعا الشعب للنزول إلى الشوارع دفاع عن الشرعية التي أوصلت حزبه إلى تولي مقاليد الحكم في البلاد. هذا التجاوب الذي كان غير مسبوق مقارنة مع الانقلابات السابقة، وهو حمل دلالات عميقة تشير إلى تحول جذري في موقف الشعب التركي من الانقلابات العسكرية التي ذاق مرارتها لعقود، كما تشكل لدى هذا الشعب وعي عميق بأهمية الديمقراطية التي حققت لتركيا من التنمية في عقد واحد ما لم يحققه العسكر طيلة عقود. لم يتجاوب مع أردوغان مناصروه أو أعضاء حزب أو المتعاطفون معه فقط، بل حتى أشد مناوئيه من أفراد الشعب وأحزاب المعارضة وغيرها من التنظيمات، وقفوا في وجه الانقلاب انتصارا للشرعية والديمقراطية التي يجنون ثمارها جميعا. وحتى وإن لم يجنوا أصوات الناخبين، فإن ترك المجال مفتوحا أمام ممارسة المعارضة وتعبئة الشعب ضد الحكومة، اعتبرته المعارضة مكسبا ديمقراطيا سيكون مهددا بدوره في حالة نجاح الانقلاب العسكري، فكانت النتيجة اندحار سريع للانقلاب وانتصار الإرادة الشعبية التي حمت الشرعية وحصنتها من خطر الاستبداد العسكري. لقد كان الانقلاب العسكري في تركيا، حدثا تفاعلت معه مختلف شعوب العالم وعلى رأسها الشعوب العربية والمغاربية. وكان لافتا التفاعل القوي للمغاربة مع أحداث الانقلاب، خصوصا على مواقع التواصل الاجتماعي، التي ذهبت الأغلبية الساحقة فيها إلى إدانة الانقلاب، مع قلة قليلة جدا من المساندين للعسكر، والذين تحكمت في مساندتهم اعتبارات إيديولوجية بعيدة كل البعد عن الديمقراطية. التفاعل الشعبي الإيجابي المعارض للانقلاب في المغرب، واكبه موقف رسمي مبكر بإدانة الانقلاب من طرف الدولة المغربية. لكن، ما دلالات معارضة المغاربة لانقلاب العسكر على الشرعية في تركيا ؟ إن أهم خلاصة يمكن الخروج بها من خلال رصد مواقف المغاربة المعارضة للانقلاب، تتمثل في بداية تبلور وعي شعبي بأهمية الديمقراطية التمثيلية، وضرورة احترام الإرادة الشعبية ونتائجها كيفما كانت. خصوصا، وأن مآلات الحراك الاحتجاجي في مجموعة من البلدان العربية والمغاربية احتجاجا على الاستبداد، ورفض بعض الحكام احترام الإرادة الشعبية، كانت مؤسفة جدا وأدت إلى تمزيق وحدة مجموعة من الدول العربية واندلاع حروب طائفية مختلفة. كما أن حكم العسكر في مصر وانقلابهم على الإرادة الشعبية، خلف انطباعا سيئا لدى المغاربة حول العسكر. خصوصا وأن المغرب كانت له تجارب مريرة مع الانقلابات العسكرية التي لحسن الحظ لم تنجح أي منها في تحقيق مساعيها. إن المغرب الذي يعيش اليوم على إيقاع الاستعداد للانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها يوم 07 أكتوبر 2016، يعرف نقاشا سياسيا ساخنا يرتبط بمدى استعداد السلطة لضمان انتخابات تشريعية نزيهة، وتوفير مناخ سليم للمنافسة السياسية. خصوصا، في ظل تخوفات من دعم السلطة لبعض الأحزاب الموالية لها وعلى رأسها حزب الأصالة والمعاصرة. وهو ما يظهر جليا من خلال بعض المضايقات التي يتعرض لها الخصم الأول لحزب الأصالة والمعاصرة، والمتمثل في حزب العدالة والتنمية الذي تشير كل المؤشرات إلى تصدره للمشهد السياسي المغربي الحالي، وإلى استمرار قوته رغم تأثره بتبعات التسيير الحكومي، والذي يرى الكثير من المتتبعين أنه يتعرض لعراقيل كثيرة من طرف السلطة. إن وعي المغاربة بأهمية الديمقراطية، ومساندتهم للشرعية والإرادة الشعبية في تركيا في خضم الانقلاب العسكري الفاشل، هو وعي من المؤكد أنه سينسحب أيضا على نظرتهم إلى السياسة والديمقراطية في المغرب، وسيحفزهم الوقوف البطولي للشعب التركي في وجه الانقلاب العسكري، على المزيد من المطالبة بتعزيز الشرعية والإرادة الشعبية في المغرب. رغم المحاولات المستمرة التي تقوم بها بعض الأطراف، لإبعاد المغاربة عن التأثير في المشهد السياسي، عبر العراقيل المختلفة التي تضعها أمام المشاركة المكثفة لهم في الانتخابات التشريعية المقبلة، خوفا من مخرجات قد لا تناسب ما ينتظره مناصرو التحكم في المغرب. إن انتصار الشعب التركي للإرادة الشعبية خلال الانقلاب العسكري الأخير، ومساندة المغاربة لهذه الإرادة، يحمل رسائل عديدة إلى السلطة في المغرب، على رأسها ضرورة فسح المجال أمام الشعب للتعبير عن إرادته بكل حرية، ومنحه صلاحيات الاختيار والمحاسبة. لكن الرسالة الأكثر أهمية، تكمن في أن الإرادة الشعبية التي صمدت في وجه بنادق العسكر، لن تصمد أمامها محاولات التخدير والتنويم والتحايل السياسي التي يقوم بها أنصار التحكم في المغرب، وإن طال أمدها.. ما كان من الشعب دام للديمقراطية واتصل وما كان من الاسبتداد انقطع عن الديمقراطية وانفصل