نذر قاسم أشهبون ما يفوق ربع قرن من سيرة حياته بهولندا لأجل العمل التطوعيّ الرامي إلى مساندة ذوي الأصول المغربيّة في هذا البلد الأوروبيّ. ويبقى الهولنديّ المغربيّ نفسه، الذي عانق التميّز في أدائه الجمعويّ بالأراضي المنخفضة عموما، وب"هَارلِم" تحديدا، موقنا بأنّ عطاء الفرد لا معنَى له ما دام مرتبطا بمنجزات تستحضر الأنانيّة. ما قبل الهجرة ولد قاسم أشهبون سنة 1961 بمدينة تطوان، بالحيز الغربيّ من منطقة الريف، لكنّه تدرّج حياتيا ودراسيا، طيلة عقدين بعد ذلك، في مسار ارتبط بمدينة الناظور التي نال بها شهادة الباكلوريا، ثم التحق طالبا بجامعة محمّد الأوّل، بمدينة وجدة، من أجل الدراسة بكلية الآداب والعلوم الإنسانيّة، وتخرّج فيها مجازا في التاريخ. قرّر أشهبون مواصلة مشواره الدراسيّ العالي بالعاصمة الرباط، وقد ظفر بفرصة تعميق مداركه وسط جامعة محمّد الخامس متخصصا في الدراسات الإفريقيّة، ما جعله يتخرج في المؤسسة عينها بدبلوم للدراسات العليا في مجال التدقيق الأكاديميّ المذكور. إلى هولندا التحق قاسم أشهبون بالأراضي المنخفضة سنة 1989، وتحقق له ذلك بعد سابق تردّدات على البلاد في إطار زيارات عائليّة. وعن هذا المستجدّ يقول: "كنت أرغب في البقاء بالمغرب وإكمال مشواري الدراسيّ، لكنّ ظروفا عائليّة قاهرة رسمت مساري دون سابق إرادة منّي". "أوّل ما قمت به في بيئتي الجديدة كان تعلّم اللغة الهولنديّة لتحقيق الاندماج، فقد كنت أعي أنّه دون التمكّن من لسان أهل البلد لن أستطيع فرض نفسي، ثمّ أعقبت ذلك بإقبال على دراسة التدبير الإداريّ من أجل ولوج سوق العمل وتحقيق متطلباتي المادّية في استقلالية تامّة عن الآخرين"، يردف المتحدث نفسه. جامعة إسلاميّة يقرّ أشهبون بأن الصعوبات التي لاقته أولى أيّام انتقاله للاستقرار بهولندا واجهها وحيدا بحثا عن حلول ملائمة؛ حيث لم يصادف من يرشده إلى الإمكانيات المتاحة بفضاء عيشه الجديد. وبالتالي استند إلى التجريب في سعيه إلى شقّ طريقه وفرض ذاته. المسار المهنيّ للمغربيّ ذاته استهله بالاشتغال مع اتحاد المسنين المسلمين بهولندا، وهو تنظيم كان وراء تحقيق مجموعة من المكاسب لهذه الفئة. وفي سنة 1997 تواجد أشهبون من ضمن مؤسسي جامعة روتردام الإسلاميّة باعتبارها أول جامعة من نوعها على الصعيد الأوروبيّ. "هذه الخطوة غير المسبوقة قوبلت باحترام وتقدير من المجتمع الهولنديّ والأحزاب السياسيّة بالبلاد وحكومة الأراضي المنخفضة، وكانت المؤسسة الأكاديميّة قريبة من نيل اعتراف الدولة وتمويلها سنة 2001، لكن مشاكل داخليّة حالت دون ذلك"، يورد قاسم الذي اشتغل، أيضا، بثانوية أمستردام الإسلاميّة، التي هي ثاني فضاء تدريسي من نوعه بهولندا بعد ثانوية ابن خلدون في روتردام، وشغل رئاسة مصلحة التلاميذ حتّى 2011، بينما يعمل أشهبون، حاليا، مع مؤسسات مختلفة مؤطّرا للمشاريع. إقبال على التطوّع اختار الهولنديّ المغربيّ ذاته الإقبال على العمل التطوّعي منذ أول عام حل به في هولندا، فكانت بواكر خطواته في هذا المضمار من خلال تدريس اللغة العربية والثقافات المغربيّة بمجموعة من المؤسسات التعليميّة. كما أنّه تواجد عام 1993 بمعيّة مجموعة من المستقرين بمدينة "هَارلِم"، التي يقطن بها، لأجل التأسيس لمؤسسة المركز الإسلامي بالحاضرة عينها. ويقول أشهبون عن هذا المشروع: "كانت الخطوة تهدف إلى بناء مسجد مغاير للكلاسيكيّة، وأريد له أن يكون مركزا ساهرا على تنظيم أنشطة تستفيد منها عموم الأجيال"، ثم يضيف: "اشتغلت سبع سنوات في التعاطي التطوعيّ نفسه، مذيعا ومحرّرا لبرامج على إذاعة هارلِم الجهويّة. وفي سنة 1997 قمت، مع عدد من الأصدقاء، بتأسيس مؤسسة الجسر الرامية إلى تسهيل اندماج الجالية المغربيّة وتذليل مشاركها بفعالية في مختلف الميادين، دون تفريط في هويتها الثقافية والدينية. وكان لمؤسسة الجسر الفضل، طيلة أدائها الذي دام سنوات، في تأسيس أرضية منظمات المغاربة بمدينة هارلم التي نظمت، خلال عشر سنوات، مهرجانات تعرِّف بالثقافة المغربيّة بوقع وصل صيته إلى عموم هولندا". باب الالتزامات الجمعويّة التطوعية جعلت أشهبون ينتمي إلى مجموعة من الإطارات المدنيّة الفعالة بهولندا؛ إذ انتمى إلى مجلس مراقبة البرامج بالتلفزة والإذاعة الإسلامية، ونال عضويّة المجلس الاستشاري لبلدية هارلم، بينما قاسم هو الكاتب العام للمجلس الإسلامي لمدينة هارلم طيلة السنوات ال16 المنصرمة، ويبقى الناشط عينه رئيسا لمؤسسة حوار، التي تأسست في 2011، وتمكنت من تنظيم مجموعة من الأنشطة ذات الارتباط بالهوية والثقافات المغربيّة. "انشغالاتي موزعة بين التزاماتي التطوعية وما أقوم به من مرافقة مشاريع متنوّعة. آخر مشروع اشتغلت عليه يتعلق بأمهات وآباء في هارلم، ويهدف إلى الحد من الإزعاجات التي يسببها بعض الشبان ذوي الأصول المغربيّة في بعض أحياء المدينة. أيضا، لديّ عمل آخر، في الآن نفسه، مع مجموعة تعنى بمحاربة انتشار التطرف داخل صفوف الهولنديّين المغاربة"، يقول قاسم أشهبون. بَذل وتخصّص تقر الكفاءة المغربية الهولنديّة ذاتها برضاها عما استطاعت تقديمه لبيئة عيشها في الأراضي المنخفضة. ويورد قاسم أنّه كان ينطلق، وما يزال، من ضرورة تقديمه أداء يؤثر بإيجابيّة على الجاليّة المغربيّة في البلاد حتّى تتمكّن من مسارات سليمة. ويضيف: "طموحات الطفولة تكون كبيرة، لكنّ التقدّم في العمر يقرنها بالواقعيّة. ولديّ كل الأمل بأن أواصل التعاطي مع الأجيال الصاعدة من مختلف مواقع تواجدي حتى أسهم في مساعدتها على تحقيق الأحلام والطموحات". "ظروف هجرة الرعيل الأوّل خلال ستينيات القرن الماضي لا تضاهي نظيرتها لهجرات الأمس القريب واليوم والغد، خاصّة على مستوى فرص العمل التي أضحت تستلزم التوفر على شواهد ودبلومات مثبتة للتخصصات والكفاءة. ولذلك أنصح الشباب الراغبين في النجاح وسط بلدان الهجرة بالتركيز على التعليم، سواء بالمغرب أو خارجه، لأنّ التمكّن من تعليم سليم ومتقدّم يضاهي التحصّل على مفاتيح المستقبل، بينما يتوجّب النأي عن اليأس والاستسلام، وإذا ما أغلق باب واحد ينبغي البحث عن أبواب بديلة ما تزال مفتوحة لنيل المبتغيات"، يختم قاسم أشهبون.