كلما حل الشهر الفضيل إلا وقفز إلى سطح النقاشات الفكرية العامة والخاصة، مسألة الإفطار العلني وربطه مباشرة بالحريات الفردية والقناعات الشخصية، وينسحب الحديث تبعا لذلك إلى حرية المعتقد، وأن لكل فرد الحق في أن يفعل مل يملي عليه ضميره و قناعاته، فيصور الأمر وكأننا في عالم تحكمه الرغبات الفردية والنزعات الشخصية، ويتم تغييب قسري ومتعمد للقيم المتعارف عليها ولدور الدولة والمجتمع وغيرها من المؤسسات التي وضعها الإنسان بنفسه لخدمة أغراضه. بداية المدخل والمنهج المتبع في نقاش موضوع كهذا، وربطه بالحرية الفردية والشخصية مدخل مغلوط ومصطنع، وفيه كثير من التجاوز والتجني على الموضوع ذاته، لأنه لا يسعفنا في تحليل الظاهرة التي بين أيدينا، لأنه لا أحد يقبل أن يصطف ضد الحريات الفردية، ولا أحد يرضى له ذلك. فحين يكون المدخل مأدلج ومسيّس لا يصح كوسيلة علمية ومعرفية للتحليل، لأنه ما بني على باطل فهو باطل، لهذا وجب تحديد مدخل معرفي حقيقي لمقاربة هذا الموضوع أما ربطه بالحرية الفردية فهذا هروب إلى الأمام من طرف هذه المجموعات، ورحم الله الدكتور الجابري الذي رد على جماعة العلمانيين، حين احتدم النقاش حول علاقة حكم المرتد وعلاقته بحقوق الإنسان الفردية، وأرادوا النيل من الإسلام في قضية حكم المرتد، فحدد المدخل الصحيح لتحليل مثل هكذا موضوع، ورد الأمور إلى نصابها وعرى عورة هؤلاء، حيث أشار إلى أن الموضوع لا يناقش من زاوية الحرية الفردية، ولكن من زاوية الخيانة للوطن: "وما نريد أن نخلص إليه هو أن الوضع القانوني للمرتد لا يتحدد في الإسلام بمرجعية "الحرية" بل يتحدد بمرجعية ما نسميه اليوم ب "الخيانة للوطن"، بإشهار الحرب على المجتمع والدولة. وبالمثل فإن الذين يتحدثون اليوم عن حقوق الإنسان وفي مقدمتها حرية الاعتقاد، لا يدخلون في هذه الحرية "حرية الخيانة للوطن والمجتمع و الدين" ، وإذا فالحرية شيء و الردة شيء آخر"**. هذا موقف الجابري ولا أحد يستطيع أن يلصق به تهمة التطرف والوهابية والداعشية. لهذا نقول لهؤلاء ومن لف لفهم، أن تحديد المنهج والمدخل أمر ضروري لكي تتضح الصورة ولا تعوّم المفاهيم. نفس المدخل الوظيفي الذي فنده الجابري يستحضره دعاة الإفطار العلني اليوم ، وذلك بربطه بالحرية الشخصية، مادام لا أحد يدق باب هؤلاء ويسألهم هل صائمون أم لا، ومادام لا يوقفهم أحد في الشارع ويبحث هل هم صائمون أم لا، فإذا تطور الأمر إلى هذا الوضع فمنطقي أن نتحدث عن انتهاك الحريات الفردية، وهذا لم تصل إليه الأوضاع في بلادنا و الحمد لله"فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر". لكن الإفطار العلني الذي نتحدث عنه لا يتحدد بمرجعية الحرية الفردية، إنما ينظر إليه من زاوية معاكسة الوعي الجمعي والسلوك العام للمجتمع المغربي من طرف فئة ومجموعة ضيقة من الأفراد، وإثارة الفتنة، والتقليل من شأن شعيرة إسلامية تحظى باحترام وتقديس المغاربة. وحتى الديمقراطيات العتيدة لا تسمح بأي حال من الأحوال أن تداس قوانينها التي تعاقد عليها المجتمع بدعوى الحرية الفردية، ولنا أمثلة كثيرة في الديمقراطيات الغربية. والغريب أن نجد من وراءهم مفكرون يدعمون هذا التوجه، مثل ما أشار إليه الأستاذ صلاح الوديع في مقاله الأخير على هيسبريس الموسوم "بالصوم والإفطار بين القسر والاختيار"، "الأمر يتعلق لا أقل ولا أكثر باختيار الأفراد ممارسة الشعائر الدينية أو الامتناع عنها بكل حرية"، وهذا حق أريد به باطل لأنه إذا كان الأمر مجرد أفعال فردية، فلماذا يصر هؤلاء وبشكل منظم وفي أماكن عامة وأمام عدسات الإعلام لإشهار فعلهم هذا، فهذا السلوك اكبر من أنه مجرد فعل انفرادي وفردي وهو الذي ينبغي أن يقوم ويوجه، سيما أن هذه مجموعات لها مرجعية فكرية وقناعات سياسية تود تصريفها لكنها تخطئ الطريق كعادتها. وفي العمق أن الأهداف العامة والمقاصد الحقيقية لهذه المجموعات هو ما أكده الأستاذ الوديع حين قال"الأمر وما فيه أن الدين يجب أن يكف عن أن يكون أداة للحكم وبسط النفوذ"وبعد تحييد الدين ينتقل الكاتب لتحييد الدولة وتحييد المجتمع يقول: "ليست الدولة هي فقط من مطلوب منها أن ترفع يدها عن هذا الأمر، بل المجتمع كذلك". إذا ما تم تحييد الدين ثم الدولة ثم المجتمع، يصور الأمر وكأننا في عالم لا تحكمه وتسيره إلا النزعات الفردية و الرغبات الشخصية، و القناعات الفردية فيتم تغييب القيم وكل مؤسسات المجتمع. فالأمر واضح إذن ولا يتعلق بالحرية الفردية، إنما جماعة العلمانيين تصرف قناعاتها الفكرية والسياسية، عبر هذه الخرجات الصبيانية ولكي تضفي عليها صبغة المظلومية والحقوقية تغشّيها قسرا برفع شعار الحرية الفردية. طبعا نحن في هذا المقال لسنا نروم المقاربة الجزرية والتجريمية، لأننا نفضل دائما مقاربة مثل هذه المواضيع المجتمعية بأسلوب الحوار بالتي هي أحسن، و المجادلة بالحسنى، دون إكراه أو قسر ولست في حاجة إلى تذكير هؤلاء أن الإسلام أعلنها منذ قرون "لاإكراه في الدين". ومن ثم فمعالجة بعض القضايا المجتمعية المرتبطة بالممارسة الدينية، ينبغي اختيار المدخل الحقيقي لمعالجتها، أما تسييسها وأدلجتها فلا يكون إلا لخدمة أجندة سياسية محددة سلفا. وفي الختام فإذا ما كان هناك حديث عن القسر والإكراه، فهذه المجموعات هي من يمارس العنف المعنوي والرمزي على المجتمع برمته، ويفرض عليه قسرا مثل هذه التصرفات والأعمال التي لا تمت لأخلاق المغاربة بكل أطيافهم وثقافتهم، لا من قريب ولا من بعيد. *باحث في الفكر الإسلامي ** دعابد الجابري "الديمقراطية وحقوق الإنسان ص 179