بسم الله الرحمن الرحيم احتدم جدال قوي في الآونة الأخيرة حول جماعة"العدل والإحسان"لا سيما بعد خروج آلاف المغاربة في مسيرات شعبية تطالب بالتغيير أسوة بإخوانهم في تونس ومصر واليمن وليبيا والأردن وسوريا... ،استجابة لدعوات شباب حركة 20 فبراير،وإذا كانت بعض الأحزاب قد ترددت في المشاركة،وأخرى تدرجت في إبداء الموافقة،وأخرى أسرعت في اللحاق بعد تلكؤ مخافة أن تتجاوزها الأحداث،فإن مكونات "العدل والإحسان" و"اليسار الجذري" قد حسمت موقفها من أول يوم صدرت فيه دعوة الحركة فقررت المشاركة، ولم يفت شباب حركة 20 فبراير التأكيد: أولا: على أنه يعمل بمنطق الشراكة في الوطن والاعتراف بالآخر المخالف. ثانيا:على التوافق على مطالب شعبية إجماعية لا فئوية،وعلى شعارات موحدة. ثالثا: على احترام الاختيارات الفكرية والسياسية والأيديولوجية للمنتسبين إلى الحركة والمتعاطفين معها. رابعا:على الوعي بالفزَّاعات التي أُريد بها الحيلولة بين الحركة وبين التعاطف الشعبي والدولي،من قبيل فزَّاعة"الإسلاميين"،وفزاعة "إثارة الفتنة" وفزاعة "تهديد الاستقرار" وفزاعة"الخروج على ولي الأمر". خامسا:على عدم انسياقه وراء محاولات الاستفراد بأحد مُكوِّنات الحركة ،أو خلق شقاق بين تلك المكونات وبين المنتمين وغير المنتمين،ولا وراء محاولات مُدبِّري حدث مراكش الإجرامي- أيا كانوا- لصرف الأنظار عن حركتهم السلمية الساعية إلى إسقاط الفساد والاستبداد،وللدفع باتجاه إعطاء "المخزن" المبرر لتطبيع حياة المغاربة مع "حالة طوارئ" غير معلنة. لقد استفادت حركة 20 فبراير من الضغط المعنوي الكبير الذي أفرزته ثورات الشعوب العربية على الأنظمة الاستبدادية،واستطاعت في مدة وجيزة: أولا:أن تتجاوز عقبات التأسيس والتنسيق والتشويه. ثانيا:أن تثير بقوة مسألة وضع دستور جديد،والمطالبة بانتخاب جمعية تأسيسية من أجل ذلك. ثالثا:أن تنقل إلى ساحة النقاش العمومي قضايا كان يعتبر التحدث عنها -إلى وقت قريب- خروجا عن "الثوابت"،و"إهانة للمقدسات" و"إخلالا بالاحترام الواجب للملك"،فتساءل الناس عن"ثروة الملك"والمحيطين به ،وعن البروتوكولات المخزنية من قبيل الركوع في حفل الولاء،وتقبيل اليد،وإضفاء صفة القداسة على الملك وخطاباته،ومراسيم الزيارات الملكية،و"هولدينغ" الملك،والفصل 19 وإمارة المؤمنين،ونهب المال العام،ومصير مداخيل الفوسفاط منذ اكتشافه إلى الآن...إلخ. رابعا:أن تكسر حواجز الخوف والريبة والشك والتردد لدى عموم الناس. ولا ريب في أن حركة 20 فبراير ستحتل منذ الآن- مهما كانت النتائج- مكانتها اللائقة في مسار التاريخ المغربي الحديث،فلقد قاد الشعب المغربي بأكمله مقاومة شريفة وقوية ضد الاستعمار أفضت إلى الحصول على استقلال ظل في كثير من جوانبه شكليا،إذ خرج المستعمر بهيكله وجسده لكن عقله وروحه ظلت ساكنة في النُّخَب التي تفاوضت معه في "إيكس ليبان"،ولما أنجز المقاومون مهمتهم على أحسن وجه صابرين محتسبين،تَولَّوا إلى الظل بعد أن وقع أجرهم على الله،وانبرى المفاوضون وذريتهم لحيازة المغانم،وإحصاء الأنفاس على رجالات"المقاومة وجيش التحرير" الشرفاء ،فمكنوا في البلاد لاقتصاد الريع والمقاولات العائلية،واحتكار ضيعات"الإصلاح الزراعي" و"المعمِّرين" و"مقالع الرمال" و"مداخيل الفوسفاط" و"رخص الصيد البحري"،والصناعات الغذائية والدوائية والمعدنية والفلاحية،وقطاعات الخِدْمات،واحتكارات أخرى ذات صلة بقطاعي المال والأعمال ومرتبطة بالدوائر العليا للحكم يديرها "لوبي العقار" و"لوبي الأبناك"،و"لوبي تجميل سيرة المُقترَحين للمناصب السامية في مواسم تغيير الولاة والعمال وكبار الموظفين في مختلف القطاعات"، ،والتمويه على الشعب والنخب بتعددية وهمية،بينما الحقيقة أن الذي كان يحكم هو الحزب الوحيد المُمَثل في "القصر" الذي حَوَّل المغرب كله إلى "مزرعة عبد العزيز"،يساعده في ذلك ويوفر له الحماية جهاز"للمخابرات" منفلت من رقابة القانون،يبتز المواطنين ويحصي عليهم الأنفاس ، و باسم الدين تم التمكين أيضا لاستبداد ساحق ماحق أوسع المعارضين المبدئيين من أهل اليسار والإسلاميين قمعا وتشريدا ،بما صار يعرف "بسنوات الرصاص"،وحتى لا نسقط في التعميم ندرك أنه في كل الميادين والمجالات المذكورة رجال أفاضل يراعون الله في سلوكهم، ويزهدون في السلطة والمال والثروة، ويعانون التهميش والتشويش على سيرتهم وسمعتهم ،ويعتزلون مجالس الأبهة والفخفخة ونسج العلاقات النفعية ،وصناعة الولاءات،وتبادل المعلومات السرية عن مشاريع المغرب المستقبلية في الاقتصاد ليتمكنوا من السيطرة التامة على الأسواق، والانقضاض المبكر على طلبات العروض. وبفضل تضحيات الشعب المغربي بجميع مكوناته- وليس مِنَّة من أحد- تحققت مجموعة من المكاسب على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والحقوقي،لكن التغيير لم يَطَل الجوهر المتعلق بطبيعة النظام السياسي الذي يحفظ للناس كرامتهم وحريتهم في اختيار من يمثلهم ويحكمهم،ولم يطل مكافحة الفساد الاقتصادي والمالي في أعلى هرم السلطة والمحيطين بها،ففقد الشباب الثقة في الأحزاب وظهر منه العزوف عنها وليس عن العمل السياسي،وصار يعتبر علماء"البلاط" الذين "يرفعون" بمناسبة وبدون مناسبة "آيات الولاء والإخلاص" رموزا لخيانة الدين والوطن،ولأجل تحصين تلك المكاسب،وتحقيق المزيد بما يناسب،نهضت حركة 20 فبراير لتُتَمِّم بطرق سلمية مشوار مقاومة من نوع آخر لطرد عقل وروح المستعمر ووكلائه لاستكمال الاستقلال الحقيقي ليأخذ الشعب زمام المبادرة بيده. إن المرء ليس بوسعه أن يتحدث عن البحر لشساعته وعظمته،ولكن بوسعه أن يتحدث عن أصناف الأسماك التي تسبح فيه،وكذلك ليس بوسعنا أن نتحدث عن كل الشعب المغربي الذي انبثقت منه حركة 20 فبراير،ولكن بوسعنا أن نتحدث عن الحركة ومُكَوناتها ،لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره كما يقول المناطقة،ولأنه لا يجوز للإنسان أن يهرف بما لا يعرف ،فقد أحب الكاتب أن ينقل إلى ساحة النقاش العمومي أحد أهم مكونات الحركة وهو مكون "العدل والإحسان" ،لما يثار حوله من أسئلة،ويحتدم من جدال،وسنكون مسرورين لو انبرى بعض الفضلاء لفعل نفس الشيء بالنسبة للمكونات الأخرى. "العدل والإحسان" تواجه سيلا من أسئلة الموافقين والمخالفين يُطلَب إليها الإجابة عنها بصراحة تُحَلِّيها شجاعة الاعتراف بالخطإ إن صدر منها،ووضوح يستدعي منها التفكير بصوت مسموع ،ليعرف الناس حقيقة فهمها للإسلام ولقضايا التاريخ والحاضر والمستقبل، ورؤيَتها للتغيير ولعلاقة الدعوي بالسياسي،وبناء الدولة الحديثة،ومواقفها من السلطة والمجتمع والنُّخب، ،ومن العلاقة مع المجتمع الدولي،ومن الديمقراطية وحقوق الإنسان،ومن التعددية السياسية والثقافية،ومن التدبير الرسمي للشأن الديني، ومن انتقادات الأغيار المخالفين،وهي انتقادات كثيرة يجدر بنا: أولا: التنبيه على أنه ليس من الحكمة ولا من الصواب أن نعتبرها كلها خاطئة أو متهافتة أو متحاملة. ثانيا: التنبيه إجمالا على بعضها لنُفصل فيها فيما سيأتي من كلام . ثالثا:التنبيه على بعض تلك الانتقادات هنا من غير نسبته إلى صاحبه لأن ما يهم هو الفكرة وليس الأشخاص: - ف"العدل والإحسان"- يقال- "يفكر ويكتب لها رجل واحد هو مرشدها" - ولا مكان لها في المغرب لأنها "تخرج على ولي الأمر" - وهي تعاني من "تضخم الأنا التنظيمية". - وهدفها هو "إقامة الخلافة في المغرب" و" محاربة الحاكم والحصول على الحكم" -وهي"مهووسة باستعراض العضلات واستغلال المناسبات،وانتهاج سياسة الإنزالات" و"الإعداد للثورة والقومة بعقلية انقلابية" - وهي" تبني استراتيجية عملها على الرؤى والأحلام". - وهي"ترفع قدر مرشدها إلى حد القداسة" - وهي"تروج للتصوف البدعي" - وهي"تجامل الشيعة والتشيع" - وهي مدعوة " للانخراط في المسلسل الديمقراطي والعمل من داخل كل المؤسسات المتوفرة" - وهي" مبنية بناءا استبداديا على مبدأ الرأي الواحد" - وهي تعيش"تحت سقف هاجس الاختناق، و هلوسة الأتباع ،و تشتت داخلي،وركض في كل الاتجاهات من أجل تحالف بأي ثمن تحت خيمة الحوار بعد الضغط الممارس عليها من طرف السلطة،و العزلة التي تعانيها داخل المجتمع المغربي". - وهي" ممن يتقنون العزف على أسطوانة النقد المستمر والتيئيسي. فهي لا ترى أي تغيير بالمغرب والسبب بسيط لأن نظرتها إلى المشهد السياسي بالمغرب تمر ليس عبر عدسات الإنصاف بل عبر نظارات سوداء لا ترى في المغرب إلا السلبيات والاستبداد". - وهي" تملك تصورا للبناء والتغيير،إلا أن الكثير من أعضائها لا يتمثلونه ولا يحسنون التعبير عنه". سنستحضر هذه الانتقادات وغيرها ونحن نفكك الخطاب"العدلي"،غير مُكبَّلين بانتماء تعصبي يُلغي الآخرين ويتسامى على المجتمع، لِنتبيَّن هل تلك الانتقادات هدايا يستحق مُقدِّموها الشكر والدعاء بالرحمة بالمنطق العُمَري (رحم الله امرءا أهدى إلي عيوبي)،أو مقولات تُعوِزها الحجة والبرهان يتعيَّن إخضاعها لمنطق( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)[1] ،وسنُعرِّج على ما كتبه ويكتبه الأستاذ عبد السلام ياسين عن كل القضايا السالفة،وما كتبه وما يدلي به من آراء ومواقف غيره من رموز الجماعة ومفكريها ضمن ما تسميه الجماعة "مدرسة العدل والإحسان":ما يدلي به السيد عبد الكريم العلمي حول السلوك التربوي، والأستاذ فتح الله أرسلان حول المسار العام، والأستاذ عبد الواحد المتوكل حول تدبير اللحظة السياسية، والأستاذ محمد الحمداوي حول تقييم التعليم وفلسفة المطلبية النقابية،وما كتبه الأستاذ منير الركراكي عن"اللبنات في بناء الذات"،والدكتور عمر أمكاسو عن "الأمازيغية"،والدكتور محمد رفيع حول "المشترك الإنساني" والضوابط الأصولية والشرعية لتدبير الاختلاف،والدكتور عبد العالي مسؤول حول إمارة المؤمنين والمؤسسة العلمائية الرسمية،والدكتور عبد الصمد الرضى حول السياسة الشرعية،والدكتور ادريس مقبول حول مآلات البيعة وفلسفة إصلاح الحكم ،والدكتور بلقاسم زقاقي حول"الفراغات التشريعية"،والدكتور المرحوم محمد مرزاق حول"سياسة تدبير الشأن الديني"،والدكتور محمد منار حول المسألة الدستورية وواقع التعليم العالي ،والأستاذ خالد العسري حول الفكر السياسي الإسلامي،والأستاذة ندية ياسين حول قضايا المرأة والعلاقة مع الغرب،والأستاذة منى الخليفي حول فلسفة تطبيق الشريعة،وما يدلي به الأستاذ حسن بناجح حول الشباب والعملية السياسية وحول مجمل التطورات بالمغرب،و الأستاذ عمر إحرشان حول الحركة الإسلامية المغربية،والأستاذ عبد الرحمن خيزران حول أداء الدولة ومؤسساتها الرسمية،وغير هؤلاء مِمَّن لا يتسع المقام لذكر جميع أسمائهم. ومما يجدر ذكره والإشارة إليه تلك الأقلام الغربية التي شاركت في تقييم "العدل والإحسان" بحيادية ملحوظة كالبروفسورJohn P.Entelis من جامعة Fordham الأمريكية،أو الكاتبة Julia klander،أو مترجم كتاب"الإسلام والحداثة" للأستاذ عبد السلام ياسين إلى الأنجليزية البروفسور Tomas Magnire،أو السفير الألماني الأسبق في المغرب Wilfried Hofmann، أو Bruno Etienne في كتابه " l'islamisme radical au Maroc" ،أو الكاتبة François Soudan في كتابها "la panthère bondissante de l'islamisme". ثمة سؤال مهم وملح تجب الإجابة عنه بكل وضوح وهو سؤال"المراجعات" داخل"العدل والإحسان" ،ونقدم بين يدي الإجابات التفصيلية فيما سيأتي من مقالات بقول مجمل مؤداه:إن "المراجعات" ارتبطت باللحظات الأولى لنشوء الجماعة،بل قبل ذلك في فكر مرشدها؛مراجعات: - أولا: للتاريخ والفقه السياسي ومزالق الانشداد لتراث الاستبداد،والاستسلام لمخلفات الانقلاب،وسياقات التحول من الحكم الاستبدادي إلى الحكم الشوري الديموقراطي. - ثانيا:للأخلاقية الإسلامية والسلوك التربوي ومزالق"الدروشة" و"التصوف التبركي" و"التشدد والغلو والتطرف"، -ثالثا:لفقه الحركة بين الناس ومزالق القول" بجاهلية المجتمع" أو"تكفيره"،أو التعالي عليه، أو التحول إلى نخبة تحسن تشقيق الكلام، وتنقطع عن الشعب،ومزالق ركوب الانتهازيين موجة العمل عند اتساعه ونيله القبول عند الناس. - رابعا:لأصول العمل السياسي ومزالق"الإسلام السياسي"،ومزالق"الانتماء التعصبي"،ومزالق الخلل في علاقة الدعوي بالسياسي كانطواء "الدعوة تحت جناح الدولة". -خامسا:لآليات فهم النصوص المرجعية كتابا وسنة ومزالق الفهم "الحرفي"و"الخوارجي"،ومزالق التقليد والخضوع للفتاوى المظروفة بظروفها. -سادسا:للمسألة المذهبية ومزالق الجهل بالجذور التاريخية والسياسية للاشتباكات المذهبية والطائفية التي تعرفها الأمة عامة، ومزالق اللجوء إلى العنف اللفظي أو العَضَلي لِفَضِّها. -سابعا:لأشكال العلاقة مع المحيط الدولي ومزالق "توسيع دائرة العداوات" و"تقليص دائرة الصداقات"،ومزالق"الاستلاب والعقلية الانهزامية"،ومعيقات التواصل المجدي والقاصد والفعال. -ثامنا:لضوابط التنظيم الجماهيري المنفتح ومزالق التجميع التكاثري غير المُمحِّص، ومزالق التحول إلى "تنظيم مُغلق"،ومزالق الشروع في ممارسة لا يسبقها تنظير،ومزالق الانحدار إلى مستوى التجمع السياسي والتنظيم الأرضي المنقطع عن النسبة إلى الله ورسوله،ومزالق عبادة الشخصية وتجبر القائد. - تاسعا: لأساليب التعامل مع الحكمة البشرية المبثوثة في نثر المشهد الثقافي العالمي،ومزالق التَّلفُّع بِسِرْبال الأنانية الفكرية،أو إرخاء العنان لفلسفات الحداثة وما بعد الحداثة لتطمر فينا الفطرة التي فطر الله سبحانه الناس عليها،فَنتسكَّع في الأبعاد المادية ،ونسكت – خجلا- عن ذكر النبإ العظيم الذي هو البعث بعد الموت لأجل الحساب،وهي قناعة يتقاسمها أزيد من مليار ونصف من المسلمين وغيرهم من مؤمني العالم. -عاشرا:لضروب القول في المسألة الاجتماعية ومزالق التركيز فقط على خطاب العدل مجردا عن خطاب الروح والإحسان ،ومزالق بناء التصور النقابي على عقلية المطالبة والرفض والعنف،أو السقوط في ذرائعية ميكيافيلية،ومزالق المزايدات الشعارية والموسمية في الخدمة. وفي كل ما يُلفظ ويُكتب يُطلب إلى الجميع احترام الأشخاص وعدم التهجم عليهم؛ بحيث تظل كرامتهم محفوظة،وأعراضهم مصونة،لأن الأمر يتعلق بمناقشة الأفكار لا الأشخاص،أما كاتب هذه السطور فلا يطلب إلا شيئا واحد وهو أن يُعترف له بالحق في الاختلاف. **** [1] البقرة/111