لم تعد العديد من أرصفة مدينة طنجة توفر بيئة مناسبة ومحفزة على سير وتنقل المشاة حيث تغيرت وظيفة تلك الأرصفة بعد أن أصبحت صالحة لكل نشاط باستثناء المشي فوقها وذلك بسبب الاحتلال الذي بات يجثم عليها ، حيث أن بعض أجزائها أمست محجوبة عن المارة في بعض النقط داخل المدينة بينما تقلص عرضها في نقط أخرى إذ أصبحت ضيقة تشبه بقايا أرصفة بفعل استغلالها من طرف أرباب المتاجر والمقاهي والباعة المتجولين و أصحاب المهن والحرف أو من طرف السيارات... وفي ظل هذا الوضع صار من المألوف أن نجد المشاة وفي جو تعايشي يشاركون السيارات والشاحنات والدراجات النارية في السير وسط الشوارع جنبا إلى جنب بالرغم مما يثيره ذلك التعايش غير السلمي من مشاكل وحوادث ومن عرقلة لانسيابية الحركة المرورية . وفي ظل هذا الوضع ، أصبح يتعذر على المشاة التمتع بحقهم في السير الآمن في العديد من أرصفة المدينة ، تلك الأرصفة التي باتت وضعيتها تشي بسيادة الفوضى والتسيب في ظل غياب تفعيل الرادع القانوني الصارم . فمثلا إذا قدر للمشاة أن تسوقهم أقدامهم إلى بعض أرصفة طنجة سواء أكانت تلك الأرصفة فرعية أو رئيسية سيشعرون لامحالة بأنها هي أضيق من أن تسعهم وأضعف من أن تحمل أجسادهم ... سيشعرون بأن سيرهم عليها غير مرغوب فيه لأنهم سيجدون بالطبع ما سيعيق مشيهم ... لذلك فهي حتما ستلفظهم وستعصف بهم في لحظة ما في الشوارع المحاذية لها لمواصلة سيرهم ، فقد تصدهم بضائع مصفوفة ، أو مقاعد مبثوثة ، أو سلع معروضة أو سيارات مركونة، أو بسط مفروشة أو أحمال موضوعة ... مررت قبل يومين بجوار أحد أسواق المدينة ، فهالني أن وجدت أن بعض الأرصفة المجاورة لذلك السوق قد توارت أجزاء منها بعد أن امتلأت بصناديق السلع والبضائع المختلفة أنواعها فصارت مغلقة غير سالكة ، بينما ألفيت المارة يقتسمون الشارع مكرهين مع السيارات التي كان عويل أبواقها يخرق آذانهم ، فلم ألبث بدوري أن انحشرت رغم أنفي في الزحام خلف عجلات طابور من السيارات وأنا أنقل قدمي في وجل واحتراس . إنه مشهد من مشاهد التسيب الذي بات يستبد بالعديد من الأرصفة التي انتهكت حرمتها و سدت أمام المارة أبوابها بعد أن اغتصب البعض أجزاء منها في اجتراء وجسارة و بلا موجب حق ولا قانون وبدون أدنى محاسبة حتى صار يحسبها في ملكيته الخاصة ليبقى الاحتمال قائما في أن يباشر يوما ما إجراءات تحفيظها . لقد أصبح التعدي على حقوق المشاة في السير على الأرصفة في طنجة جزءا من الحياة اليومية لأهلها حتى أنه ليخيل إلي أنه أصبح بإمكان المرء في هذه المدينة أن يستقطع من بعض أرصفتها المستباحة الحيز الذي يشاء ويستغله في التجارة أو يتخذه مركنا قارا و رسميا لسيارته الخاصة أو يلحقه بعقاره أو يجعله ورشة لصناعته أو لممارسة حرفته ، بل إنه يخيل إلي أنه يمكنه أن يقيم خيمة وسط أي رصيف من تلك الأرصفة المستباحة ، ويؤثثها على مهل ويقيم فيها مرتاح البال مطمئن الحال ، ولا أظن أن أحدا سيضايقه أو ينغص عليه مقامه...وليس هذا بغريب ، ففي بعض شوارع المدينة أرباب المقاهي يؤثثون الأرصفة بالمقاعد والطاولات ويتركون ممرا ضيقا يمر منه المشاة في طابور وبصعوبة تحت أنظار زبائن المقاهي المتطلعين المترقبين وكأن أولائك المشاة يعبرون نقطة تفتيش ... لكن في كل الأحوال يعد ذلك الممر الضيق الذي لا يتجاوز عرضه في أحسن الأحوال ثلاثة أو أربعة أشبار رصيفا يجد الكثير من المشاة أنفسهم مضطرين لمواصلة سيرهم فيه حفاظا على سلامتهم بينما يغامر مشاة آخرون فينحدرون نحو الشارع مرغمين بالرغم مما قد يشكله ذلك الانحدار من خطر على سلامتهم ومن قصف بعبارات الزجر والانتهار من قبل السائقين الذين يرفضون التسامح والتعايش السلمي بين السيارات و الراجلين . ركبت قبل أيام سيارة أجرة ، وبينما كانت السيارة تسير بنا في تؤدة وسط شارع محمد الخامس الذي كان يتقاسم السير فيه كالعادة الراجلون والسيارات ...كنت وقتها أتجاذب الحديث مع السائق الذي كان يعرب لي في تلك الأثناء عن امتعاضه من سلوك المشاة الذين اتهمهم بأنهم يؤثرون السير في الشارع بدل الرصيف ...غير أنني وقبل أن يواصل الرجل كيل اتهاماته للمشاة أشرت عليه بأن يسمو برأسه و يرمي بطرفه إلى الرصيف الذي كان يحتضن العشرات من طاولات ومقاعد المقاهي التي كان يجلس عليها وفي انتظام طابور طويل من أعضاء لجن التنقيط الذين كانت أنظارهم شاخصة في تلك الأثناء نحو إحدى العابرات التي كانت تمشي على استحياء وهي منكسة رأسها غاضة بصرها وتنعطف بخطواتها مكرهة نحو الشارع تجنبا لسهام الناظرين المتطلعين .ولما وقع نظر السائق على ذلك المشهد انعطف بكلامه وشرع في تبرير سلوك المارة الذي نعته بالاضطراري كما طفق في توجيه سيل من سهام النقد إلى أصحاب المقاهي والمسؤولين وإلى كل مغتصبي الأرصفة ... و لعل من الطريف أنه بينما كان السائق يواصل حديثه أحسست بيد أحد أصدقائي تمتد إلي من خلال نافذة السيارة لتصافحني ، فبادلت صديقي التحية والمصافحة وهو يسير عجلان الخطى جنبا إلى جنب مع سيارتنا التي كانت تطوي على مهل الشارع الذي تلقفه بعد أن عصف به الرصيف المحتل . أما أنا فقد أحسست في نفسي الضيق من هذا التعايش القسري بين السيارات والمشاة داخل شارع يرحب تارة ويضيق طورا . واصلت السيارة سيرها في اتجاه مقصدي ، وكنت أثناء سيرها أتأمل من خلال النافذة المشاهد من حولي و أرسل نظرات لا تخلو من تأمل إلى أرصفة الشوارع الرئيسية والفرعية التي كان بعضها لا يوفر السير الآمن للمشاة . ولعل مما لفت انتباهي بعد ذلك هو أن بعض المشاة كانوا يسيرون وسط أحد الشوارع إلى جانب المركبات وكان الرصيف المحاذي لذلك الشارع مغلقا في وجه الراجلين بعد أن تحول إلى ما يشبه معرضا للسيارات التي كانت تنتظم فوقه متراصة . هذا هو حال العديد من أرصفة مدينة طنجة ، إنها أرصفة تئن وتشتكي بعد أن نزح عنها المشاة مكرهين لا طائعين في اتجاه الشوارع ...إنها أرصفة تستنجد و تستغيث من أجل إعادة تهيئتها . وكيف لا تستغيث وقد فقدت وظيفتها حتى صارت أماني النازحين عنها تنحصر في العودة إليها و التمتع بحق السير الآمن فوقها ؟ . فمتى إذن ستبادر الجهات الوصية إلى تحقيق هذه الأماني وتحرير العديد من أرصفة المدينة الموسومة بالكبرى من الاحتلال الذي يجثم عليها ؟.