من جديد، عاد الإسبان يوم الأحد 26 يونيو، وفي أقل من سبعة أشهر، إلى صناديق الاقتراع من أجل اختيار ممثليهم في البرلمان، ومن ثمة الحكومة المقبلة، وكلهم أمل في أن تشكل هذه الانتخابات المعادة وغير المسبوقة في تاريخ الديمقراطية الاسبانية فرصة جديدة للفاعلين السياسيين من أجل التوافق على تشكيل حكومة قوية قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي تمر منها البلاد. فمن حوالي 36 مليون ناخب مسجل في اللوائح الانتخابية، بينهم أزيد من مليوني مهاجر اسباني، بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات العامة أكثر من 69 في المائة، وهي نسبة أقل بحوالي مليون ناخب عن تلك المسجلة في العشرين من دجنبر الماضي. انتخابات في مناخ استثنائي بالإضافة إلى خصوصية المرحلة التي تمر منها اسبانيا على اعتبار الوضع السياسي والاقتصادي الصعب، فقد جاءت هذه الانتخابات غداة تداعيات الاستفتاء البريطاني القاضي بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو زلزال سياسي واقتصادي واجتماعي، نزل كالصاعقة على بلدان الاتحاد، ومن بينها اسبانيا التي ترتبط بمصالح اقتصادية جمة ببريطانيا. ولعل أكبر مؤشر على ذلك هو تسجيل مؤشر البورصة "الاسبانية الايبكس 35"، عشية إعلان نتائج الاستفتاء، انخفاضا بحوالي 12 في المائة، وهو الأسوأ في تاريخه لم يصل إليه حتى إبان الأحداث الإرهابية للحادي عشر من شتنبر 2011. وبالتالي فإن نتائج الاستفتاء ألقت بظلالها على المشهد السياسي الاسباني، لأن لها تداعيات اقتصادية واجتماعية تفرض التوافق والتعجيل بتشكيل حكومة قوية، وثانيا لها تداعيات سياسية على المشروع الأوروبي عموما، وعلى وحدة اسبانيا خصوصا، لأنه سلط الضوء على مخاطر الاستفتاء، وهو مغامرة غير مضمونة ولا محسوبة العواقب. كذلك شكلت هذه النتائج مفاجأة، لكونها جاءت مخالفة لجل استطلاعات الرأي، خصوصا بالنسبة لنتائج ائتلاف "متحدون نستطيع" و"الحزب الشعبي". وبالتالي فإنها ستشكل مادة دسمة للدراسة لتحديد أسباب الإخفاق الكبير لاستطلاعات الرأي وكذلك طبيعة وخصوصية المصوتين على الأحزاب الجديدة على اعتبار أن "الحزب الشعبي" و"الحزب الاشتراكي" يملكان كتلة انتخابية جزء كبير منها معروف ووفي لاختياراته. فرحة كبيرة للحزب الشعبي: من 123 مقعدا إلى 137 مقعدا كانت نتائج الانتخابات بالنسبة لقيادة الحزب الشعبي بلسما ونصرا رغم محدوديته إن قارناه بانتخابات 2011، إلا أنه شكل فوزا معنويا كبيرا كان الحزب في أمسّ الحاجة إليه، لأن الحزب مر في الشهور الأخيرة بفترة صعبة جراء فضائح الفساد بالجملة التي ضربت معاقله وقياداته الوازنة، إضافة إلى أن نتائج انتخابات دجنبر تركته شبه وحيد، دون حتى القدرة على المبادرة بتشكيل الحكومة رغم احتلاله الرتبة الأولى. والأهم في هذه الانتخابات المعادة أنها أعطت زخما معنويا وثقة للحزب الشعبي، لأنها أكدت على أنه لا يزال القوة السياسية الأولى في البلاد وبفارق كبير عن الحزب الاشتراكي (حوالي 52 مقعدا). بالإضافة إلى زيادته أربعة عشر مقعدا عن انتخابات دجنبر في "مجلس النواب"، فإنه عزز من أغلبيته المطلقة في "مجلس الشيوخ"، والأهم أنه حصل على الرتبة الأولى في جميع الجهات، ما عدا "جهة كاتاونيا" و"جهة الباسك" المعروفتين بنزعتهما القومية ومطالبهما الانفصالية. المفارقة أن الحزب الشعبي تصدر حتى نتائج "جهة فالنسيا" رغم أنه خلال الزمن الفاصل بين انتخابات دجنبر الماضي وانتخابات يونيو تمت اعتقالات بالجملة وتحقيقات مع عشرات من أعضاء الحزب على خلفية فضائح الفساد. وبالتالي فإن هذه النتائج تظهر مدى قوة الحزب وتماسكه ووفاء المتعاطفين معه رغم صعوبات المرحلة. وتبدو خيارات الحزب في تشكيل الحكومة أحسن مقارنة بانتخابات دجنبر، لكنها تبقى مرهونة في جانب كبير منها بتوافق الحزب الاشتراكي الذي أصبحت بعض قياداته، على غرار بارونة الحزب في جهة أندلسيا "سوزانا دياز"، ولأول مرة، تلمح إلى إمكانية حدوثه، رغم كون الخطاب الرسمي للحزب، إلى حد الساعة، ينفي إمكانية وقوعه، في المقابل لا يستبعد الحزب الشعبي إمكانية التفاوض مع أحزاب أخرى لتشكيل الحكومة رغم محدودية تلك الخيارات وصعوبتها. الحزب الاشتراكي يتنفس الصعداء فقد الحزب الاشتراكي 5 مقاعد وحصل على 85 مقعدا، وهي ثالث أسوأ نتيجة في تاريخ الحزب منذ انتخابات 2011 ، لكن رغم كونها تبدو نتيجة كارثية، إلا أنها جنبت الحزب سيناريو أسوأ بكثير، ألا وهو تجاوزه من طرف ائتلاف "متحدون نستطيع". وبذلك نجا الحزب من اندحاره وراء "بوديموس" الذي كانت ترجح جل استطلاعات الرأي فوزه بالمرتبة الثانية على حساب الاشتراكيين، لأن ذلك السيناريو كان سيشكل تهديدا حقيقيا لمستقبل الحزب وسينزل به إلى موقع ثانوي بدل الأدوار الرئيسية التي يلعبها في النظام السياسي الاسباني، لأنه كان سيفقده قيادة اليسار وكذلك قيادة المعارضة. الآن وقد حافظ "الحزب الاشتراكي" على موقعه، رغم خسارته خمسة مقاعد وفقدانه معقله التاريخي "جهة أندلسيا" التي تصدر نتائجها "الحزب الشعبي"، فإنه على الأقل مازالت أمامه فرصة قيادة اليسار وكذلك قيادة المعارضة إن أراد ذلك، وحتى محاولة تشكيل الحكومة رغم كونه أصبح خيارا صعبا بعد فشله في ذلك غداة انتخابات 20 دجنبر. على الأقل ربح الحزب فرصة ومتسعا من الوقت لقراءة الوضع من جديد وتحديد استراتيجياته وتكتيكاته للمرحلة، وفي انتظار اجتماع قيادات الحزب ولجنته التنفيذية للبت في نتائج الانتخابات وتحديد خيارات المرحلة، فإن قرار تشكيل الحكومة الاسبانية من عدمه مازال في جانب كبير منه في يد الاشتراكيين، لأنه يكفي امتناعهم عن تصويت الثقة لجعل "الحزب الشعبي" يقود الحكومة من جديد. حزب بوديموس الخاسر الأكبر لعل الخاسران الأكبر من جولة إعادة الانتخابات كانا هما الحزبان الصاعدان "حزب المواطنين" الذي حل رابعا وخسر 8 مقاعد من أصل 40 كان قد حصل عليها غداة انتخابات دجنبر الماضي، وتحالف "متحدون نستطيع" الذي تبدو خسارته أكبر رغم كونه قد حصل على 71 مقعدا، وهو عدد المقاعد نفسها المحصل عليها للحزبين معا في الانتخابات الماضية (بوديموس 69 واليسار الموحد 2). فالخسارة كبيرة لأنها خسارة معنوية على اعتبار أن كل استطلاعات الرأي، وحتى ليلة الانتخابات، كانت تبوؤه الرتبة الثانية، وهي رتبة كانت ستعطي الحزب زخما وقوة أكبر، بل كانت ستجعل منه القائد الجديد لليسار وتفتح له فرصة محاولة تشكيل الحكومة أو قيادة المعارضة. كذلك، فإن الخسارة الفعلية للحزب كانت بفقدانه أكثر من مليون ومائتي ألف صوت مقارنة بانتخابات دجنبر، وذلك في أقل من 7 أشهر، وهو مؤشر خطير سيدفع لا محالة بالحزب إلى إعادة قراءة نتائجه ومعرفة أسباب هذا التراجع. وخلال المؤتمر الصحافي الذي أعقب نتائج الانتخابات، ولدى سؤاله ما إن كان "حزب بوديموس" أكبر الخاسرين، أجاب زعيم الحزب "بابلو اغلسياس" بلا، على اعتبار أن الحزب لم يتجاوز عمره السنتين وأنه أضحى حزبا رئيسيا في البلد، في المقابل اعترف بأن نتائج الانتخابات لم تكن وفق تطلعات الحزب الذي كان يمني النفس بنتائج أكبر. ارتياح نسبي في العديد من مراكز القرار لعل النتائج المحدودة لإعادة الانتخابات الاسبانية قد أثلجت، ولو نسبيا، العديد من مراكز القرار داخليا وخارجيا. فمن شأن هذه النتائج أن تريح، نسبيا، من ثقل المسؤولية الملقاة على "الملك فيلبي السادس" على اعتبار أن دخول البلد النفق المسدود سيفرض على المؤسسة الملكية لعب أدوار أكبر، وهو ما يشكل تحديا كبيرا للملك الجديد، الذي يمارس دوره الدستوري بشكل ايجابي إلى حد الساعة. كذلك خارجيا من شأن نتائج هذه الانتخابات أن تريح، إلى حين، مراكز القرار في أوروبا، والمغرب الذي عليه أن يعد العدة لجميع الاحتمالات، فصعود "بوديموس" تبدو مسألة ممكنة إن هو واصل في كسب ثقة الاسبان. والخلاصة أن نتائج الانتخابات لم تحسم في أمر الحكومة المقبلة على اعتبار غياب أغلبية مطلقة، يمينية كانت أو يسارية، إضافة إلى غياب التوافق إلى حد الساعة، خصوصا بين الحزبين الرئيسيين، إلا أن هذه الانتخابات نجحت نسبيا في تحريك المياه الراكضة من جديد وتحريك مفاوضات جديدة، والأهم أنها جنبت البلاد سيناريو أصعب وأكثر تعقيدا لو فاز "متحدون نستطيع" بالمرتبة الثانية، لأن حينها كانت الخيارات محدودة وكلها لصالح "بوديموس". أما الآن، فعلى الأقل هناك ارتياح نسبي من نتائج الانتخابات، وهناك توافق الأحزاب جميعها على تجنب سيناريو إعادة الانتخابات للمرة الثالثة، وهناك تأكيد من الشعب على خياراته للمرة الثانية، والذي أعطى للمحافظين الأفضلية وترك القرار في يد الاشتراكيين إن هم قرروا الرجوع إلى صفوف المعارضة، وترك الحزب الشعبي يقود المرحلة الصعبة التي تمر منها البلاد.