وأنا أمر كعادتي عصر كل يوم أمام هذه البنايات الشاهقة، أثار انتباهي في هذه الشمس المحرقة الحارقة وجود مجموعة من الصباغين، والبنائين المعلقين على واجهة هذه البنايات التي هي في طور البناء، فأحسست بنوع من الغبن والألم والأسى وأنا التي أحس بظمأ داخلي لا يمكن إطفاؤه، على الرغم من تربعي على كرسي وثير داخل سيارة مكيفة. في هذه اللحظة شعرت بعدم التكافؤ في الصيام، فالبون شاسع بين من يصوم وسياط الشمس تلفح ظهره العاري وبين من يمضي يومه ما بين المكاتب والبيوت والسيارات المكيفة. فأيهما أكثر أجرا؟ وأيهما أحق بالجزاء؟ دخلت إلى بيتي لا ألوي على شيء، سوى البحث المضني عن بلسم يطفئ هذا الظمأ الداخلي، والذي قد يكون بالنسبة إلي برنامجا دينيا، أو ابتهالا صوفيا، أو شريطا مسليا أو أي شيء آخر. وبالفعل، وقع ناظري على برنامج يُذاع لسنوات، وهو من البرامج الرمضانية الكوميدية أو ما يُعرف بالكاميرا الخفية التي تهدف في الظاهر إلى إدخال البهجة والسرور على نفسية الصائمين، ولكن تستغل في الباطن حسن نية الجمهور وسذاجتهم، والتي تصل أحيانا إلى درجة اللعب بالأحاسيس، والمشاعر، والمتاجرة بها. هذه المرة كان الأمر مختلفا عن الحلقات الأخرى. هو ضحك أشبه بالبكاء، ضحك مغلف بنكهة الأسى والألم والاحتراق والدخان والرماد. نحن أمام "رامز" الذي يوهم ضيوفه باحتراق الفندق الذي يضمهم، وكأنه يستمتع، بسادية كبيرة، بمظاهر الرعب البادية على وجوههم. مشاهد لا تختلف من حيث الشكل عن تلك التي نراها ونعاينها على مدار الساعة في سورياوالعراق واليمن وليبيا. مشاهد يتداخل فيها الواقع والخيال. أغلقت على الفور التلفاز، متأففة من الاحتراق الذي أصبح هو القوت اليومي للقنوات الفضائية، وهرولت مسرعة أنشد الارتواء من الظمأ الذي ازدادت حدته مع مشاهدة مظاهر الاحتراق، فوجدت ضالتي في الحاسوب، وفي مواقع التواصل الاجتماعي حيث أعتدت أن أبحر غير عابئة بالوقت، باعثة ومستقبلة لسيل من التهاني والتبريكات الآتية من الأهل والأصدقاء بمناسبة حلول شهر رمضان المعظم. وبغتة، ودون سابق إشعار، تلقيت صفعة موجعة أخرجتني من خمود مؤقت للظمأ الداخلي، إنها صور مباشرة لامرأة حامل تُضرم النار في جسدها أثناء صلاة الجمعة. ذُهلت كثيرا من هول الفاجعة، احتراق تحت شمس حارقة، وفي يوم مقدس، وفي شهر صيام. بدأت الأفكار تتناسل تباعا في ذهني: ما الذي حدث في هذا العالم المجنون؟ ما الباعث على الاحتراق؟ وما سر هذا التحول الخطير في الانتحار، من إذاية سرية للنفس إلى مشهد علني أمام جمع من الناس؟ لقد ألفنا سماع حالات شاذة لأشخاص يائسين أو مرضى نفسيين أو ضحايا ابتزاز أو نساء ضحايا اغتصاب، اختاروا أن يضعوا نهاية لحياتهم بالشنق أو بتناول مواد سامة أو بغيرها من الطرق الأخرى، بعيدا عن أعين الفضوليين، وذلك إحساسا منهم بأنهم يقترفون ذنبا كبيرا، وإثما عظيما. أو بعبارة أخرى فإن المنتحر يهيئ أدوات الانتحار في سرية تامة، و لا يُعثر عليه إلا وهو جثة هامدة. لماذا الاحتراق بالذات؟ ولماذا هذه الوسيلة البالغة البشاعة في إيذاء الجسد المتهالك، وفي إيلام الذات المنخورة؟ هل أصبح الاحتراق تقليدا متبعا بعد حادثة البوعزيزي الشهيرة التي انتهت بثورة الياسمين في تونس الخضراء؟ مع العلم أن العالم شهد، قبل ما يُسمى بالربيع العربي، حالات احتراق مماثلة لم تُكتب لها هذه الشهرة و هذا الذيوع. هل أضحى الاحتراق أداة للتعبير عن الرفض والقهر والألم والغبن؟ هل أصبح الاحتراق بمثل هذه السهولة بحيث يُقدم عليه في أي لحظة أي شخص عانى من ظلم معين أو إهانة من مسؤول أو قهر من الزمان؟ في محاولة عاجلة لاستقراء حالات الاحتراق سواء في المغرب أو الجزائر أو تونس أو مصر أو الأردن أو العراق أو غيرها من الدول الأخرى نجدها لا تقتصر على جنس معين أو عمر معين. فقد شملت على حد سواء النساء والرجال، والشباب والكهول. إلا أنها تشترك، في الأغلب الأعم، في انحدار هؤلاء المقدمين على حرق أنفسهم من فئات اجتماعية هشة، ومن مستوى ثقافي محدود. الأمر الذي يدعونا لمساءلة هذا الخطاب الاحتجاجي الجديد، والبحث عن أسباب تفشيه في حياتنا اليومية. أهو ضعف في الوازع الديني؟ فالإسلام حرم قتل النفس لأنه من أكبر الذنوب مصداقا لقوله تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا» سورة النساء، الآية 29-30. وهل يمكن أن يكون استفحال الظلم والقهر الاجتماعي في الوقت الراهن مدعاة للحرق؟ نحن نعلم مسبقا أن أسلافنا في العقود التي مضت عانوا الأمرين من جراء الاستعمار الغاشم الذي أبدع في إذلالهم وقهرهم، ولم نسمع أبدا أن واحدا منهم أقدم على حرق نفسه. هل يمكن أن يكون الفقر المدقع، والتفاوت الاجتماعي مبررا للحرق؟ نحن نعلم من خلال روايات آبائنا وأجدادنا عن السنوات العجاف التي ذاقوا مرارتها بسبب الجوع وقلة ذات اليد والعري والأوبئة. ومع ذلك لم يصل إلى مسامعنا خبر حرق واحد منهم لنفسه. ما دلالة الاحتراق بالنسبة للمقدم إلى هذا الفعل الشنيع؟ هل هو هروب من جحيم الدار الدنيا إلى جحيم الدار الآخرة؟ هل له وعي بذلك؟ هل يعتقد في قرارة نفسه أنه يُقدم نفسه قربانا وفداء؟ هل يمكن اعتبار الحرق تعبيرا عن غموض مفهومي الحق والواجب لدى المقدمين على هذا الفعل المؤلم؟ هل هو غياب للنفس المطمئنة فينا؟ أم هو تخليد بطولي؟ أهي رسالة ملغزة للمجتمع تُعري، بشكل فاضح، واقع انعدام التواصل بين المواطن والسلطة، والمواطن وجمعيات المجتمع المدني؟ هي رسالة أشبه بدعوة مبطنة إلى دراسة وتحليل ظاهرة الاحتراق. ينكب عليها رجال الدين، وعلماء النفس، والمساعدون الاجتماعيون، ورجال السلطة، والمجتمع برمته لإيقاف هذا النزيف المحترق. هي رسالة مبحوحة من إنسان يعيش ظمأ داخليا، يطمح إلى الارتواء في وقت تأججت فيه نيران الاحتراق، وتعالت أعمدة الدخان تشق عنان السماء.. لم يطفئ هذا الظمأ الذي يتسع يوما بعد يوم سوى سماع صوت آذان المغرب مهللا الله أكبر في كل مكان.