4 كان أول الصف عند باب الدكان المجاور لزاوية الشيخ امحمد النظيفي، وآخره في ساحة باب الفتوح توأم ساحة جامع الفناء وجارتها. ويا له من شعور بالاعتزاز كان ينتابني وأنا أراقب، وبتركيز، كيف جلس والدي على كرسي خشبي وإلى جانبه قفة خبز، وأخرى من التمر، وعلى مسافة قليلة، وضعت مصطبة عليها نقود معدنية من قيمة الصولدي الذي تقل قيمته عن القرش، وإلى جانب الصولدي هناك القرش ثم نصف الفرنك، ثم الفرنك الذي يعادل أربعة قروش، ثم نصف الريال من الورق المُقوى، ثم الريال، فخمسة فرنكات ورقة. وكان الوالد لسمعته وأمانته وتجربته، يُرشح للقيام بمهمة البذل، نيابة عن بعض المحسنين الذين يطمعون في أن يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، فيدفعون بيمينهم ما أخفوه عن شمالهم للوالد الذي ينظر إلى الوجوه مقدرا لكل واحد ما يكفي حاجته من الخبز والتمر والنقود. ومن المتطوعين المنظمين من يقف بالمرصاد لكل من أخذ حظه حتى يسير في اتجاه غير الذي أتى منه، وذلك حتى لا يُفسح المجال للمتلاعبين الذين لا يخلو منهم أي عصر. وطبعا لم تكن تلك الأموال التي تُغدَق على المحتاجين من مال أبي فقط، لأنه لم يكن يملك إلا ذلك الدكان الخاص بالحلاقة والحجامة، وبالكاد تكفيه مداخيله لمصروف المنزل المكتظ، وأجور المتعلمين والصناع الذين يتقاسمون مكسبهم مع الدكان، وكانوا قد اشتهروا بمهارتهم "كأحمد الحيري"، الذي أخذه أبي من خالته طفلا صغيرا ويتيما حتى يمنعها من التسول به، فخصص لها أجرة يومية تغنيها عن السؤال. كما فعل الشيء نفسه مع صانع آخر اسمه "الحسين وْلْدْ المسكينة"، وأشرف على تعليمهما. أما الأول، أحمد الحيرى، فقد أظهر مهارة ملفتة، فبدأ يسند إليه كثيراً من المهام التي كان يقوم بها بنفسه، بل أكثر من ذلك، فقد عودنا جميعاً نحن أبناؤه على مخاطبته ب"خويا أحمد"، وقبل أن يفارق الحياة عقد له على أختي الكبرى "نجمة" ولكن الزواج لم يتم إلا بعد سنة من وفاته. أما الصانع الآخر فاسمه "عرفة" واختصاصه ختن الأطفال، واعتبره أعيان البلاد المْعَلّم الأفضل والأسلم والأضمن لعافية أطفالهم. وهناك "أحمد الربيع" الذي تخصص في حلاقة الأطفال. ولم تكن مداخيل الدكان لتكفي هذا الكم الهائل من الأسر لو لم يكن في اعتبار أهل مراكش أن الحلاقة مرة في كل أسبوع سُنة واجبة يؤجر عليها كما يؤجر على غسل الجمعة، وأخذ الزينة عند كل مسجد. ولعل القسم الأهم من المداخيل كان يأتي من بعض العلماء، والأعيان، والقياد، والشيوخ، الذين لا تسمح لهم ارتباطاتهم بالقدوم إلى المحل، فيرسل إليهم الوالد الصُّناع إلى منازلهم، فيدفعون بسخاء. وكان الوالد يعتبر ذلك سعة ً في الرزق، وفضلا من الله على هذه المهنة الشريفة التي كان أصحابها يرددون المقولة التي تُنسب إلى أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: "زيَن الله من زيَن الرجال". ومن الأغراض الأخرى التي تُقضى للمؤمنين في بعض دكاكين الحلاقة، قلع الأضراس، بالمقابل وبغير مقابل، والحجامة بإخراج بعض الدم من القفا للتخفيف من الضغط. وقد كان الميسور يدفع، بينما المعسر يتلقى العناية نفسها والخدمة ذاتها دون فلس واحد في مغرب التكافل زمن الصفاء. والملفت في كل ما يجري صباح كل جمعة في داخل الدكان وخارجه، هو الانضباط واعتبار الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك. فالبرنامج القار عند الوالد، يبدأ بالتحضير لآذان الصبح بصوت "السي مبارك" الذي كان أهل الزاوية يرون فيه مكارم "بلال" وأفضاله، على الرغم من لكنة إفريقية تنقصها الفصاحة التي كانت تميز آذان أبي عندما ينوب عنه لسبب من الأسباب. وأذكر أنني حضرت وصعدت معه يوما، أثناء قيامه بهذه المهمة المباركة. أمّا قيام الصلاة فتلك لها مأموم، لا يمكن أن تزور الزاوية دون أن تراه يتنقّل بين سواريها بقامته الرفيعة ولحيته البديعة والسبحة لا تفارق يده مع الذكر المستمر: "الشيخ الجيلالي" رحمه الله. وبعد الأذان وصلاة الضحى ثم قراءة الحزب المقرر، تبدأ عملية توزيع الصدقات من نقود وخبز وتمر، لتنتهي قبل تشكيل موكب الشيخ الجليل السيد امحمد النظيفي الذي قال في رثائه شاعر الحمراء، سنة ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين: مضى إمامُ الهُدى والعلم والعمل**قضى الإمام النظيفي كعبة الأمل قضى فعمَّ الأسى مُراكشا وسوى**مراكشٍ من أقاصي السّهل والجبل فاسأل تآليفه تنبيك عنه وعن** علومه فهْي مثل العارض الهَطِلِ وتآليف الشيخ قد حُددت في خمسة عشر مؤلفا وقد خلَّف لنا السي الحسن بعضها في خزانته المتواضعة. لم يكن والدي يسمح لي بمصاحبته متى أشاء وحين أشاء، لأن الفقيه محماد كان يرى أني قد دخلت في مرحلة تُلزمني ما يلزم أخواي عبد الله، الذي يكبرني بتسع سنوات، وابن أبي من زوجته احْبيبتي رقوش أحمد، والذي يزيد عني بسنتين. كنت أتنافس وأخي أحمد في كل شيء: في كرة القدم، في الجري، في ركوب الدراجة، وفي التردد على أعجوبة الزمن ومُوضة العصر السّوليما، التي كان كل واحد منّا يختبر مكانته عند أمه للحصول على ستة فرنكات، ثمن التذكرة لمشاهدة فيلم الأسبوع بقاعة القنارية اليتيمة داخل مدينة الحمراء. كل هذا دون علم الوالد بالطبع، ورغم الحراسة المشددة المضروبة علينا من طرف الفقيه محماد الذي أسكنه والدي في الدّوِرِية المشرفة على باب المنزل والخاصة بالضيوف، وبقراءة الحزب، ومراجعة السّور القرآنية. أما أخي الأكبر عبد الله فلم يكتف الوالد ببلوغه أعلى درجات الكتّاب، وتخريجه سِلْكَتَيْن صعودا من سورة الناس إلى سورة البقرة، ثم هبوطا حفظا وكتابة، بل أصر على أن يبعده عن المدينة إلى قرية "البْحِيرة" عند فقيه آخر أكثر اطلاعا بعلوم القرآن والتفسير "سيدي محمود"، وفي فرع من فروع الزاوية التيجانية، حيث كان الوالد يرى أن عبد الله قد آن أوانه للالتحاق بكلية ابن يوسف بعد السلكة الثالثة عسى أن يرى فيه عالما من علماء الجامعتين القرويين بفاس وابن يوسف بمراكش. اعتبر أخي الأكبر ذهابه إلى بحيرة سيدي محمود نفيا وسجنا، لانعدام وسائل الترفيه والعيش الذي تعود عليه في رعاية لاّلة رقية أمه وأمي. أما أخي الأوسط أحمد وأنا فوجدنا في هذا الإبعاد حُرية أكثر، وتخلصا من مراقبة الأخ الأكبر الذي كان يلح عليه الوالد أن "يْدِيرْ بَالُو عَلَى خُوتُو". وتمر الأيام والشهور، ويعود عبد الله بسلكته الثالثة مع المزيد من الفهم والإدراك لعلوم الفقه، الشيء الذي أثلج الصدور، ولمّع سورة أبناء حي القصور، وبلغ صداه إلى قرية أمزميز مسقط رأس جدي الحاج محمد ابن عبد الله آيت بو لخضرت. وبولخضرت هو مصطلح أمازيغي لقبت به أسرتنا في هذه القرية، ويعني أهل الخضر لما عرف به الأجداد من نشاط فلاحي يوفر التنوع في الزراعة. عمت البهجة أمزميز التي لا تبعد عن مراكش إلا بخمسين كيلومترا، وكذلك كان الحال في قبيلة أمي التي تتواجد في منطقة وِيرْغَانْ والمسمات إِمَارِيغْنْ، وهي منطقة تناولها بتفوق شديد الأستاذ أحمد التوفيق في كتابه "والد وماولد" والذي يجمعني به نسبٌ من جهة أمه "لالة عبوش". أما في مراكش، فقد احتفى السي لحسن الحجام بولده عبد الله، وأقام له حفلا يقام له ولا يقعد، ولم يغفل فيه لا صغيرة ولا كبيرة من طقوس الزردة، فألبسه الجبدور: وهو عبارة عن ثلاثة قطع من قماش المليفة الحرة، أبدع في طرزها المعلم "عبد السلام الخُشبْة"، وهو واحد من أمهر خياطي المدينة القْشَاشَبِيَا وأشهرِهم. وزاد في روعة الملبوس، فوقية من قماش حياتي الشفاف، تظهر من تحتها صنعة لمعلم الخُشبْة التي اكتملت بها زينة المُتخرج المثيرة لإعجاب الصغار، والمُذكية لرغبة الاجتهاد في النفوس. يتبع.. سيرة ذاتية للفنان المغربي الكبير محمد حسن الجندي بعنوان "ولد القصور"، تنشرها هسبريس مُنَجمة عبر حلقات يومية في شهر رمضان الكريم.