مثل كتاب قديم أتصفح أوراقه، شرعتُ أُقلب صفحات ماضي الشخصي ، صفحةً صفحةً. تُسعفني الذكريات حينا و تتمنع علي في بعض الأحيان. غير أن إصراري لم يَلن للعودة بذاكرتي إلى مداها الأبعد من أجل تسجيل أكثر ما يمكن من محطات، خاصة منها تلك التي وضعت بصماتها بعُمق على طفولتي و صباي وأثرت في بقوة كوطني مُقاوم و رسمت مسار حياتي كمناضل إلى يومنا هذا من أجل تقدم و رفعة هذا الوطن. و قد تكون هذه المحطات، أحداثا وطنية عامة طبعت جيلا بكامله، مثل الأحداث الكبرى التي عرفتها بلادنا و هي ترزح تحت الاستعمار، أو تلك التي عاشتها بعد الاستقلال من صراع بين قوى التقدم المتطلعة لغد أفضل لجميع فئات الشعب المغربي و بين الرجعية المُتحلقة حول النظام و المُتحالفة معه من أجل استنزاف خيرات البلاد و قمع العباد. كما قد تكون محطات و أحداث شخصية، تندرج في سياق الأحداث الوطنية الكبرى، بدءا من انضمامي للمقاومة المسلحة ضد الاستعمار في منتصف الخمسينات إلى المشاركة في جيش التحرير بالجنوب بُعيد الاستقلال إلى مشاركتي في بناء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و الاتحاد الاشتراكي تاليا، ثم النقابة الوطنية للتعليم...و اعتقالي سنة 1973 و معاناة تجربة «الكوربيس» الفظيعة و بعدها التجربة الرائعة في تسيير جماعة «عين الذئاب». كان محل الحلاقة الذي يستغله الوالد، واحدا من أملاك "العلالات"، و هي عائلة من كبار الملاك العقاريين بالمنطقة، و قد استأجره والدي منهم. و كان المحل قريبا من باب سكناهم. و في مرة من المرات، و قد أنهيت تنظيف الحانوت و كنستُ التراب من أمامه و رششت بعض الماء، أخرجت كرسيا من الدكان و جلست أراقب الشارع. فجاء الصغير ولد علال رحمه الله، و هو مالك العقار الذي نكتري أحد حوانيته، و شد على أذني جارا إياي جرا حتى أوصلني إلى باب داره و أراني سائلا أصفر مُترقرقا على دفة بابه و سألني بغلضة : "من الذي بال هنا؟". خلصت أذني من يده بصعوبة و قلت له : "لست خادمك حتى تسألني هذا السؤال" و شتمته شتيمة مُقدعة و أنا أهرب منه إلى محل الحلاقة. عدت إلى المحل و أنا أغلي غيظا بسبب الظلم الذي لحقني من شخص يعتقد - لأنه ثري- أن له الحق في معاملة الجميع معاملة العبيد. و لم يخفف من غيظي سوى عمي أحمد رحمه الله، و كان محله قريبا من محلنا، الذي رآني على تلك الحال فحكيت له القصة فما كان منه إلا أن حرضني :"خذ حجرة و اضرب الاقرع تاع بوه". لم آخذ حجرا كما قال لي عمي لكن هذه الحادثة تركت أثرها العميق و الراسخ في نفسي... و حين جاء الوالد بادر الحاج الصغير ولد علال بالتشكي إليه من "تجاسري" عليه فسمعتُ والدي يرد عليه قائلا: " و لكنك أنت الذي ظلمته آ الحاج، ما كان ليسبك لو لم تظلمه"، و هو الرد الذي أثلج صدري و جعلني أعتز بوالدي. في تلك الآونة لم تكن هناك خدمات بلدية تتولى تنظيف الشارع أو الأماكن العمومية، لذلك فقد كان كل واحد يتولى تنظيف الجزء المخصص له. أما حين تتراكم النفايات أو تحل مناسبة من المناسبات، و يُراد تنظيف الشوارع، فكان يتم استقدام المساجين للتنظيف، و لعل هذه المهمة كانت أخف المهام التي يُكلف بها هؤلاء. فأغلب الأشغال التي كان يقوم بها المساجين هي من الأشغال المُضنية مثل كسر الأحجار و بناء الطرقات. فمعظم الطرق المرصفة بالكارة آنذاك قد تمت بعرق جبين هؤلاء المساجين. حيث كان يُؤتى بالعشرات منهم مُكبلي الأقدام يكسرون الأحجار و يدكونها دكا بواسطة مدماك ثقيل على شكل مستطيل يتعاون أربعة منهم على حمله من مقابض سميكة و يدكون به الأرض أو الطريق المراد ترصيفها. كان يؤتى بهم صباحا على شكل موكب محروس بمخازنية قُساة غلاظ ، ثم يُعادون إلى السجن في منتصف النهار قصد تناول غذائهم و يعودون عصرا ثم يُقادون عند مغيب الشمس إلى السجن للهجوع حتى الصباح. و كان هؤلاء - فيما علمتُ بعد ذلك- من الوطنيين المعتقلين من مناطق أخرى. أما سجناء الحق العام من أبناء المنطقة فلم يكونوا يكلفون بمثل هذه الأعمال الشاقة بل كان بعضهم يخرج من السجن للقيام ببعض الخدمات لموظفي السجن أو للعمل في بيوتهم ثم يعودون مساء للنوم في السجن. و ظل الأمر على ذلك حتى قبيل الاستقلال، حين رحلت إلى الدارالبيضاء، و تنظمت في خلايا المقاومة، حيث كنت أكلف بزيارة بعض المعتقلين الوطنيين (من برشيد أساسا) فأزودهم بالجرائد و أتبادل معهم بعض الأخبار، مستفيدا من معرفتي بمدير السجن فكنت أدخل على أساس أني حلاق أقوم بحلاقتهم لكني في نفس الوقت كنت أتصل بهم و أساعدهم قدر المُستطاع. كان بالكَارة حي خاص باليهود (الملاح) أغلب ساكنيه من الحرفيين الفقراء. كان بعضهم يتجول بالمدينة مُناديا لشراء بواقي الصوف و الجلاليب المهترئة و المتلاشيات التي لم تعد تصلح للاستعمال، يبيعونها بدورهم لواحد منهم يُدعى "يعيش" كان له دكان شبيه بمغارة علي بابا بالملاح ، يقبل شراء أي شيء و لا ندري كيف يبيع تلك الأشياء و لا لمن يبيعها. و من بين سكان الملاح أيضا الإسكافيون الذين كانوا يتجولون في الأسواق و الخياطون و الصباغون و "النقايرية" أي صاغة "النقرة" (الفضة). و كان اليهود الميسورون، و معظمهم تجار في الثوب و الكتان، لا يسكنون الملاح بل يتخذون منازل بالقرب من دكاكينهم في الحي الإداري. و كان من بين هؤلاء اليهود من تمكن من الاندماج تماما في المجتمع المسلم، بينما ظل آخرون نائين بأنفسهم مُنطوين على ذواتهم و على جماعتهم. و لم يكن تواجد اليهود مقتصرا على الكَارة المدينة، بل كان ممتدا حتى البادية حيث كان البعض منهم يعيشون في تجمع من الخيام في "ماكوس" على بعد حوالي عشرة كيلومترات من الكارة. و أغلب هؤلاء من الحرفيين الذين يرتادون الأسواق على متن بغالهم. و في "ماكوس" نفسها كانت مقبرة اليهود الخاصة التي يدفنون بها موتاهم. و كان اليهود ما أن تدنو شمس الجمعة من المغيب ، حتى يشرعون في التوافد على الفرن حاملين قدورهم، التي تحتوي "السخينة" و هي الأكلة التقليدية لقطع صيام السبت لديهم. كما كانوا يحتفلون بأعياد اليهود الدينية، بشكل عادي، و يمارسون طقوسهم الخاصة رغم أنه لم يكن بالكَارة معبد خاص بهم. و قد كنا و نحن أطفال مشاغبون، يَحدُث أن نسرق شاشية أحدهم، و نهرب بها أو نتبادل رميها بيننا، فيظل اليهودي المسكين، و لو كان في سن آبائنا، يتبعنا مستجديا دون أن يجرؤ على مهاجمة طفل من أطفال المسلمين، رغم قدرته البدنية على ذلك، إلى أن نتعب فنرميها إليه ليلتقطها و يواصل مشواره. و أشعر الآن، و أنا في هذه السن المتقدم، بحجم الخطأ الذي كان يرتكبُه ، دون وعي منه، ذلك الطفل الذي كُنتُهُ. و كان واحد من سكان الملاح، يُدعى "بيريز" له أولاد كثيرون أحدهم يحترف الصباغة، استدعاه الوالد كي يطلي لنا الحانوت. فقام بعمله كما ينبغي إلا أنه أضاف على مدار الجدران، صفا من الرسوم المتشابهة إذ كان يضع لوحة حديدية مخرومة و يصبغ فوقها ثم يسحبها مخلفة الرسم ثم يتحول إلى الجانب الموالي و هكذا دواليك إلى أن انتهى من عملية التزويق تلك، كان الرسم هو نجمة داوود السداسية. ما أن رأيتُ تلك الرسوم حتى صحت به: "ما هذا؟ هذه نجمة اليهود" فأجابني ببرود متعجرف :" هؤلاء سيحكمون العالم". و حين جاء والدي حكيت له ما دار بيننا، فغضب منه و نهره و أمره بمحو الرسوم و إعادة الطلاء، و هو ما فعله ابن بيريز حانقا. و قد كان بيريز هذا من بين أوائل من هاجر إلى إسرائيل، في أحد شهور سنة 1950 (بعد إعلان قيام إسرائيل بعامين) ، ثم تبعته كثير من أُسر اليهود المغاربة المقيمة بالكارة حتى لم يبق الآن في الكارة أي من سُكانها اليهود، باستثناء أسرة كانت تقيم خارج الملاح و كانت لهم بنت ممرضة، تُدعى "راشيل"، مكثت في المدينة حتى منتصف الستينات ثم غادرتها لا أدري إلى أين و لم أعد أعرف مصير الأسرة بعد ذلك. كان عبد القادر أخي يشتغل في دكان الحاج الصغير الذي ذكرته سابقا، بقالا حسب عقد مناصفة بينهما، و لسبب ما تنازع معه فأعطاه هذا الأخير حصته من الأرباح، و كانت تشكل مبلغا معتبرا، مما شجع والدي على فتح محل للبقالة بالشراكة مع أخي عبد القادر. و أصبح والدي يذهب للتبضع من أحد أسواق الجملة بالبيضاء مرة بعد المرة، حسب حاجيات السوق و متطلباته. فيترك أخي عبد القادر مشرفا على دكان البقالة. و كان أخواي الكبيران عبد القادر و سي محمد من هواة كرة القدم و من المشجعين الكبار لفريق نهضة الكارة. بحيث كانا لا يضيعان مباراة لها سواء تمت في ملعب الكارة أو خارجها. و في أحد الآحاد، ذهب أبي للبيضاء كعادته لاقتناء بعض السلع أو البضائع. و حدث أن عاد عصرا محملا بالسلع التي جاء بها من البيضاء على متن الحافلة، و حملها مثقلا حتى محل البقالة لكنه فوجئ بالدكان مغلقا. و اكتشف أن من تركهما نائبين عنه قد ذهبا للفرجة في مباراة لكرة القدم غير عابئين بالمسؤولية. أما أنا و قد كنتُ عائدا إلى بيتنا من الفرن حاملا وصلة الخبز بهدوء، و تصادف و قد دنوتُ من البيت أن كان بعض رفاقي يلعبون الكرة لاهين، فهربت الكرة من أحدهم متجهة نحوي فقذفتها بقدمي و أنا حامل وصلة الخبز كي أعيدها إليهم. في تلك اللحظة القدرية التقى بصر والدي المُحتقن غضبا مع قدمي تقذف الكرة ، فما كان منه إلا أن أفرغ جام غضبه علي و انهال علي ضربا باللكمات و الركلات و أنا أتلوى محاولا حماية نفسي من ضرباته المتوالية، غفر الله له. لم أتقبل الأمر و لم أستسغه بتاتا، أولا لأني كنت مظلوما إذ اعتبرت أني لم أقترف ذنبا أستحق عليه كل هذا العقاب، و ثانيا لأن هذه البهدلة جرت أمام رفاقي من الجيران الذين لا شك سيتهكمون علي و ثالثا لأني لم أعد طفلا يبتلع مثل هذه الإهانة أو لا يشعر بها البتة، فقد كنت في الخامسة عشر في أوج مراهقتي. تحاملتُ على نفسي و حملتُ وصلة الخبز. دخلتُ بيتنا على تلك الحال من الغيظ و ثيابي مُعفرة بالتراب، و قلت لوالدتي رحمها الله: "لن أبقى بهذا البيت أبدا، غدا سأرحل للدار البيضاء". حاولت والدتي المسكينة أن تثنيني بكل الوسائل من تلمس العذر لوالدي إلى تخويفي من المستقبل المجهول في مدينة كبيرة كالبيضاء. لكنها لم تنجح في ثنيي و لما رأت تصميمي و تأكدت من جدية عزمي، نادت على أخي سي محمد الأكثر مني تجربة و الذي سبق أن ذهب مرارا إلي البيضاء، فقالت له : "دُل أخيك على عنوان عمك بالمدينة". أوصاني أخي بأن أنزل في دورة المذاكرة بالبيضاء، و هي آخر محطة تتوقف بها الحافلة القادمة من الكَارة، ثم أتجه يمينا نحو "كاريان سنطرال" و هو عبارة عن براريك قصديرية و حين أصل أحد مداخله أسأل عن أمين الحلاقين و هو عمي امحمد. سلمتني الوالدة قدرا يسيرا من المال كانت قد جمعته لغرض ما و أمطرتني بدعواتها و نصائحها. و في صباح اليوم الموالي، اتبعت مشورة أخي حتى وصلت عند عمي أمين الحلاقين ب"كاريان سنطرال". رحب بي عمي امحمد فأخبرته بما حدث لي مع والدي و بنيتي المكوث و العمل معه إن أراد. بعد أن تعشينا ،أمضيت الليلة الأولى معه في نفس البراكة التي تسكنها أسرته. و لما استشعر إرادتي و إصراري على البقاء، كلفني في اليوم المُوالي ببراكة حلاقة كانت مُجهزة، و أمرني بالعمل بها نهارا و المبيت فيها ليلا. و قد كانت له ثلاث براكات مماثلة يعمل و يبيت فيها صُناع في مثل سني. و كان العُرف آنذاك هو أن نعمل طيلة الأسبوع و نقتسم المدخول مع صاحب البراكة الذي هو عمي. أمضيت عدة أسابيع في عملي كحلاق ب"كاريان سنطرال" و أنا أفكر في والدتي و في إخوتي الصغار. و بعد أن وفرت بعض المال، قررت العودة إلى بيتنا بالكَارة. كان اللقاء الأول مع والدي عاديا، إذ يبدو أنه استشعر الخطأ الذي ارتكبه بمعاقبتي على ذنب لم أقترفه، كما كنتُ أنا نفسي قد نسيتُ أو تناسيتُ ما حصل لي و عذرته بعد أن علمت مقدار الغضب الذي أحس به عندما اكتشف عدم جدية ابنيه الكبيرين. مكثت حوالي سنة و أنا أعمل في الحلاقة ببراكة عمي. كنتُ خلالها أعمل طيلة أيام الأسبوع و أتوقف كجميع الحرفيين يوم الجمعة الذي كان يوم عطلة. في أيام الجُمع تلك دأبت على الخروج مع ابن عمتي سيدي محمد رحمه الله، فنذهب إلى درب السلطان عند أحد الأشخاص يدعى محمد بن ادريس و والده سيدي عبد السلام، و هذا الأخير هو نفسه من نصح والدي الشاب باحتراف الحلاقة و الحجامة قبل عشرين عاما تقريبا و هو من أهداه أول صندوق لأدوات العمل. و كان هذا الشخص يعمل في محل حلاقة بالقريعة، و لما حَدَسَ حرفيتي و لأنه كان يعرف والدي، عرض علي العمل معه في محله فوافقت فورا، لأني رأيت بأن سكان درب السلطان و زبائن قريبي أرقى و أكثر تحضرا من زبائن "كاريان سنطرال". في البداية أسكنني هذا رحمه الله، في بيته مع أهله أبنائه و بناته، لكني فيما بعد طلبت منه أن أبقى في المحل، الذي كان يضم سقيفة (سدة) اتخذتها مسكنا لي فيها أطبخ طعامي و أبيت فيها ليلي. بل إن أخي سي عبد القادر كان ، حين يزورني قادما من الكارة، يقضي الليل معي في تلك السقيفة. و حَدَث أن وقع خلاف ، لسبب ما ، بين ولد سيدي عبد السلام المعلم و بين صاحب المحل، و هو معلم الشكارة أي أنه يملك الدكان دون أن يمتلك الحرفة، فقرر قريبي فسخ العقدة الشفوية معه و الشروع بالعمل في محل آخر، و عرض علي الذهاب معه، فوافقت. و كان المحل الجديد قرب قيسارية الحفاري في زنقة بيروت. لكن بُعيد مغادرتنا بأيام جاءني بعضُ الزبائن المواظبين، ناصحين إياي بالبقاء في المحل الأصلي، فقلت لهم أن صاحب المحل متعاقد مع ولد سيدي عبد السلام و ليس معي فأخبروني بأن صاحب المحل (معلم الشكارة) راغب في بقائي بنفس الشروط التي كان يشتغل بها ولد سيدي عبد السلام، أي المشاركة مناصفة في المدخول. و لما أخبرت قريبي بالعرض وافق عليه و شجعني للبقاء. مكثت في ذلك المحل، حيث أصبحت أتمتع باستقلال أكبر و ازداد مدخولي أكثر. و في مرة من المرات زارني والدي رحمه الله بشكل مفاجيء، في محلي ذاك ففرح لنجاحي و جديتي و عاد مسرورا، إلا من أمر واحد لم يُعجبه، إذ وجدني وأنا في ميعة المراهقة قد حلقت لحيتي فقال لوالدتي بعد عودته، كما أبلغتني هي نفسها رحمها الله : "الكلب ديال الصالح ولى يحسن اللحية" أي أني دخلت عالم الرجال. الحلقة المقبلة : بداية الوعي الوطني و الانضمام للمقاومة