مثل كتاب قديم أتصفح أوراقه، شرعتُ أُقلب صفحات ماضي الشخصي ، صفحةً صفحةً. تُسعفني الذكريات حينا و تتمنع علي في بعض الأحيان. غير أن إصراري لم يَلن للعودة بذاكرتي إلى مداها الأبعد من أجل تسجيل أكثر ما يمكن من محطات، خاصة منها تلك التي وضعت بصماتها بعُمق على طفولتي و صباي وأثرت في بقوة كوطني مُقاوم و رسمت مسار حياتي كمناضل إلى يومنا هذا من أجل تقدم و رفعة هذا الوطن. و قد تكون هذه المحطات، أحداثا وطنية عامة طبعت جيلا بكامله، مثل الأحداث الكبرى التي عرفتها بلادنا و هي ترزح تحت الاستعمار، أو تلك التي عاشتها بعد الاستقلال من صراع بين قوى التقدم المتطلعة لغد أفضل لجميع فئات الشعب المغربي و بين الرجعية المُتحلقة حول النظام و المُتحالفة معه من أجل استنزاف خيرات البلاد و قمع العباد. كما قد تكون محطات و أحداث شخصية، تندرج في سياق الأحداث الوطنية الكبرى، بدءا من انضمامي للمقاومة المسلحة ضد الاستعمار في منتصف الخمسينات إلى المشاركة في جيش التحرير بالجنوب بُعيد الاستقلال إلى مشاركتي في بناء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و الاتحاد الاشتراكي تاليا، ثم النقابة الوطنية للتعليم...و اعتقالي سنة 1973 و معاناة تجربة «الكوربيس» الفظيعة و بعدها التجربة الرائعة في تسيير جماعة «عين الذئاب». كنا ونحن أطفال نسعد كثيرا حين يكلفوننا بالذهاب عند دار عمي الشاذلي خصوصا، لمُرافقة جدتي التي كانت لا تقضي الليل إلا في غرفتها عندنا. و كان سبب هذه السعادة العارمة هو أننا سنتمتع بسماع الأغاني المنبعثة من "الماكينة"، و هي جهاز قارئ للأسطوانات كان عصريا و نادرا في ذلك الوقت، أي في منتصف أربعينات القرن الماضي. لا أذكر الآن أيا من الأغاني التي كنت أسمعها حينذاك، باستثناء أغاني المطرب الجزائري العنقا، إذ لم تكن الأغاني و لا كلماتها هي مصدر مُتعتي آنذاك بل كان مبعث سروري الحقيقي هو مراقبة تلك الآلة العجيبة و هي تتحرك ببطء و تصدر الموسيقى و الأغاني من بوقها البارك فوقها. و قد كانت "الماكينة" تلك هي وسيلة التسلية الأكثر عصرية آنذاك، و هي قارئة أسطوانات تعمل ببطارية يتم شحنها يدويا فتنبعث الأنغام من بوق كبير موضوع فوقها. و كان عمي الأكبر "با الشاذلي" الساكن بجوارنا يملك إحداها،على عكس والدي الذي لم يشأ اقتناء واحدة لأنه كان يعتبرها وسيلة للتلهية المجانية كما كان يعتبر الإنصاتَ لها مضيعة للوقت. و لم يكن الإنصات للماكينة وحده هو الذي يُحبب لي الذهاب عند عمي الشاذلي، بل كان هناك أمر آخر لم تكن فرصة مشاهدته متاحة لي في أي مكان غيره....فقد كان عمي هذا، غفر له لله و رحمه، مُبتليا بتدخين الكيف مُدمنا عليه، فكنت أُمضي وقتا جميلا و أنا أتابعه منهمكا في عمله الدقيق في إعداد كيفه. فقد كان يقتني "طرفا" من الكيف و يقسمه إلى حزمات صغيرة (ربطات أو رباطي ج: ربطة) تتضمن كل واحدة منها بضعة سنابل من الكيف، يضيف إليها غصنا صغيرا واحدا من نبتة التبغ (طابا). ثم يشرع في تنقية سنابل الكيف بتؤدة دقيقة ، بتخليصها من بذور الكيف و من "الحشيشة"و هي تلك النبتات الصغيرة البنية المحيطة بالبذور، و يقوم بتصفيفها فوق لوح خشبي خاص و يشرع في "تقصيصها" قصا دقيقا ناعما بواسطة الشفرة، و هي سكين دائرية الشكل، حتى تصير في الحجم الذي يريد ثم يأخذ وُريقات تبغ "طابا" فينفخ فيها بعضا من الهواء الرطب المنبعث من فمه ممسكا بها في قبضته، و يُقصصها بنفس الطريقة ثم يعمد إلى مزجها بنسبة محسوبة مع الكيف المقصوص حتى تتجانس المادتان. حينذاك يسحب غليونه (السبسي) من شكارته و يضع بعض الكيف الممزوج بالتبغ في "شقف" السبسي و يشعل تلك الكمية الصغيرة و يسحب من السبسي مَجة أو مَجتين، و بذلك يتذوق ما صنعت يداه، فإن كان راضيا عنه- و نادرا ما يرضى- جمعه ووضعه في كيس خاص يسمى "المطوي" ،أما إذا لم يستطبه فإنه يضيف شيئا من التبغ إلى كيفه أو يزيد من كمية الكيف قليلا حتى يستوي و يرضى عنه. هكذا تعلمت الكثير عن الكيف و أنواعه و درجات جودته رغم أني لم أدخنه أبدا طوال حياتي. و رغم أن بيت عمي كان مستندا إلى بيتنا من الناحية الخلفية، إلا أن المسافة التي كانت تفصل مدخلي البيتين كانت غير قصيرة، لذلك فإنا، حين عودتنا مع "مي عايشة" ليلا إلى البيت، كنا نستعين بضوء قنديل نحرص أشد الحرص على حمايته من الريح، و كثيرا ما كنا نتشاجر حول من يكون له شرف حمل القنديل. و من وسائل الإنارة السائدة آنذاك، كان الشمع هو الأساسي، إذ كان والدي يقتني قراطيس الشمع كل أسبوع. و القرطاس هو العلبة الورقية التي تضم ثلاث شمعات من الحجم الكبير، أو إثني عشر شمعة صغيرة. و كان الشمع الكبير غالبا ما يوضع على "الحسكة" و هي شمعدان نحاسي بارتفاع نصف متر تقريبا تتوسطه أسطوانة نحاسية صغيرة توضع عليها علبة الثقاب ، و كنا نستخدمه في الغرفة التي تضمنا جميعا. أما الشمع الصغير فقد كنا نستضيء به أثناء خروج أحدنا للمطبخ أو المرحاض أو لفتح الباب على طارق ليلي. و من الوسائل الأخرى للإنارة كان هناك "القنديل"، و هو عبارة عن فتيل يخرج من وعاء صغير به وقود سائل نسميه "الكاز". و كان هذا القنديل ينير الأماكن المغلقة الصغيرة أو الطريق حين إشعاله، لكنه لا يصمد أمام هبات الريح القوية مثله مثل الشمعة على حد سواء، لذلك فقد كنا نتفادى هذه الهَبات بوضع كفنا المفتوحة و المقوسة إلى الداخل على شكل واق من الريح. أما "اللامبة" فقد كانت عبارة عن قنديل أكبر مع قارورة من زجاج خفيف و شفاف تحمي لهب الفتيل من الرياح و تبعث بالنور إلى مساحة أوسع. و قد ظلت هذه هي وسائل الإنارة في بيتنا حتى بداية الخمسينات، حين شرعنا في استخدام التيار الكهربي، وحينها تغير نمط الحياة و خاصة بالليل، إذ اقتنى والدي مذياعا يبث الأغاني المختلفة و يُزودنا بأخبار العالم المضطرم بالأحداث. كما أن حضور الكهرباء و المذياع بيننا جعل سهراتنا الليلية داخل البيت تطول أكثر و تمتد إلى ما بعد صلاة العشاء بكثير، و هو ما كان يُثير حَنَق والدي علينا. أما الماء فقد كنا نتزود به من "الكراب" الذي يطوف على أحياء المدينة يبيع الماء الشروب الذي يجلبه من "العوينة" و هي الحنفية العمومية التي تقع بالحي الإداري، و يبيعه لسكان المنازل البعيدة عنها مثل حالنا. لكن يحدث أن ينفد ماء "الكراب" أو يقترب من النفاد فنُكَلف بالإتيان بالماء من "العوينة" نفسها، إذ كان علينا أن نحمل دلوين حديديين (سطلين) حتى صنبور الماء العمومي (العوينة) و نملأهما ثم نعود بهما مُترعين ثقيلين حتى البيت كي نصبهما في "الخابية" و هي الإناء الطيني الكبير المخصص لحفظ الماء. و لم يكن هناك وقت محدد أو معروف لهذه العملية، بل ما أن يدنو الماء من النضوب، حتى تنادي والدتي على أحدنا كي يقوم بجلب الماء الضروري دون اعتبار للوقت، الذي قد يكون صباحا أو عصرا أو مساء. و كانت هذه من ضمن المهام التي نكرهها و نتهرب منها، ما شاء لنا التهرب، باستمرار، مثلها في ذلك مثل الذهاب بوَصلة العجين إلى الفرن ? و كان بعيدا عنا نسبيا- و الإتيان به بعد إنضاجه خبزا. و من بين الأمور التي كنت أتهرب من القيام بها أيضا و أكرهها كرها مطلقا، هي خدمة الضيوف الذين يستقبلهم والدي في القبة، إذ كان علي أولا أن أنفخ على النار المستعرة في "المجمر" بواسطة المنفاخ (الرابوز) حتى تبلغ حرارة الماء في "المقراج" النحاسي درجة التبخر، ثم أنتظر إشارة والدي كي أحمل "المقراج" و أصُب ماءه الحار في البراد الذي يكون بين يدي والدي على الصينية الفضية، و يكون علي أن أصُب الماء بمقادير محددة يحددها هو بطرقه غطاء البراد طرقات خفيفة أو بنظرة شزراء إن أنا تجاوزت الحد. و لأني كنت أريد التخلص من هذه المهمة في أسرع وقت فقد كنت أتعجل وصول الماء إلى درجة التبخر. و كانت العلامة على وصوله هذه الدرجة هي تصاعد البخار و خروجه من الأنبوب الدقيق للمقراج، لذلك فقد كنت أرج المقراج رجا خفيفا كي يخرج البخار فأحمله إلى الوالد المشرف على عملية إعداد الشاي، لكن والدي الفطن ، رحمه الله، كان ما أن يرى ضعف البخار المتصاعد حتى يأمرني بإعادة المقراج و النفخ عليه من جديد حتى يصل الماء درجة التبخر المطلوبة. و من المهام التي كانت تثير حَنَقي أيضا و التي لم يكن لي مفر منها، هي حمل "اليد" (مقراج صغير) و "الطاس" (الطشت) و تمكين الضيوف من غسل أيديهم قبل تقديم الأكل و بعد الانتهاء منه. و كان أقسى ما يغيظني هو انهماك بعض الضيوف في الحديث أثناء صبي الماء على أيديهم مما يجعل مدة وقوفي أمامهم تستطيل و تمتد أكثر، أو حرص بعضهم على النظافة المبالغ فيها بحيث يغسلون أيديهم و يفركونها عدة مرات بالصابون، قبل أن يطلقوا سراحي بكلمة "لله يفتح عليك". و كنت و أنا صبي صغير لا أتجاوز عتبة الباب الرئيسي ، المُجاور لفندق ولد الحاج بوعبيد ، و هو الباب الذي بعده مباشرة ينفتح أمامي عالم آخر.عالم لم أكتشفه إلا بعد سنوات حينما أصبحت أخرج صحبة إخوتي الأكبر سنا مني. فبعد الباب مباشرة، كان الطريق المسفلت يصعد يسارا نحو القشلة فيما تمتد أمام الناظر و على مرمى البصر، أراضي التيرس السوداء في الصيف و الخريف و التي تكتسي بالخضرة ربيعا حين تكون مزروعة . كانت تلك أراضي ولد الملاح .. كانت دارنا تقع في زنقة "الكيالة"، التي أُطلق عليها هذا الإسم لأنها تضم عدة متاجر لبيع الحبوب، و على اليمين من دارنا على بعد خمسين مترا تقريبا، نصل إلى مفترق طرق تتجه إحداها نحو دار القايد المكي، و التي لا زالت تسمى لحد الآن ب"دار القايد"، فيما تتجه الأخرى نحو بن سليمان. أما الكارة الحقيقية، فهي تلك التي كانت على اليسار من بابنا و التي كانت تسمى ب"الفيلاج" أو "القشلة". و إذا كان "الفيلاج" معناه القرية باللغة الفرنسية ، و قد سُمي بذلك لكونه المركز الأول للقرية و محورها، فإن "القشلة" و هي تعني الثكنة فقد أطلقت على المعسكر الفرنسي الذي تأسست القرية حوله أول الأمر. و رغم أن إسم "القشلة" ظل عالقا لعدة عقود، إلا أني لا أذكر مكان هذه الثكنة و لا أتذكر أنها كانت موجودة في أربعينات القرن الماضي. كانت الكَارة حينها عبارة عن قرية صغيرة نموذجية بأرصفتها النظيفة و حدائقها المزهرة و أشجارها الخضراء. هذه القرية أنشأها الفرنسيون في نهاية العقد الأول من القرن العشرين، كمركز عسكري لقواتهم، و منطلق لهذه القوات من أجل القضاء على قبائل المذاكرة المقاتلة التي لجأت - قبل استتباب الأمر للفرنسيين - للغابة بقيادة الأحمر بن منصور. و إذا كانت الكارة - التي سماها الفرنسيون "بوشرون" على إسم أحد قادتهم العسكريين الذي قضى في معركة "واد عسيلة" في مارس سنة 1908 و هو الضابط "دراماند دو بوشرون"- عند إنشائها ،معسكرا بسيطا أحاطت به بعض البنايات الأساسية و المَرافق الضرورية للسير العادي للمعسكر، فإنها قد أصبحت حين بدأتُ اكتشافها تمثل نواة لقرية صغيرة. فالمركز حينها كان هو الحي الإداري الذي يضم المحكمة و "بيرو" الحاكم (مكتب القايد فيما بعد) و المستشفى و مقر رجال الدرك. كما كان المركز يضم سكن بعض الموظفين الفرنسيين و بعض المغاربة من الأعيان الأثرياء، و يحتضن أيضا بعض المتاجر و المحلات الصغيرة. و من بين هذه المحلات دكان والدي للحلاقة، الذي كان مشهورا بنظافته و حرفيته، و لهذا السبب كان يقصده بعض كبار أعيان القرية. و بعيدا إلى حد ما عن المركز، كان هناك ملعب كرة القدم، الذي يعود تاريخ إنشائه بالتقريب إلى منتصف الأربعينات و الذي شكل فضاء يلتقي فيه أبناء البلدة بمناسبة مباراة بين الفريق المحلي ("الجمعية الرياضية لبوشرون" في عهد الاستعمار و "نهضة الكارة" بُعيد الاستقلال) و أحد الفرق المجاورة مثل فرق بن سليمان أو برشيد أو الدارالبيضاء أيضا. كما كان هذا الملعب ملتقى للمهرجانات الموسمية التقليدية و التي عادة ما يتم تنظيمها خلال فصل الصيف عقب موسم الحصاد. و بجوار الملعب كان هناك "حي النوايل" أو الدوار، و هو عبارة عن تجمع من "النوايل" يقطنه بعض القرويين النازحين من البوادي القريبة ،الذين كانوا يمتهنون بعض الحرف البسيطة و يتسم وضعهم الاجتماعي بالهشاشة مقارنة مع سكان "الفيلاج". و النوالة عبارة عن غرفة دائرية الشكل ذات هيكل قصبي، تتم تغطيته بالقش (غلل) بشكل جيد و متماسك، بحيث يحول دون تسرب ماء المطر أو تسلل برد الشتاء القارس من خارجها. و كان لكل عائلة من العائلات المائة تقريبا الساكنة بالدوار، نوالة أو نوالتين متقاربتين، غالبا ما تكونا مصحوبتين بنوالة صغيرة تُستخدم كمطبخ للعائلة. و لم تكن النوايل على شاكلة واحدة، بل إن بعضها يتم بناؤه بشكل راق، حيث يستقدم واحد من أمهر المعلمين لبناء النوالة بشكل جيد و متقن، لدرجة أن الداخل لها ينبهر باتساعها و بالزخارف القصبية الجميلة التي يتفنن فيها "المعلمون" و تشكل بصماتهم التي تشهد لهم بالإتقان و المهارة. و من بين هؤلاء المعلمين المهرة كان خالي الحسن و خالي المصطفى رحمهما الله اللذان اشتهرا في المحور الرابط بين الكارة و برشيد بإتقانهما لصناعة النوايل. و كان أخطر ما يتهدد الدوار هو أن تشب النار في إحدى نوالاته فتمتد إلى الباقي. فإذا ما حدث أن اندلعت النار في إحداها ، فإن السكان جميعهم يهرعون ليتعاونوا على إخمادها، و يتضامنون فيما بعد على مواساة صاحب النوالة المحروقة بمساعدته على استصناع أخرى أو بتقديم النصائح القمينة بتفادي الحريق في المستقبل. و في المدخل البعيد للقرية، أنشئت بصفة موقتة "الكارانتين" و هو المحجر الصحي الذي فرضه الوباء المتفشي في منتصف أربعينات القرن الماضي. ففي تلك الفترة و كانت المجاعة تضرب أطنابها بالبلاد مما جعل أفواجا من الغرباء تنزح إلى الكارة و تبيت في العراء. و كان كثير منهم يلقى حتفه جوعا أو مرضا أو بهما معا، فتعمد مصالح الوقاية الصحية إلى جمع الجثت النتنة و دفنها في مكان ما. و قد بلغ الجوع بهؤلاء درجة أنهم كانوا يجُرون أنفسهم جَرا حتى البوابة الكبيرة لل"كوباراتيف" (تعاونية الحبوب التي يشرف عليها الفرنسيون) و كانت تقع أمام دكان والدي للحلاقة. و هناك يظلون يراقبون مُقرفصين، عملية إنزال أكياس القمح من الشاحنات التي ينقلها الحمالون إلى داخل التعاونية تباعا، و هي العملية التي تتم تحت حراسة مشددة من المخازنية المسلحين بالهراوات. حتى إذا انتهى كل شيء هرع هؤلاء الجوعى إلى المكان الفاصل بين موقف الشاحنة و بوابة التعاونية، ليجمعوا حبات القمح الساقطة من الأكياس ليسفوها سفا. و أذكر أنه في مرة من المرات و أنا عائد للبيت حاملا وصلة الخبز الناضج، رأيت شابا من هؤلاء النازحين يتقدم مترنحا في اتجاهي، حتى إذا اقترب مني ارتمى على الوصلة فاستولى على خبزة من الخبز الذي كنت أحمله ثم فر هاربا. صرخت و أنا أشير للص الهارب، فتبعه مجموعة من المارة ركضا حتى إذا ألقوا عليه القبض، وجدوه قد أنهى التهام الخبزة بكاملها. و خوفا من أن يتفشى الوباء (التيفوس) عمدت السلطات الصحية الفرنسية إلى حملة تطهير في صفوف كافة السكان مُجبرة الجميع على التوجه "للفوريان" و هو مكان يتم فيه فحص الزائرين و تحميمهم و رش أبدانهم و ملابسهم بمبيد حيوي قبل صرفهم . و إذا لاحظ أطباء "الفوريان" عَرَضا من أعراض المرض كالحمى أو الإسهال أو غيرهما أجبروا المعني بالأمر على المكوث في الحجر الصحي، و هو بناء شيد بعيدا نسبيا على مدخل الكارة، لتلقي العلاج لفترة من الزمن قد تقصُرُ و قد تطول حسب الحالات، و هو ما كان يخشاه أغلب السكان لذلك كانوا يتهربون من زيارة "الفوريان" أصلا إلا إذا أُجبروا على ذلك قسرا. كانت هذه هي قرية الكارة التي تفتحت عيناي على سمائها و نهلتُ من مائها و ترعرعتُ على أرضها و ترابها و في كتاتيبها حفظت أولى آيات القرآن و تلقنت أولى حروف اللغة العربية. الحلقة المقبلة : مسار العائلة