فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو تعليم لغات أجنبية حية: مقاربة سوسيو ثقافية
نشر في هسبريس يوم 24 - 05 - 2016

- Toward learning live foreign languages : a socio cultural approach
- Pour l'enseignement des langues étrangères vivantes : une approche socio-culturelle
- Para la enseñanza de lenguas extranjeras vivas : un enfoque socio cultural
خلق الله سبحانه وتعالى البشرية جمعاء في أحسن صورةٍ ما شاء ركّبها، وجعل للإنسان عينين ولساناً وشفتين وحَبَاهُ بمعجزةِ النّطق والكلام والذكاء والسمع والقدرة على تخزينِ المعلوماتِ والصور البسيطة والمعقّدة والقدرة على استرجاعها وتذكّرها في لمحة البصر، قدرةٌ خارقةٌ وفائقة عجزت عنها علوم الدنيا بأكملها، فتبارك الله أحسن الخالقين. وقد حبّب الله تعالى الكلام وجعله متداولاً بين الناس عن طريق اللغة. كما هيأ الإنسان وجعل له فؤاداً وعاطفة وأحاسيسَ ومشاعر تتقلب حسب الظروف ويعبر عنها إما بالنطق أو الملامح أو الكتابة أو بأساليب أخرى، وسخّر له السّبل على اختلاف ألوانها ومشاربها كي يتعلم ويبحر في عالم الفكر والمعرفة وخلق الناس شعوباً وقبائل كي يتعارفوا، رغم اختلاف ألسنتهم، وجعل أعلاهم منزلةً وخيرَهم درجةً في الدنيا والآخرة مَنْ تحلّى بالتقوى. وبما أن العلم لا يتأتى إلا بالتعلم والحلم إلا بالتّحلم، فكان من المنطقي أن تحرص المجتمعات على تعليم أبنائها وبناتها حتى يبلغوا درجة من العلم والمعرفة، ولعلّك إذا بحثتَ في مسار التعليم والتعلم في دول العالم الإسلامي تجد أن هذه الأخيرة قد مرت بفتراتٍ وحقب أوجبت عليها تغيير بعض المفاهيم والمعايير فيما يخص المناهج وطرق التدريس.
فالتعليم الأصيل مثلاً، كان يعتمد على طريقة الحلقات التعليمية المعمول بها سابقاً والتي تعتمد على الحفظ وعلى التّلقي المباشر من المدرس أو المعلم وغالباً ما تعطى هذه الدروس في المساجد أو الزوايا (كدول المغرب العربي مثلاً) أو دور العلم. ولما كان الاحتكاك بالأمم الأخرى قدراً محتوماً لما عرفه العالم الإسلامي من فتوحاتٍ وتوسع، أصبح من اللازم تعلم لغات أقوام مختلفة. وبطبيعة الحال وبموازاةٍ مع التطور الذي حصل في جميع أقطار العالم الإسلامي أصبح لهذه الحضارة صيتٌ فأضحت هذه الأمم الجديدة العهد بالإسلام تتهافت على ما لدى العالم الإسلامي من علومٍ وفنونٍ ومهاراتٍ حرفية. كما أن ازدهار العلم وتفوق المسلمين في شتى المجالات في البحث العلمي حتّم عليهم الاطلاع على ما لدى غيرهم من الأمم من علوم وفنون ومهارات كذلك، فأصبح ميدانُ الترجمةِ يزخر بكتبٍ نفيسة في علوم الفلسفة اليونانية والرياضيات والكيمياء والفيزياء والطب وعلم الفلك والحساب واللسانيات إلى غير ذلك من العلوم.
كما ظهرت فيما بعد علومٌ جديدةٌ أيضاً كعلم الكلام لدى الفرق الكلامية، فأضحى التأليف شيئاً يفخر به المسلمون ويتنافسون فيه. كما يلاحظ أنه قد تعلّم العديد من المسلمين لغاتٍ أجنبية وأتقنوها بل برعوا في الكتابة بها وتُرجِمت على يدهم كتبٌ نفيسةٌ. ومع تطور الزمن، ومع دخول الاستعمار إلى العديد من البلدان الإسلامية، جاءت معه المدارس الحديثة لتفرض لغة المستعمرِ بقوة. وهكذا تعلم أبناء المسلمين لغاتٍ أجنبية للتعايش مع المناهج الدخيلة الجديدة، وتعلموا لغة المستعمر للتّمكن من كسب قوتهم اليومي والتغلب على المصاعب بعدما رأوا ما حصل عليه أبناء الأعيان والمقربين من الإدارة الاستعمارية من ترفٍ ومكاسب مادية.
وها نحن اليوم بفضل الله وعونه في منأى عن المستعمر والاستعمار لكننا وبشكل آخر نجد أنفسنا تحت ضغوط اقتصادية واجتماعية فرضت نفسها لكي نجد أنفسنا أمام واقعٍ محتوم: علينا أن نتعلم ونُعلّم أبنائنا لغةً أجنبية إذا أردنا مسايرة هذه الحضارات وما يعرف بعصر العولمة. لقد أضحى تعلم اللغات الأجنبية ضرورة لا مفرّ منها شئنا أمْ أبَيْنا، وأصبحنا نعي ونعقل المثلَ القائل: "من تعلّم لغة قومٍ أمِنَ مكرَهم".
أهميّة تعلّم اللغات الأجنبية:
أضحى تعلُّم لغةٍ إلى جانب اللغة الأولى/الأم (Mother Tongue: L1) ضرورةً من الضرورات الحتمية في هذا العصر، لهذا أصبحت الوزارات المعنية بالتربية والتعليم حريصةً على إدماج اللغات الأجنبية في المنظومة التعليمية، كما اتجهت أنظارُ التربويين والإداريين والسياسيين، بالإضافة إلى أولياء الأمور والمنظرين إلى التأكيد بل والتشديد على ضرورة وأهمية تعلم اللغات الأجنبية. وبإلقاء نظرةٍ وجيزة على السياسات التربوية في المغرب، نجد اهتماماً متزايداً بتعليم اللغات الأجنبية في مراحل عمرية مختلفة، كما ازداد الاهتمام بتعليم اللغة الإنجليزية وتمّ إدراجه في سنٍّ مبكرةٍ جداً بدلاً من السلك الثانوي وخاصة في المدارس الحرة. ولا يفوتنا أن نشير هنا أن الأمر لا يقتصر على المغرب فحسب، بل أصبح ظاهرةً في العديد من بلدان العالم. فمثلاً اتّجه الاتحاد الأوروبي إلى تدريس لغتين أجنبيتين إلى جانب اللغة الأولى/الأم منذ مراحل عمرية مبكرة. غير أن بعض المغاربة أنفسهم قد يجهلون حقيقة أن الله تعالى حباهم بموهبة تعلم اللغات الأجنبية وذلك راجع إلى المخزون اللغوي بهذا البلد (Linguistic Diversity) وكذلك إلى غنى الموروث الثقافي باختلاف ألوانه وأطيافه، وكذلك موقع المغرب الجغرافي الذي جعله على أبواب أوروبا وصلة وصلٍ بين أوروبا وبلدان أفريقيا. وقد فرضت اللغة الفرنسية والإسبانية نفسيهما على المغرب بحكم القرب وكذلك الحقبة الاستعمارية، لكن هذا لم يمنع المغاربة من تعلم لغات أخرى كاللغة الإنجليزية والألمانية والروسية وغيرها سواء في المرحلة الجامعية أو من خلال مراكز اللغة التابعة للبعثات الثقافية. كما أن ثنائية أو ازدواجية اللغة الأم (Bilingualism) لدى العديد من سكان المغرب كاللغة الأمازيغية أو البربرية والعربية أدّى إلى سهولة استيعابِ وإتقانِ اللغاتِ الأجنبية لدى أولئك. وساهم تعلّم اللغات الأجنبية في التعرفِ على ثقافاتٍ أخرى كوسيلة لتوصيل ثقافتنا إلى الغير.
فرضت اللغة الإنجليزية نفسها كما قلنا على بقاعٍ شتّى في العالم. وكما حرص الفرنسيون على دعم البلدان الفرنكوفونية للحفاظ على مكانة اللغة الفرنسية، سعى الإسبان إلى مثل ذلك سواء في بعض بلدان أفريقيا وفي أمريكا اللاتينية وغيرها، وسار على دربهم الألمان، أما بريطانيا وأمريكا وكندا فقد ساعدهم انتشار مراجع العلوم والبحث العلمي والإعلام ولغة التجارة والصناعة والتكنولوجيا والتواصل إلى بسط اللغة الإنجليزية بشكل عالمي. وبذلك انقسم تعليم اللغة الإنجليزية إلى ثلاثة محاور رئيسية يشمل كل واحد منها على تخصصات عديدة: لغة عامة (General English: EFL) ولغة إنجليزية مهنية (English For Specific Purposes: ESP) ولغة إنجليزية تجارية (Business English). كما بدأت مؤخراً اللغة الصينية تحظى بالاهتمام من طرف شعوبٍ شتّى، وكذلك اللغة اليابانية التي بدأت تفرض نفسها على مؤسساتٍ تعليميةٍ عديدة في البلدان التي تنّبأت بأنه سوف يكون لتلكما اللغتين شأنٌ كبيرٌ في المستقبل. وكما يقول المثل: (رُبّ ضارةٍ نافعة) فقد عرفت اللغة العربية هي أيضاً انتشاراً ملحوظاً ولا يستهان به في السنوات الأخيرة وبدأت تُدرّس في العديد من المؤسسات التعليمية والجامعات بعد الهالة الإعلامية التي شهدها العالم الإسلامي بسبب الحروب المتتالية في عدة بلدان في الشرق الأوسط وغيره كحرب الخليج على سبيل المثال. كما أن الغرب بدأ يقر بحقيقة أن للغة العربية مكانة خاصة إذ لن يصيبها اعوجاج على مستوى القواعد مصداقا لقوله تعالى في سورة الكهف: " الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا... " (الآية). ويبقى الهاجس الكبير لدى كثير من الناس والسؤال المطروح دوماً هو: كيف نتعلم لغةً أجنبية في وقتٍ وجيز؟
وبما أننا نعيش في عصر السرعة فقد أضحت هذه الظاهرة أو الاعتقاد طاغياً على حياتنا اليومية، فأصبح الناس يستعجلون في كل شيء. وبحكم الخبرة، ومن منطلق الواقع في الشرق الأوسط بالذات، كثيراً ما يسألنا البعضُ إذا ما كانت هنالك طريقة (وعلى حد قولهم "وصفة") تتيح لهم تعلم اللغة الإنجليزية بسرعة !!! ولا عجب في ذلك فنحن نعيش في عالم "الخلطات" لكل شيء، ولا غرابة أيضا في إقحام ذلك المفهوم حتى في طلب العلم!!! إذ أصبح التعجّل طاغياً على كل تصرفاتنا وعل كل شيءٍ في نمط حياتنا العصرية: على كلامنا وعلى معاملاتنا مع الغير إذ نريدهم إنجاز المعاملات في أقصى سرعة، وحتى على طريقة أكلنا وشربنا ومواعيدنا، فنحن أصبحنا نأكل بسرعة ونمضغ بسرعة ونبلع بسرعة وندخل الحمام بسرعة ونرد على المكالمات بسرعة ونلتقي ونفترق بسرعة، بل "نخبط بعضنا ببعض" في محطات الحافلات والقطارات وأوراقنا وأغراضنا تتطاير لأننا نهرول بسرعة، بل منا من يسقط على الأرض إما لزيادة الوزن بتناول الوجبات السريعة أو للبس الكعب العالي ... وبعبارة أخرى أصبحنا نحب الاختصار في كل شيء ونحبّذ كل ما هو "موجز" (أخبار موجزة، اجتماعات موجزة، كتب موجزة، وتعليم موجز!)، لذا أصبحنا نستعجل حتى في تلقي العلم ونريد أن نتعلم كل شيء في أيام معدودات بل لو أمكن ذلك في ساعات أو دقائق وجيزة بحجة ضيق الوقت!!!
وبحسب ما سار عليه الرعيل الأول من المسلمين والعلماء والباحثين العرب وغيرِهم من الأمم والحضارات الأخرى، فإن التبحّر في نهل العلم والمعرفة كان هو السِّمة المعهودة، إذ كان الناس يشدّون الرّحال إلى أمصارٍ بعيدة طلباً للعلم، مع التّأني والحرص على التحصيل النافع. ونرجو ألا تطغى هذه العجلة والتكنولوجيا بشكل كلّي على نمط التحصيل العلمي. فرغم ما وصل إليه الإنسان من تقدمٍ مدهش في التكنولوجيا الحديثة، يظلّ الكتاب الورقي شيئاً أساسياً، وكلّما ابتعدنا عن الكتاب كلما كان لذلك تأثيرٌ على مخرجاتِ التعليم والتحصيل. سُؤِل أحد العلماء اللّغويين واسمه كراشن (Krashen)، وهو عالمٌ لغويٌّ معاصرٌ معروف، سؤِل ذات مرة في أحد المؤتمرات عن مدى تأثير التكنولوجيا على تعلم اللغات الأجنبية فأجاب بكل بساطة: "من أراد أن يتقن لغة ما، فليلزم الكتاب ولا يبتعد عنه." بمعنى أن لا يضع الكتاب جانباً ويعتمد على الحاسوب فقط ويبتعد عن القراءة التقليدية. ولهذا اعلم بأن اقتنائك لأحدث التقنيات قد لا يجعل من ابنك أو ابنتك تتكلم اللغة بطلاقة، بل اعلم بأنك لو أنفقت ساعاتٍ قليلة من وقتك وتصفّحت بعض الكتب سواء الجديدة أو المستعملة وحرصت على تعليم أبنائك وبناتك على التعود على القراءة والاعتماد على النفس في حل التمارين والواجبات قد تكون بفعلك هذا قد قدمت لهم خدمة لن تنسى والخير الكثير وأعنتهم على تخطي الصعاب فيما يتعلق باللغة. واعلم كذلك بأن القراءة المستديمة ليست متعةً فحسب، بل هي واجبٌ وسببٌ في التعلم المثمر.
وهنا يطرح السؤال نفسه: ما أهمية تعلم اللغات في عالم اليوم؟ ومنه تتمخض تساؤلات أخرى هي: لِمَ هذا الاهتمام البالغ والمتزايد بإضافة لغات أجنبية في المناهج التربوية في العديد من البلدان العربية وحتى الغربية؟ لماذا تتجه العديد من الدول اليوم إلى تعلم اللغة الإنجليزية بشكل خاص؟
و للإجابة على هذه التساؤلات، يبدو من الضروري إيضاح الفوائد و الميزات التي يتحصّل عليها متعلم أي لغة أجنبية من أجل إيضاح مدى أهمية تعلم اللغات أولاً وأهمية تعلم اللغة الإنجليزية ثانياً. لكننا نعلم بأن هنالك من ينادي بالتقليل من الحمولة اللغوية لدى الطفل المغربي، أي أن لا نثقل كاهله بتعلم اللغة العربية الفصحى (التي لا يتكلمها في البيت)، واللغة الفرنسية ثم اللغة الإنجليزية أو غيرها، بالإضافة إلى اللغة العامية العربية أو اللغة الأمازيغية التي هي لغة التواصل بينه وبين أهله وذويه ومحيطه. لكن هنالك نظريات أخرى لا ترى بأساً في ذلك، بل ترى أن البحوث العلمية والدراسات في هذا المضمار أشادت بتفوق العديد ممن لهم ثنائية أو ازدواجية أو تعدد اللغات. وبما أن مسألة تعريب العلوم ما زالت تتطلب مجهوداتٍ جبارة، فلا عيب أن تُدَرّس تلك العلوم بلغةٍ أجنبية مع إتقانِ اللغةِ العربية لتتّسع قدرة الطالب في البحث العلمي والقدرة على المقارنة والكتابة بأيّ لغةٍ شاء.
كما أنّ التجارب العلمية أثبتت أن تعلم واستعمال اللغات الأجنبية يعود على الفرد وأسرته ومجتمعه بفوائد تربوية وثقافية وشخصية واقتصادية وسياسية جمّة. فمن الناحية التربوية، أثبتت التجارب أن تعلم لغة أجنبية (أو لغات أجنبية) منذ سن مبكر يفيد الطفل في القراءة والكتابة بلغته الأولى. كما أن هناك دلائل على أن تعلم اللغات في أعمار مبكرة يسهم على نحو فعال في تطور ذكاء ودهاء وصقل مهارة الفهم لدى الطفل كما يطور نتائجه الدراسية على نحو ملموس. هذا و قد ثبت أن هناك ارتباط بين ثنائية أو ازدواجية اللغة والقدرات اللغوية والمكانية للفرد. كما أنها تعطي الطفل مرونة في التفكير وحساسية أكبر للغة وقدرة أفضل على الاستماع، وإن شئت فلديك أمثلة حيّة عديدة من سكان المغرب الذين يتكلمون اللغة الأمازيغية والعربية لكي تلمس تلك القدرات الخارقة في الذكاء واتساع رقعة التفكير والابداع، وان شئت كذلك، فارجع إلى الأشعار الأمازيغية الخالدة لترى بأمّ عينك مدى تأثير الثنائية اللغوية في نسج الخيال المبدع، وارجع أيضاً إلى الموروث الثقافي الأدبي والفني العربي المغربي في الشعر والزجل فستلمس تلك الروعة في الإبداع الخلاق لا محالة. واعلم أن ذلك المخزون اللغوي الهائل المتنوع المُنساب بين مدنِ وقرى وسهول وجبال وصحراء مغربنا الحبيب من لغة عربية وأمازيغية وريفية وزيانية وحسّانية، جعلت من المغرب مرجعاً للعديد من الدراسات والبحوث في اللسانيات الاجتماعية (Socio Linguistic Research & Studies).
أما من الناحية الاجتماعية والثقافية، فتجربة تعلم لغة أخرى يمكن أن تُشبّه برحلة استكشاف في عالم اللسانيات. فاللغة الجديدة هي بمثابة نافدةٍ تُفتح للفرد للاطلاع على ثقافاتِ وحضاراتِ أممٍ أخرى لم يعرف عنها من قبل. فهي الوسيلة التي تسمح للفرد بالوصول إلى الثقافات الأخرى والغوص في أعماق عناصرها المتشابكة، وبالتالي تأخُذُ الحياةُ بعداً جديداً وتفتح للفرد آفاقاً أخرى قد تغيّر مسار حياته بشكل إيجابي (إنْ أحسن النيّة واستقام). فالشعوب تعرّف عن نفسها وعن ثقافاتها وعاداتها وتقاليدها عن طريق اللغة. ويكفي أن نشير إلى ما وصلنا عن شعوب أخرى من خلال ما خلّفه الرحالة ابن بطوطة مثلاً ما كان ليوصلها لنا لو لم يتعلم بعضا من لغات تلك الأمم. ويمكن إيجاز فوائد تعلم اللغات الأجنبية في النقاط التالية على سبيل المثال لا الحصر:
تعلم لغة أخرى رصيدٌ وكنزٌ لا يعرف قيمته إلا من جربه أو دعته الحاجة إليه.
تعلم لغة أخرى يصقل مهارة التفكير والإبداع ويقوي مهارة التفكير النقدي (Critical Thinking).
تعلم لغة أخرى قد يساهم في إبعاد المرء عن التوجّه العقلي والفكري المتحجّر والمتشدّد ويتيح له فرصةَ الاطلاع على عاداتٍ و تقاليد مختلفة.
تعلّم لغة أخرى إلى جانب إتقان اللغة الأم يؤدي إلى اتساع آراء المرء عن العالم لتضمّ فهماً أعمق لكيفية تفكير الآخرين.
تعلم لغة أخرى يوسع فهم الفرد لما يدور في المحيط الخارجي من مفاهيم وسياساتٍ وتوجهات، كما تربي فيه غريزة العطف على أخيه الإنسان وعلى الثقافات الأخرى وتتحول هذه المشاعر إلى أداةٍ جبارة لمواجهة النمطية والتعصب.
*تعلّم اللغات الأجنبية يساعد المرء على اكتشاف ما تزخر به ثقافته مما يجعله يسعد بهويته وبمعتقده وأصوله وبروح المواطنة الحقة.
*تعلّم اللغات الأجنبية يساعد على تنمية وصقل مهارة التفاعل الثقافي لدى الفرد (Intercultural Competence Skill).
*تعلم لغات أخرى مختلفة يساهم في تشبّع الفرد بثقافته المحلية (Indigenous Culture) مما يجعله قادراً على المقارنة المنطقية بين وجهات النظر ويشجعه على التسامح وحب السلم ونبذ العنف.
*تعلم لغات أخرى كاللغة الإنجليزية يساعد في البحث العلمي والاطلاع على ما وصل إليه العلم الحديث في ميادين التكنولوجيا والطب والصناعة والعلوم الانسانية والاجتماعية وغيرها، وفهم دواليب التجارة العالمية وفنون تسيير المقاولات وغير ذلك.
*تعلم لغات أجنبية أخرى قد يكون سببا في فعل الخيرات بمساعدة البشرية والتسابق في الإحسان وتعريف الغير عن جمالية الإسلام ومكارم الأخلاق.
وتتّحد الفوائد الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية في كونها فوائد تعود على الفرد نفسه بالخير الكثير وتجعله فرداً ومواطناً نافعاً لأسرته ومجتمعه. ومن ناحية التواصل المتبادل (Cross Communication) فاللغة ستسمح للمجتمع بالاتصال والتشاور وتبادل الخبرات مع جهات علمية واقتصادية أخرى، كما سوف تساهم في تقريب وجهات النظر بين السياسيين والاقتصاديين وخبراء التعليم والثقافة من مجتمعات أخرى لتحقيق تفاهم ثقافي واجتماعي واقتصادي وسياسي يعود على الأفراد والمجتمعات بأوجه عديدة من النفع والخيرات، ويساهم في تكريس روح التعاون والإخاء والمحبة والسلم بين الشعوب.
(وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)
*رئيس مركز اللغة الإنجليزية، مستشار إداري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.