استوقفني اسم "حنان الحروب" لما يتضمن اسمها من تناقض واضح بين كلمة "حنان" وما يكتنزه من معاني الشوق والحنين والرحمة والرفق بالآخرين وبين ما يتولد عن "الحروب" من خراب ودمار وبؤس وشقاء للناس أجمعين، خاصة في المنطقة التي تقوم فيها السيدة حنان بعملها التربوي النبيل. تعيش السيدة "حنان الحروب" المعلمة الفلسطينية في جو من التوتر والحرب تكاد لا تتوقف إلا من أجل أن تجددها دواع عرقية أو طموحات توسعية أو أسباب سياسية أو علل طائفية دينية، تتخذ ميدانها في هذه الأرض المقدسة، وما حولها، التي تشرفت بوطأة أقدام الأنبياء والمرسلين، الذين ما ظهروا فيها إلا من أجل أن يكونوا رحمة وحنانا للبشر من لدن رب العالمين. إن الفضل الكبير للسيدة حنان يتجلى في قدرتها على مزج الضدين المقترنين باسمها الأول مع الثاني وتذويبهما في قالب التوافق والانسجام، ليتبلور في عملها التربوي الذي أبهر سكان العالم بما اتصفت به من جدية في بذل الحنان لهؤلاء الصغار الذين هم في أشد الحاجة إليه، وبما اختطت لنفسها منهجا خاصا في التعليم يساعد الأطفال على تجاوز الصدمات التي يعيشونها ويشاهدونها. هؤلاء الصغار الذين يعيشون في بيئة لا يمكن أن تنتج ظروفها منهم إلا كارهين حاقدين على من يتصورون أنهم السبب في بؤسهم وشقائهم وشقاء آبائهم وأمهاتهم، ولا يأملون إلا في أن تتاح لهم فرصة في مستقبلهم القادم عندما يكونون قادرين على الانتقام من أعدائهم. وهكذا تستمر الأمور البائسة في حرب لا قرار لها. الشيء الذي يجعل التفكير يحتار في فهم السر الذي جعل هذه الأرض المباركة، التي ظهر فيها هذا العدد الكبير من الرسل المربين الروحانيين، لا تنام ولا تستيقظ إلا على حرب جديدة بدلا من أن تكون نموذجا للأمن والسلام يقتدي بها بقية العالم ويتوجه إليها سكان الأرض تبركا بها؟. في هذه الأجواء تحاول السيدة "حنان" أن تساهم كفرد في مجتمعها الغاضب المتربص، أن تجد لها موطئ قدم مع صبية صغار لتبني معهم عالما يسود فيه الفرح والسرور الذي أودعه الله في جبلتهم، وتجتهد في استخراجه من أعماقهم بطرق تربوية طالما عمل المدرسون منذ أن جربت الطبيبة "مونتيسوري" الإيطالية نجاعة تعلم الصغار باللعب، وآمنت بالمبدأ القائل إن كل طفل يحمل في داخله الشخص الذي سيكون عليه في المستقبل. والطفل الطبيعي لا يحمل في داخله إلا ما زرعه الله في وجدانه من نبل وخير. ولا شك في أن عمل المربين والمربيات الساهرين على مصالح الصغار الحريصين على تنشئتهم، يساعد كثيرا على استخراج وتنمية ما في وجدانهم من مشاعر الحب والفرح والسرور. ولا ريب أن الجائزة التي أحرزت عليها السيدة "حنان" قد تنافس عليها العدد الغفير من المدرسين والمدرسات من مختلف الأرجاء، وكل واحد منهم يحمل تجربته وطريقته الخاصة بالتدريس التي تعمل على مساعدة الصغار في جانب من جوانب بناء قدراته الذاتية للفوز بهذه الجائزة المستحقة. فكانت الجائزة من نصيب هذه المعلمة الفلسطينية لما تميزت به من إنبات زهرة السرور وقيم الأمل والطموح والجد في نفوس أطفال يعيشون في بيئة اجتماعية متوترة لا يمكن لأوضاعها الأمنية الصعبة إلا أن تنعكس سلبا على نفسياتهم وتصرفاتهم لكثرة ما يرونه من فظائع العنف والاعتداءات اليومية والاقتتال والمذابح وعمليات هدم المنازل التي تتسبب فيه القذائف من الأرض والسماء في مختلف بلدان الشرق الأدنى، وما تؤدي إليه من مآسي الهجرة ومخاطرها والعيش في المخيمات تفتقر إلى مستلزمات الحياة الطبيعية العادية، مما يؤثر على الأطفال الذين قد تصبح شخصياتهم ميالة إلى العنف بمختلف أشكاله. هل بالإمكان أن نفكر مليا، ولو للحظة، أن التربية والتعليم لما له من أثر كبير على تكوين الناشئة، له نصيب من المسؤولية، إن لم تكن كل المسؤولية، على ما يحدث من مآس في الشرق الأدني؟ أم أن التربية لا علاقة لها بما جرى ويجري، لا في الشرق الأدني ولا الشرق المتوسط ولا الأقصى ولا في غيرها من بقاع الدنيا؟. إن الطريقة الجديدة التي سلكتها المعلمة "حنان" قد حققت نتائج إيجابية جدا مع أطفالها، ومكنتهم من تجاوز مرحلة الصدمات والتوتر والخوف، ونقلتهم إلى طبيعتهم الأصيلة، يلعبون ويمرحون كأطفال مع أصدقائهم، ويحققون نتائج إيجابية في تعلمهم، وعادت إليهم الثقة في نفوسهم البريئة في وسط يصول فيه الحزن والكآبة صولة الثعبان الغاضب. ولذلك انفردت بهذه الجائزة التربوية التي جعلتها مفخرة العاملين في مجال التربية والتعليم، واستحقت أن يقف لها العالم يوفيها التعظيم والتبجيل. ولعله من المشروع أن نتساءل آملين، مرة أخرى: أفلا يمكن أن تنتشر هذه الطريقة، طريقة اللعب وسواها من الطرق الفعالة الناجعة، التي تدخل السرور والأمل في الناشئة، وفي مختلف المستويات التعليمية، حتى ينمو نموا طبيعيا، تزداد فيهم الثقة في نفوسهم وفي زملائهم وغيرهم، ويملأ التفاؤل والأمل أفكارهم في مستقبل لا يترقبون فيه الخوف والإحباط ولا يتوجسون من الوقوع في هاوية اليأس والتوتر والانحراف؟ هل بالإمكان إنشاء جوائز للمدرسين المبتكرين المبدعين على المستوى الوطني والإقليمي والمحلي تشجيعا وتحفيزا لهم على الابتكار، حتى يسهموا مساهمة فعالة إيجابية في تكوين أجيال تستخدم عقولها وقدراتها في ما يعود بالرخاء والأمن والسلام على الجميع؟. لا ريب أن المسؤولين على وضع برامج التعليم وأهدافه يركزون على ما يحقق المصلحة العامة، كما يعتمد المدرسون والمدرسات على طرق تربوية تستهدف تقوية أجساد المتعلمين والارتقاء بعقولهم وأفكارهم والسمو بمشاعرهم وروحانياتهم حتى يتمكنوا في المستقبل المنظور من النظر إلى الأمور ببصر حديد وفكر منير والإدلاء وقت الحاجة بالرأي السديد، ويحققوا ما لم يقدر طموح أسلافهم على إنجازه من الازدهار، واجتناب الأسباب المؤدية إلى الحروب الذي يرمز إليه الاسم الثاني لحنان. أم أن المطلوب من "حنان الحروب"، وغيرها من المدرسين، أن يزرعوا في عقول وقلوب الصغار بذور النزاع والعداء والحروب بدلا من التعارف والتفاهم والتعاون للعيش في أمن وسلام ؟