يبدو من خلال مختلف معطيات المشهد السياسي الراهن , وبالأخص من خلال "خطابات" وأداء وسلوك الفاعلين الرئيسيين فيه, أن هناك تضييعا للبوصلة : بوصلة استكمال البناء الديمقراطي وإنجاز مهمات الانتقال إلى الديمقراطية بتفعيل فعلي لروح الدستور, واستثمار ما يتضمنه من إمكانيات التقدم نحو بناء دولة المؤسسات القوية ودولة الحق والقانون وفصل السلط والمساواة ..هذه البوصلة سقطت من يد من المفروض فيهم العض عليها بالنواجذ .. وتم استبدالها بأخرى عمياء أو مصابة بالحول لا تضيء طريقا ولا ترشد للأفق المطلوب : فلم يعد طموح جل الأطراف المؤثثة للحقل السياسي يتجاوز حدود إما تكريس الموقع الذي يحتله في العملية السياسية الجارية , أو تحسينه بزيادة مقاعد هنا وحقائب هناك ولو على حساب التاريخ والمرجعية والهوية , وإما تجنب الانهيار الكلي أوالإنمحاء من المشهد ..وإما الحصول على تمثيلية بالمؤسسة التشريعية ولو أدى ذلك إلى مزيد من البلقنة للحقل الحزبي ...باختصار , نحن الآن في وضعية غياب المشاريع , و" موت الإيديولوجيا "كتعبير عن هويات وتيارات فكرية كبرى .. فلا مشروع اليوم لدى أحزاب اليسار, وأحزاب اليمين المحافظ , واليمين المدعو زورا ب "الحداثي". وفي ظل وضعية كهذه تحتضر السياسة, تختلط الأوراق, فيتحول جزء من اليسار إلى حليف وفي ليمين محافظ..وجزء آخر منه إلى ملحقة ليمين " معاصر حداثي !!", وبينهما قوة متحكمة يسميها البعض " حزبا سريا" والبعض الآخر يدعوها «دولة عميقة ", وفي السجال يصفونها ب "عفاريت وتماسيح "..الخ , وكلها تعبيرات عن إفلاس وعجز وقصر نظر. إنها صورة سوداوية حقا, ولكن هي ما نشاهد, ونقرأ تفاصيلها في الصحافة الوطنية وفي خطب " الزعماء" وفي جل البرامج الحوارية.. فما العمل؟ في نظري المتواضع أرى أن هناك مهمات مترابطة آن أوان الإنكباب على إنجازها بشكل متزامن , يتداخل فيها الإيديولوجي بالسياسي بالتنظيمي وبالثقافي التنويري , وعليه فإن خطة العمل المطلوبة لابد أن تضع كأهداف لها ما يلي : 1_ إعادة الاعتبار للإيديولوجيا في العمل السياسي الحزبي, لما لها من أدوار إيجابية في تشكيل ثقافة سياسية , وتشكيل منظومات قيمية مؤطرة للفعل السياسي , وموحدة للإرادات , ومعبئة من أجل تحقيق مطالب وبرامج تستجيب لحاجات التقدم والتنمية والدمقرظة ..فلا يجوز اختزال الإيديولوجيا في تعريف أحادي, أي باعتبارها "وعيا زائفا ", فالإيديولوجيا هي التي تصوغ اتجاهات ودوافع وأهداف ومصالح محددة , وتضفي , بالتالي على الممارسة السياسية معنى وقيمة.. وفي هذا السياق فإن اليسار مطالب بتجديد ارتباطه بالاشتراكية, خاصة في زمن تغول النيوليبيرالية المتوحشة وسياساتها المدمرة على كافة الصعد. إن الانتظام داخل التراث الاشتراكي , فكرا وتجارب, أمسى مسألة هوياتية شديدة الحيوية والحساسية في وضعية اليسار اليوم هنا.. وهناك.. ولا يمكن لأي دعوة لإعادة بناء أو توحيد قوى اليسار المتفرقة والمنتشرة في مناحي المجتمع أن تكون ذات فعالية وجاذبية, خارج الاجتهاد النظري الجماعي من أجل إعادة صياغة الاختيار الاشتراكي لليسار في ضوء المعطيات الجديدة والمعقدة لعالم اليوم. 2_ إعادة مد الجسور بين الفعل السياسي الحزبي وبين الفعل الثقافي التنويري في مختلف فضاءات المجتمع, وذلك إنقاذا للسياسة من مختلف النزعات التي تخلع عنها نبل مقاصدها : من براغماتية فجة , وانتهازية لا أخلاقية , وشعبوية فقيرة المعنى وقصيرة النظر..الخ , وذلك من أجل بناء وعي سياسي جماعي مؤطر بقيم المواطنة الإيجابية والفاعلة, قيم الحق والعدل والاعتدال واحترام الاختلاف مع الآخر, والاعتراف به وبحقه في حرية التفكير والاعتقاد والاجتهاد ..فذلك هو ما سيقيم أمام كل نزعة لاعقلانية وأمام مختلف " الظلاميات" سدا منيعا تتحطم عليه أوهامها .. 3_ إنضاج ثقافة تنظيمية حزبية جديدة , تستلهم انكسارات مسار تاريخي طويل , تفرقت فيه السبل بين الإخوان والرفاق بسبب هيمنة نزعات الإقصاء والهيمنة وسوء التدبير للاختلافات ..الخ إن الغاية من تجديد الثقافة التنظيمية هي جعل الحزب اليساري الكبير المنشود , إطارا تنتظم داخله مختلف الفعاليات والشرائح الاجتماعية ,من مثقفين وأطر مختصة وشباب ونساء وعمال وفلاحين ومهنيين من مختلف القطاعات .. إطارا يشكل تجسيدا للديمقراطية التي ننشد إرساءها في المجتمع . ومن هنا فأساس هذه الثقافة التنظيمية هو القبول بالتعدد المتنوع, بالتيارات, " بألف مدرسة .. وألف وردة" تتبارى في مناخ لاتلوثه النزعات المرضية للزعامة وما ينتج عنها من نتائج سلبية ,لطالما عشنا, وما زلنا ,مضاعفاتها الكارثية على الصف الديمقراطي التقدمي عموما .. هذه بإيجاز شديد مداخل, لابد من استحضارها لأجل تجاوز ما نعاينه اليوم من " بؤس السياسة" , وانحطاط العمل الحزبي