"ثورة المريدين" كرواية، تستلهم التاريخ بقوة، ولذلك فإن مؤلفها سعيد بنسعيد العلوي رجع إلى أهم مصادر هذه المرحلة وتشبع بها إلى أن امتلك ناصيتها واستعملها بانسيابية في عمله الإبداعي هذا. بل، ربما كان لتكوينه كمؤرخ للفكر أثر في المساءلة المنهجية التي قادته كروائي وكباحث إلى الجري وراء سيرة ثانية محتملة كتبها البيدق عن ابن تومرت تكون مادتها أصدق من الرواية المتواترة التي يحتمل أن تكون قد تعرضت للتشذيب على يد الخليفة عبد المومن. ومهما يكن من أمر، فالمؤرخون لابن تومرت ولخليفته انتهوا إلى أحكام في شأن الشخصيتين تكاد تكون نهائية فيما يخص درجات الاستبداد والماكيفيلية. أعتقد أن المؤلف قد توفق إلى حد بعيد في بناء روايته انطلاقا من مسارين حكائيين أكسبا الرواية جاذبية خاصة، فهناك من جهة، تجربة وجدانية أصيلة بدأت منذ عقود مضت، تحكي مسار عبد المولى اليموري وعالمه الخاص وبالموازاة معه هناك الروائي وكاتب السيناريو الذي انعزل في خلوته الأندلسية شهورا من أجل كتابة رواية عن المهدي بن تومرت، القائد الروحي وزعيم طائفة من الأتباع المخلصين الذين رافقوه في رحلة العودة إلى مراكش وفي نيتهم القيام على دولة المرابطين. السياق التاريخي لهذا المشروع - الحمل هو سياق الربيع العربي الذي مست آثاره بلدانا عربية كثيرة اقتحمها اليموري اقتحاما حينما شد الرحال، لأيام معدودات، إلى القاهرة ليعاين عن كثب ما كان يجري في ميدان التحرير من نهوض شعبي وليعيش عن قرب موقعة الجمل، تلك الموقعة التي رافقته مشاهدها فيما بعد إلى مراكش ليعيشها في شبه غيبوبة في موطنه الأصلي، وللحظة تراءى له في الميدان طيف المهدي وارتجت في أذنيه صيحات لطالما سمعها فيما كان ابن تومرت يردده في مواعظه. أما شلة المثقفين والفنانين الذين التقاهم هناك فهم منغمسون في وقائع الثورة دونما زيادة، وكانت تفصلهم مسافة تشكك وحذر إزاء ما يجري في بلدهم. فهم يعيشون تلك اللحظة بقدر كبير من الانخراط والتوجس والإقبال على الحياة. هو نفس الإقبال على الحياة وحلاوة العيش الذي يرتسم في ذهن القارئ وهو يتنقل بنوسطالجيا دافقة ما بين الأماكن والأزمنة التي عبرها عبد المولى اليموري، نوسطالجيا شبيبة الستينات والسبعينات التي كانت تلهت وراء غد أفضل ومستقبل باسم صنعت سياقاته في ظل التحولات التاريخية المعاصرة في أبعادها المحلية والكونية ومن خلال تعابيرها المختلفة ومنها الثورة الثقافية في الصين والزخم الفكري والسياسي لما بعد الثورة الناصرية ورجة هزيمة 67 وأبعاد انتفاضة 68 في فرنسا ونتائجها وموجة الهيبي والحركات السلمية المتصلة بحرب فيتنام ووصفات القومية العربية والتطلعات الاشتراكية في العالم العربي وامتداداتها الراديكالية والانعكاسات الفنية والفكرية لهذه المرحلة الغنية بالآمال والتطلعات. محطات صنعت بإيحاءاتها بعض مضمرات هذا النص فيما اعتقد، وإن كانت صفحات هذه الرواية لا تتسع بالضرورة لسرد كل هذا المناخ المتمرد والمشاكس. ولعلنا نحس، بعد وقت، باستقرار نوع من الاستكانة لواقع عنيد وبانطفاء جذوة المشروع الجماعي لهذا الجيل. في بنيتنا الفكرية أمثلة عن هذا الانسداد التاريخي المتكرر. وفي مسارات كثير من أعلامنا الكبار صدى لذلك الانحسار. لقد انتهى الأمر بالغزالي وابن خلدون وابن الخطيب واليوسي إلى نوع من الزهد في الأغراض الدنيوية والانخراط في طريق الآخرة بشكل إرادي تارة وبشكل قسري مفروض تارة أخرى. لم ينته اليموري إلى شيء من هذا القبيل، فهو لا يزال متوثبا لمعانقة مباهج الحياة واكتشاف الدنيا والناس شغوفا بمعارفه وأصحابه دونما تمييز بخصوص معتقداتهم ولا أجناسهم ومتفائلا من إمكانية تحقيق طموحاته المهنية والفكرية، لا يزال متطلعا إلى الانعتاق من القيود التي تكبل مجتمعاتنا مترصدا قيام المهدي المنتظر، وأعني جماعة المتمهديين الذين سعوا إلى خلاصهم الشخصي وصدقتهم الغوغاء، وأقصد ابن تومرت وابن هود الماسي وابن قسي والجزولي وابن أبي محلي وآخرين. الحظ الأوفر من عناية اليموري ناله محمد بن تومرت، وهو أمر مستحق لأنه نموذج لمشروع اكتمل فتحققت أمانيه وتطلعاته ونال اهتمام الباحثين غربا وشرقا بفضل مؤهلاته العلمية والقيادية الفذة. والإحاطة بالمهدي المنقذ من الضلال والمطهر من الآثام ومن الظلم والفوضى تطلبت مجهودا كبيرا من صاحبنا فقد جعله يعيش بيننا وفي مخيلتنا كبطل تاريخي مشخصا دوره الخاص، مخترقا بلاد المغارب محتسبا وواعظا وداعيا إلى أن وصل إلى موطنه بذرى الأطلس الكبير حيث تنتظره جماعات المصامدة التي عانت الأمرين من حكم صنهاجة؛ جبايات جائرة وهتك للأعراض وإمعان في المحاصرة والتضييق. المصامدة شعب أبي وجد فرصته لأخذ مكان تحت الشمس في الانصياع لمطلب المهدي والعمل على نصرته. ولأجل ذلك لا بأس في الدوس على تطلعات شعوب أخرى وعصبيات مناوئة، المهم هو أن تنعتق مصمودة ومن انضم إليها منذ وقت مبكر. هكذا تأسست دولة إمبراطورية واسعة الأركان للأنصار فيها وللمهاجرين والسابقين إلى نصر الدعوة الحظ الأوفر من الحظوة، فيما آل أمر المخالفين إلى الاسترقاق و دفع غيرهم إلى الهوامش حيث بقوا متربصين بها من بعيد في انتظار فرصة للقيام. هكذا هي دول العصبيات، أيام تتداول بين الناس. وهكذا يصبح المهدي الذي ارتقى به أصحابه إلى مقام شبيه بالنبوة بل وقبلوا، بطاعة عمياء، تقمصه لبعض محطات السيرة النبوية. شخصية من زمان آخر وزعيم عصبية ليس إلا، يقسو على مخالفيه بالاستعباد والتقتيل الشديد، شخصية أتوقراطي معصوم من الزلل و "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " متمرس بالحيل والأكاذيب التي عدت من الكرامات وأضفيت عليها قداسة لا يسلم المتشكك فيها من سوء العاقبة. البيئة التي خرج منها المهدي ليعود سنوات فيما بعد بالفتح المبين هي بيئة كهان وعرافين (الركادة إمكون وتامكونت) وقد عرفوا بالمبشرين ومنهم أبو محمد البشير من دائرة العشرة والشيخ عبد الله الهسكوري من أهل الخمسين في حين كان ابن تومرت، نفسه، أعرف أهل زمانه بخط الرمل وسبق له ان اطلع في المشرق على مكان قيامه من خلال قراءة كتاب الجفر. هي أيضا بيئة رباطات وانخراط في طريق القوم، بيئة كان للمهدي فيها خلوتان للتعبد والتربية، هما رابطة الغار ورابطة وانسري اللتين صارتا بعد وفاته مزارين عند الموحدين . شخصية، بهذه الصفات والمؤهلات، تسللت إلى فضاء رواية اعتنت بتخصيص حيز لوقائع الربيع العربي، نفترض أن هناك صلة ما بين الموضوعين، بين المهدي بن تومرت الذي كان وراء بناء إمبراطورية الموحدين وتأسيس منظومة دينية رفيعة لم يكتب لها أن تستمر، والمهدي المنتظر أو المنقذ القرني الذي يمثل أمل الجماعات في الخلاص وفي التغيير نحو الأفضل وهو بلا شك من بين تطلعات جماهير الميادين. تجربة المهدي بن تومرت ترجع إلى تسعة قرون خلت، تجربة تداول الحكم في إطار الإصلاح الديني ومن منطلقات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قيم لا تزال لها راهنيتها ولربما تقوت أكثر، فقد عدنا أدراجنا منذ ثلاثة عقود تقريبا إلى مناخ سياسي تطغى عليه مطالب الإسلام السياسي وابتعدنا تدريجيا عن زمن الوصفات القومية والاشتراكية دون أن يفرط احد في مطالب الحرية والعدالة والاختيار الديمقراطي. لحظة ربيع 2011 هي قيام في وجه الاستبداد والتحكم ومن هذا المنطلق وبالنظر إلى ما قيل عن مشارب وممارسات المهدي بن تومرت فإننا نشك في قدرته على استيعاب خطابات وشعارات المرحلة الراهنة وصلاحيته لقيادة المطالبين بها. لكن من يدري؟ فقد يفعلها ثانية وقد يكون اندس حقا وسط الميادين وتجاوز بشعاراته المطالبين بالحق في حرية الضمير وفي الحرية وحتى بالفصل بين السلطات مفرجا هنا أيضا عن أسنان ناصعة تتخللها فلجات صريحة، وهي العبارة التي طالما كررها اليموري في سرده. ما يواسيني حقا في النهاية، هو أن اليموري مضى في طريقه بإصرار، فقد رجع إلى حبه الأول "بين المدينا" حيث الصحبة الرائقة والموائد المثيرة وحيث يلاحقه طيف المهدي دون أن يشغل باله كما كان يفعل حينما كان التهوس به جاثما على وجدانه وكأني به قد شفي منه بمجرد انغماسه من جديد في أندلسيا وفي مياه شطآنها. لعل خلع النعلين قد حرره ، من يدري؟. *مؤرخ