أوراق بنما، التي شبت على إثرها نيران غيض كثير من الشعوب، فيما خيم صمت على شعوب أخرى، مطبق لكنه يضمر أنينا، مهموما بوابل من التساؤلات، حول ما تحكيه تلك الأوراق – الكنز، التي جعلت مايستور مافيا الأموال المهربة، مدير المكتب الاستشاري موساك فونيسكا، يهون من وقع الصدمة على العالم الحر، ويعتبر الأمر مجرد جناية قرصنة، تهم كشف الحياة الشخصية للأشخاص، متناسيا أو متغافلا كون الأمر أبعد من ذلك بكثير، لأنه يتعلق بشيء يحكم مصير أمم، إما شافيا لدائها - إكسير همم، أوسالبا ردائها - مفجر حمم... سألني كثير من الأصدقاء عن موقع المغرب من الإعراب في الجمل الواردة في تلك الفضيحة المدوية، وشخصيا تعمدت عدم الحديث عن المغرب، ليس خوفا من أحد، أو تفاديا لنكد، ولكن قراءة أبعاد نهب ثروات الأوطان مقدمة ضرورية لفهم تضاريس الملعب، الذي نسعى إلى خوض المعركة في حضنه، حتى لا نتفاجأ بعجب، ولا نفاجئ أحد. والتزاما بأمانة الكلمة، وصدق المضمون، وجب الحديث، ووجب التحدث بموضوعية، مثلما يقتضيه أي بحث علمي أو معرفي يحترم صاحبه نفسه، ويحترم قارئ نتاج بحثه... بصراحة، وبشيء من الجرأة، غير المهذبة، من يعتقد أن أصحاب تهريب الأموال المغربية من حضن الاقتصاد الوطني إلى بنما وإلى الدول التي يدور فلك المكتب الاستشاري حولها، بغرض إيجاد ملاذ ضريبي آمن، ليس مخطئا فحسب، بل يتمتع بدرجة لا بأس بها من الغباء العلمي والواقعي والمنطقي، لأن أصحاب الأموال يعلمون علم اليقين أن المغرب، بالنسبة لأبسط محاسب أو مقاول، جنة للباحثين عن ذلك، ممن يتقن ألاعيب الحسابات وغيرها، لكون المنظومة الضريبية ببلادنا ليست محكمة الترابط والمراقبة. فضلا عن أن النظام الضريبي، سواء بالنسبة للضريبة المباشرة أو غير المباشرة، في غالبية أصنافها، يعتمد على التصريح، وبالتالي من حق الملزم بالضريبة (le contribuable) أن يصرح بما يشاء، وأن يخفي ما يشاء، وربما تأتي المراجعة الضريبية، وقد لا تأتي، لكن لا يمكن أن نلوم النظام الضريبي بحد ذاته، فالأمر سيان في غالب الأوطان، لكن الفرق أننا هنا، يتعلق الأمر بأزمة سلوك وثقافة وروح المواطنة، لدى عامة أفراد المجتمع بالدرجة الأولى. ولا بد لنا أن نفرق بين شيئين منفصلين: نهب الثروة الوطنية، وصناعة الثروة خارج المدار الرقابي للدولة، في قالب استثمار أجنبي، مباشر أو غير مباشر. فالأموال المتحصل عليها من الثروة الطبيعية، المهربة بشكل مباشر، أو التي تنحرف مسالك عوائدها قبل ولوجها إلى حضن الوطن، لتتخذ طريقها نحو الحسابات الشخصية، هي رأس الإجرام في حق الشعوب، لكون هذا الفعل محض نهب لثروة شعب. ولعلي في هذا الشق أعني بها تلك الثروات التي تجنى بفضل عائدات ما يزخر به باطن أرض الوطن، لكونها ثروات تقاس بتريليونات الدولارات؛ فهل يمكن أن نقنع أنفسنا بأن لدينا من مثل هذه الثروات التي تنهب عوائدها في غفلة من الشعب المغربي؟. وهل يعقل أن نقارن وضعنا بما يجري عند بعض المشارقة، ممن يتنافسون على الملذات، وعلى جلب انبهار الناس، عن طريق استعراض أحدث الطائرات والسيارات المذهبة وغيرها، أو كما هو الشأن بالنسبة للجار الشرقي، الذي نهب جنرالاته مليارات الدولارات، وتركوا الشعب يئن تحت وطأة الأفق المسدود...؟. إنني، حين أرى بأم عيني مساعي حثيثة من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية ببلادنا، خاصة لفائدة الفئات المهمشة، على افتراض أن ثمة فسادا يتخللها، أو حتى غياب نجاعة، أو حتى غياب جدوى بعضها، أكاد أجزم أنه لو تمتع المغرب بربع ما تحققه آبار النفط الجزائرية، أو عشر ما تحققه أي إمارة خليجية من عوائد نفط وغاز، تحت قيادة الملك محمد السادس، لاستطاع تغيير اسم مجموعة البريكس، إلى مجموعة البريكسم... وقد يقول قائل: أين تذهب أموال الفوسفاط؟، وأجيبه بأنها غارقة في تدبير توازن العملة الصعبة الوطنية، بالنظر إلى ما يعانيه ميزان أداءات بلادنا من وطأة المديونية الخارجية وخدمة الدين؛ ويجري كل ذلك في إطار مؤسساتي، ورغم بعض الثقوب، الواضحة وغير الواضحة، فهي قطعا لا ترقى إلى الأرقام الفلكية التي نحن بصدد استقراء مسالكها عبر أوراق بنما، حتى لو استحضرنا العامل النسبي (facteur proportionnel). لكن، يبقى السؤال قائما، ما الذي يدفع هؤلاء إذن إلى الارتماء في أحضان موساك فونسيكا، والجواب يحتمل أحد المبررات التالية، بعضها أو كلها مجتمعة، والاجتهاد ماض في طريقه بكل الأحوال: على المستوى الأعلى، يميل بي الاعتقاد إلى أن ثمة مؤسسات، عبارة عن أذرع مالية أخطبوطية، تملك القدرة على تدبير مليارات الدراهم (أو ملايين الدولارات)، وبلغت التخمة في الاستحواذ (الاستثمار) على قطاعات اقتصادية تقليدية كثيرة، فباتت تبحث لها عن أفق بعيد، وربما فتحت الأسواق المالية العالمية شهيتها، بغاية استشراف هذا الأفق الاستثماري الجديد، وهي لا تدري من جهة أن أي من تلك الملاذات الاستثمارية لن تخدم الوضع الاقتصادي الوطني، ومن جهة أخرى فإن تلك الأسواق وتلك المعاملات عبارة عن عرين ديناصورات القرن الواحد والعشرين، الداخل إليه مفقود، والخارج منه مولود. ولعل كل متتبع لأهم أزمات العالم: الخميس الأسود 1929، أزمة آسيا يوليو 1997 (المضاربات العقارية في تايلاند وأثرها على احتياطي العملة الأجنبية بالبلد، وما تلا ذلك...) إلى الأزمة المالية العالمية في شتنبر 2008 (الرهن العقاري في أمريكا وانهيار مؤسسات بنكية كبرى...) وما استتبعها من تداعيات، أغرقت البلدان ذات الاقتصاد الهش في وحل الاستدانة الخارجية، يدرك مغزى كلامي ببساطة، خاصة بالنسبة إلى صغار المستثمرين، صغار الدول، مقارنة مع عمالقة المجال، الذين اختص بعضهم في قتل اقتصاديات الدول الضعيفة، التي تجرأت الدخول إلى عالمهم البراق. وفي هذا الموضوع، يجدر بنا التذكير بأن إحدى المؤسسات العملاقة ببلادنا سبق أن تعرضت لاستدراج استثماري كبدها خسارة بملايير الدولارات في إحدى البورصات الأجنبية، لكن لا أحد استطاع فتح تحقيق في الموضوع، بل حظي المسؤول على العملية بالتزكية ومضى إلى غايته... على المستوى المتوسط: ثمة موضة جديدة في عالم الاستثمارات الأجنبية، غير المباشرة بالخصوص، تهم البحث عن الفرص المالية النادرة وغير المرئية، وهذه المقاربة، للأسف، من ينهجها، محض انتهازي في قراءة مفاهيم الاستثمار، لا يهمه الأهداف السامية لتشجيع الاستثمار الأجنبي داخل البلد المضيف إلا لماما، وليس كما علمنا القائد الصيني والإستراتيجي الحكيم دينغشياوبينغ، صاحب فكرة المناطق الاقتصادية الخاصة، التي جلب إليها العقول الصناعية والمبدعة المستثمرة، من أوروبا وأمريكا... لكن الطريف، حين منحت الصين لفائدة المستثمرين (بصفة عامة) أراض شاسعة، بأثمنة رمزية للغاية، وبسطت المساطر في وجههم، وأعفتهم من الضرائب، لإنشاء وتنمية وتطوير وحدات صناعية وفلاحية، ذات الإنتاج الموجه نحو التصدير، بذلت سلطات مغربنا العجيب جهودا مضنية في هذا السياق، وسلمت أراض شاسعة، تعود ملكيتها في الأصل لفلاحين بسطاء، نهبت في عهد الاستعمار، على طبق من ذهب لأشباه المستثمرين من بني وطننا، منهم الكثير من سماسرة السياسية، بل منهم من يعطينا دروسا في علم الاقتصاد والقانون، وحتى الديمقراطية، فجعلوا من حصولهم على تلك البقع الأرضية الشاسعة، وذلك الدعم السخي من الدولة، استثمارا لوحدهم لا شريك لهم، وبات الكثير منهم يضاربون به، حتى جمعوا ثروة وثروات بشكل احتيالي لا غبار عليه. وفتح هذا الاكتشاف المبهر والكنز الثمين شهية بعض الانتهازيين في مراكز النفوذ والسلطة والتسلط، لتمرير صفقات عقارية، غالبا عبر وسائط، بمئات، بل آلاف الهكتارات، وفي مختلف المناطق؛ بل وتجرؤوا على تحفيظها بطرق ملتوية، في مقابل ملايين الدراهم، مما سمح لهم ببناء ثروات مهمة.. هؤلاء منهم من صنع لنفسه ثراء فاحشا لازال يكدسه في الحسابات البنكية، ومنها حسابات خارج الوطن، ومنهم من اجتهد وسعى إلى الارتماء في أحضان موساك فونيسكا.. وكان وراء ذلك دافعان أساسيان، إخفاء ثرواتهم، وتحقيق عائدات سرية، تقيهم ''دواير الزمان"... على المستوى البسيط، ثمة بعض المسؤولين، من مستويات مختلفة، جنوا أموالا، بصرف النظر عن طريقتها، لكنهم يؤمنون بآفاق الاستثمار الدولي، ولهم دراية بمنعرجاته، وغالبيتهم من أصحاب الشواهد من كبريات المدارس الفرنسية والأمريكية، لهم شبكات علاقات تمكنهم من اصطياد الفرص، ويسعون إلى المغامرة في هذا الصنف الاستثماري، لكن الضجة التي أثيرت في إطار القضية، بسبب وجود أسمائهم ضمن عملاء المكتب الاستشاري موساك فونيسكا، لا يقاس بحجم ولا طبيعة النهب الذي نعنيه، إلا لناحية وحيدة أساسية، لها أهميتها بطبيعة الحال، كون هؤلاء المسؤولين لهم ارتباطات بجهات نافذة، يفعلون ما يؤمرون، وتملكتهم جرأة تكريس التحكم والتسلط، لأنهم لا يخافون في ذلك لومة لائم، ما دامت لديهم نوافذ ترمي بهم إلى نعمة محصنة، تقيهم شر الوطن، الذي عبثوا فيه بأوامر من أسيادهم... خلاصة الاجتهاد أن إثارة اسم الملك في الأوراق سياقه ضمن البروبغاندا الإعلامية أكثر بكثير من المنافع التي يحتمل أن يكون قد جناها، فملاذ ملك في حضن شعبه، الذي يكن له الحب والاحترام، لا يحتاج بديلا لدى فونيسكا ولا موساك، بل لعل الخطوة، التي من المحتمل أن يكون أقدم عليها كاتبه الخاص، لم تكن ذات جدوى ولا بعد نظر، وعلينا أن نحتمل لدغات الديمقراطية، التي قد تقض مضجع البعض فينا، إلا أنها ضرورية في سياق الاعتراف بمتطلبات المواطنين، وتحديات المرحلة... ما يعانيه المغرب من سقم بالفعل ليس بالدرجة العصية على الشفاء، قياسا مع ما تعانيه الشعوب العربية في مناطق أخرى، التي تملك ثروة طبيعية هائلة، ولم يستفد منها ولو بنسبة العشر، وهذا بطبيعة الحال، في حدود علمي الشخصي، الذي لا ألزم به أحدا، إلا أننا، علينا أن نعترف بأن ثمة ثلاث سياسات عمومية بسيطة يمكن أن تعفي خمسين بالمائة من المواطنين، من ذوي النيات الصادقة، ذل السؤال: ارفعوا يد مجلس الوصاية على الأراضي السلالية، وامنحوا للفلاحين في البوادي والأرياف ونواحي الحواضر حق تلمك واستغلال أراضيهم الجماعية، التي منعتموهم منها، وتركتم من يعبث بها، وبالتالي صنعتم الفقر بأيديكم... ارفعوا سياط البناء العشوائي في وجه المواطنين البسطاء، الذين يسعون إلى إيواء فلذات أكبادهم، واتقاء شر المعاناة مع السكن، وساعدوهم على تشييد مساكنهم بأبسط الشروط القانونية، واجعلوا السلطات العمومية داعما للسكن اللائق بدل حارم منها، فإن الكثير من هؤلاء استطاعوا بناء ثروة، فيما تحترق أفئدة الناس على حقوقهم وممتلكاتهم.. ارفعوا قانون الترخيص بكل أنواعه، لفائدة أشخاص بعينهم في استغلال الثروة البحرية، فقد صنعتم ديناصورات، لم يعد الوطن قادر على كبح جماحهم، حتى إن أحدهم تبجح أمامي يوما بأنه هو من بنى ميناء طانطان، هل هؤلاء مستثمرون أم سماسرة الأوطان؟، أليس من العيب والعار أن يتحمل البحار والصياد الساحلي مخاطر ركوب البحر والرياح والأعاصير والبرد والمرض والجوع، ليل نهار، وبعيدا عن أهله، وفي نهاية حياته، تجده بلا تغطية صحية ولا منزل يأوي عياله، بل فقر مدقع، ووجه شاحب؟.. امنحوا قطاع الصيد البحري وزارة خاصة به، لأن المغرب لديه 3500 كلم، بدل ارتهان القطاع إلى وزير ليس لديه الوقت حتى للاستماع لنصائح الناصحين، أو لعذابات المظلومين، وأنشئوا وحدات مقاولاتية تضامنية، يديرها خريجو معاهد التدبير المغربية، وتشتغل بها السواعد المغربية، في جو ديمقراطي جدي وشفاف ومسؤول، دون استعباد أو تخويف، إن كنتم بالفعل تسعون إلى حماية هذا الوطن من ويل المحن، التي اشتدت بكثير من الأوطان من حولنا، فالكرامة والعدالة الاجتماعية أسمى ما يمكن أن يشتغل عليه الجميع، ويمكن تحقيقهما على أرض الواقع، لو صدقت نوايانا، وأحسنا العمل... *رئيس المركز المغربي لحقوق الإنسان – باحث في الاقتصاد والقانون الدوليين