قبل أي استحقاق انتخابي، تعيد العديد من الأسئلة طرح نفسها على المتباريين الحزبيين من جهة، وعلى السلطة التنظيمية من جهة أخرى. ومن بين هذه الأسئلة التي تكاد لا تستقر على ميزان في بلدنا قضية نسبة العتبة التي يجب أن يقف عندها مؤشر توزيع المقاعد الانتخابية بين الأحزاب، بما سيمكن من جهة من تشكيل مجالس منتخبة قوية ومنسجمة، بعيدا عن البلقنة السلبية، ومن جهة أخرى من تمكين الناخبين من التمثيل الواسع لهم، دون إقصاء الأحزاب الصغيرة بحجة قلة الأصوات التي تحصلت عليها. وإذ نحن على مشارف انتخابات 7 أكتوبر، يتفاعل من جديد هذا النقاش القديم الجديد داخل الحقل السياسي، حيث تروج أخبار غير مؤكدة عن كون وزارة الداخلية حسمت قرارها بتخفيض نسبة العتبة من 6 إلى 3 في المائة. وقد جاءت هذه التطورات بناء على طلب الاتحاد الاشتراكي الذي أدخل نفسه عمليا في خانة الأحزاب الميكروسكوبية، التي تتمنى النجاة من الموت الانتخابي المحقق من خلال الاقتيات على فتات الأصوات الانتخابية المتبقية للأحزاب الكبيرة. على أن هذا التخفيض تلفه شبهات عديدة حول أهدافه الحقيقية، خاصة في سياق الحرب الطاحنة التي يقودها الحزب السري ضد العدالة والتنمية، تحت شعار "إنقاد كل ما يمكن إنقاده". فالحرب استعرت ويتم استعمال كل الوسائل المتاحة فيها، الكبيرة والصغيرة. الكبيرة كصندوق ال55 مليار درهم، الذي يجب أن نحذر كل الحذر ألا ينتهي أصواتا في صندوق الحزب القروي المعلوم، والصغيرة التي هدفها الإنهاك اليومي والاستنزاف النفسي مثل نسبة العتبة، والتي لن تؤثر كبير آثر على قدرة العدالة والتنمية على ربح المقاعد، ولن يتجاوز تأثيرها خسارة عشرة مقاعد على أسوء تقدير. فالدراسات المتعلقة بمسألة العتبة تخلص إلى أمرين. الأول وهو أن تخفيض العتبة لا يخدم بالضرورة الأحزاب الصغيرة، بل المتوسطة التي تقترب مباشرة من العتبة دون أن تصل إليها، حيث يتم توزيع المقاعد بشكل أولوي حسب عدد الأصوات المتحصل عليها. أما الصغيرة، فهي بطبيعة الحال، تكون بعيدة من العتبة، وفي غالب الأحيان تكون البقية لدى الحزب الأول أكبر من عدد أصوات التي حصل عليها العديد من الأحزاب الصغيرة ابتداء. أما الأمر الثاني فهو كون تخفيض نسبة العتبة يكون أثره الأول هو خلق مؤسسات سياسية غير مستقرة بسبب تعدد الأحزاب وكثرة المتحالفين، ما يفتح الباب واسعا أمام عدم الانسجام والاستقرار والفاعلية، إذ كيف يمكن لحكومة مؤلفة من ستة أو ثمانية أحزاب أو أكثر أن تتداول وتتفق بالسرعة المطلوبة في التدبير الحكومي والتشريع القانوني ؟ على أن هذه الفرضية الأخيرة تكون صحيحة في حال تواجد أحزاب متقاربة في الأصوات والامتداد الشعبي. أما إذا كان هناك حزب قوي يبتعد كثيرا في عدد المقاعد المحصل عليها، فإن آثار تخفيض نسبة العتبة الانتخابية يكون محدودا، حيث يبقى هذا الحزب قائدا غير متنازع حوله، ويتمكن من تشكيل أغلبية مستقرة حوله. وفي هذا الإطار، يجب التذكير على أن مبدأ العتبة هو مبدأ ديمقراطي، لا يخلو منه نظام انتخابي نسبي. حيث حكمت المحكمة الدستورية في بلجيكا سبع مرات بكون مبدأ العتبة لا يشكل تحديدا متعسفا لحق الناخبين في اختيارهم الديمقراطي لمن يمثلهم. كما اعتبرت المحكمة الدستورية في ألمانيا أن حصر العتبة في 5 في المائة في إطار الانتخابات التشريعية والجهوية الألمانية لا يتناقض ومبادئ الدستور، على اعتبار ضرورة توفير حد أدنى من الاستقرار السياسي داخل المجالس المنتخبة. إن ما سبق، إضافة إلى سياق الحرب الطاحنة ضد العدالة والتنمية، يجعلنا نؤكد أن تخفيض نسبة العتبة هو يسير في الاتجاه المعاكس للبناء الديمقراطي وعودة إلى الوراء ضد المكتسبات التي جاءت في سياق الانتقال الديمقراطي لدستور 2011. وهي بالتأكيد مناورة من مناورات حزب التحكم السري، وخدمة لمشروع التحكم المكشوف الذي يحمل لواءه اليوم حزب الأصالة والمعاصرة، هدفها إضعاف ما يمكن إضعافه من قوة حزب العدالة والتنمية، وتجريده من ما يمكن تجريده من المقاعد، ما سينضاف إلى كل الوسائل الأخرى، كتوجيه الأصوات وشرائها في العالم القروي، على أمل أن تكون المحصلة من جميع كل هذه الوسائل تحجيم عدد مقاعد حزب العدالة والتنمية، وتقريب الهوة بينه وبين حزب الأصالة والمعاصرة أساسا، وباقي الأحزاب التي بدور في فلكه عامة. كل هذا يذكرنا بمخططات وزارة الداخلية، والتي اتضح حرصها الشديد على عدم إظهار حزب العدالة والتنمية كحزب قوي من الدرجة الأولى في الحقل السياسي المغربي، ما سيعطيه مكانة اعتبارية استثنائية وشبه بطاقة بيضاء للقيام بالإصلاحات الضرورية خارج أجندة التحكم. فهي تريده حزبا كباقي الأحزاب، ورقما كباقي الأرقام، ما سيقوي دورها التحكيمي، إن لم نقل التحكمي، كما كان الحال دائما في سابق الأحوال. وقد ظهر ذلك جليا بإعلانها حزب الأصالة والمعاصرة فائزا أولا بالانتخابات الجماعية الأخيرة، بدون ذكر أي مؤشرات أخرى تجعل حزب العدالة والتنمية الحزب الأول بدون منازع، من قبيل فوزه بأكبر عدد من الأصوات أو ترأسه لما يزيد عن 50 بالمائة من المدن التي يتجاوز سكانها المائة ألف، وتدبيره لأكثر من ثلثي ميزانيات الجماعات الترابية. وعليه، لا يمكن إلا نسجل ريبتنا ومعارضتنا للمساس بمكتسب ال6 في المائة كعتبة انتخابية، ورفضنا لأي محاولات لعودة التحكم الحزبي الممنهج من النافذة، بعد أن أخرجه الحراك الديمقراطي المغربي من باب دستور 2011. فالأحزاب ذات المقاعد المحدودة هي طعم سهل على الحزب السري، الذي سيستعمل كل الوسائل للضغط في اتجاه أصواتها. وسنكون بالتأكيد أمام نسق سياسي سري، لا نفهم منطق اشتغاله، ولا يمكن معه استقرار أي برنامج سياسي أو تحالف حكومي. وهو ما لن يخدم بالتأكيد الانتقال الديمقراطي المنشود، وسيخدم بالضرورة مشاريع النكوص والالتفاف على مكتسبات البناء الديمقراطي وقيم الوضوح والشفافية التي يجب أن تحكم عمل مؤسساتنا السياسية. *أستاذ جامعي، دكتوراه في علوم التدبير والتسويق