يجدر التنويه بداية، إلى أن موضوع البحث في الجذور التاريخية للوضع اللغوي بالمغرب، وما يتصل به من الأسئلة التي تسعى إلى تفسير مسيرة "التعريب" الذي لحق البلد، هو موضوع شديد التركيب بالغ الالتباس، يصعب بيان مستغلقاته في مقال أو عمل بحثي مونوغرافي واحد. لذلك نوجه عناية القارئ إلى أن ما سيأتي أسفله مجرد ومضات للاستضاءة، وإشارات سريعة هدفها استدراج الباحثين إلى هذا الموضوع الشديد الأهمية والحساسية. كما نلفت العناية أيضا إلى أننا نعني بالتعريب في مفتتح هذا المقال ما شاع من الفهم المشترك لدى الباحثين وغيرهم، أي اقتحام العربية لمجالات الاستعمال الشفوي بالمجال المغاربي عوض الأمازيغية. وإن كنا لا نتفق على استعمال هذا اللفظ-الدال (أي التعريب) للدلالة على المدلول، ولا نرى بصحة العلامة اللغوية، لأن المرجع يستوجب في تقديرنا دوالا أخرى أكثر اتساعا ودقة. تنويه ثان مشدود إلى سابقه، هو انطلاقنا من فرضية رئيسة تحكم سير الحجاج، هي وقوع الممتلكات الرمزية (واللغة إحداها) بالمجال المغاربي صيدا لفاعلية سوسيولوجية نقترح تسميتها بجدلية التعرب والتعريب والاستعراب. وهو ما سنبسطه تباعا ببعض التفصيل. يتفق مجمل الدارسين على أن "تعريب" المغرب قد تم على مراحل، إذ انطلق مع أولى حملات "الفتح الإسلامي"، لكنه كان بطيئا لم يمس غير مجالات ضيقة، قبل أن تشتد وتيرته خلال العصر الوسيط في سياق عمليات توطين واستيطان ونزوحات جماعية كبرى، بإيعاز أو بأمر أو بمباركة السلطة المركزية. وبين الفترتين الفارقتين، وبعدهما طبعا، كانت مسيرة "التعريب" تشتد حينا وتخبو حينا آخر بسبب حركية التاريخ، وطروء أحداث تاريخية كبرى تنتج عنها حركية سوسيومجالية غير اعتيادية (نزوح المورسكيين من الأندلس، أوبئة، زلازل، حروب، مجاعات...). كانت تساهم بدورها في تشكيل وإعادة تشكيل الوضع السوسيولغوي على قواعد معطيات جديدة. هذا التوصيف الجاري في مضمار الدراسات التاريخية، بصرف النظر عن مدى صحته ورصانته العلمية، يبدو اختزاليا وتبسيطيا إلى حد بعيد. أولا بسبب وقوفه في حدود ما يتيحه التأويل السببي التاريخي، الذي يولي عناية كبرى للحادثة، ولا يلتفت إلى المتغيرات السوسيولوجية المركبة. وثانيا لأنه لا يخرج من دائرة الكفاية الملاحظية والوصفية، ولا يتجرأ على تفسير مسيرة "التعريب" الذي تعرض له المغرب وغيره من البلدان المغاربية. إن الوضع اللغوي المغربي، على مستوى لغات الاستعمال الشفوي، قد عرف، منذ أقدم العصور، تلاقحا طبيعيا بين مجمل اللغات التي لهجت بها ساكنة المجال المتوسطي وما جاوره، قبل أن يأخذ لبوس الهيمنة، لصالح اللغة العربية وتنويعاتها اللهجية، منذ دخول الإسلام إلى المنطقة. غير أن لفظ "التعريب" الذي صار جاريا على الألسن، لا يبدو دقيقا في نقل مسيرة التحول من الأمازيغية إلى العربية، ولا يبدو قادرا على التأشير على دياكرونية الإبدالات البطيئة التي مست البنيات الداخلية للغات المتنافسة، وما سواها من مجالات الاستعمال والتداول. (نعني من الزاوية اللسانية البحتة، ومن الزاوية السوسيولسانية). ولعل الأقرب إلى الصواب أن نتحدث عن أشكال ثلاثة من التأثير (تعريب، تعرب، استعراب)، مع ما يجري بينهما من صنوف التداخل والتمازج. مع لزوم التمييز بين فترتين فارقتين: تبدأ الأولى من دخول الإسلام إلى حين خروج المستعمر الأوروبي، وتمتد الثانية من الاستقلال إلى اليوم. يدفعنا إلى الفصل بينهما تسارع وتيرة "التعريب" منذ حصول المغرب على الاستقلال. فماذا نعني، أولا، بأشكال التأثير الثلاثة ؟ التعريب: نعني به، من منطلق بنائه على تضعيف الجذر، ما قامت به المؤسسات والأفراد، من عمليات تدخل واستبدال، قسرا وطوعا، بوعي وإصرار مؤسسي أو بدونه، لصالح توسيع الفضاء الجغرافي الذي يستعمل العربية على حساب الأمازيغية، أو فرضها في مجالات الاستعمال الشفوي، أي فرض العربية على الأهالي، من خلال الدعوة إلى استعمالها، أو تثمينها كممتلك رمزي، بإشاعة كل تمثل ديني ينظر إلى العربية نظرة تقديس. التعرب: ونقصد به، من منطلق بنائه على زيادة تفيد المطاوعة، استلاب الذات ومبادرتها إلى تعلم العربية واستعمالها بغير قسر سوسيولساني مباشر. الاستعراب: ونعني به مستوى أعلى من مستويات التعرب، إذ لا يقف في حدود الاستلاب اللغوي، ولكنه يتجاوزه إلى ادعاء الانتساب إلى الأصل العربي (عرقا أو ثقافة). من منطلق هذا التمييز الإجرائي يمكن أن نخوض في مسيرة تشكل الوضع اللغوي بالمغرب على هذا النحو: من "الفتح الإسلامي" إلى "استقلال المغرب": أشكال التأثير الثلاثة وما بينها من مدارج. تؤكد الدراسات التاريخية أن دخول العربية إلى المنطقة قد بدأ مع أولى "الفتوحات" التي قادها الأمويون إلى بلاد إفريقية. واعتبارا للطابع الحربي الذي وسم هذا التدخل، يمكن أن نتحدث هنا عن عملية تعريب عرفتها المنطقة المذكورة، لكنه تعريب بطيء الأثر والوتيرة، أولا لقلة العرب الذين آثروا الاستقرار بالبلاد، وثانيا لقيام ثورات وعمليات ارتداد كثيرة عن الدين الجديد، بسبب ما لحق السكان المغاربيين من أشكال الظلم والاستغلال (ذكر ابن زيدان في "إتحاف الأعلام" أن البرابر قد ارتدوا عن الإسلام اثنتي عشرة مرة). مسار التعريب سيعاود الانطلاق من جديد، مع تشكل أولى الإمارات والدول الإسلامية بالمغرب الأقصى (النكور، الأدارسة...)، لاعتبارات قيامها باتخاذ العربية وسيلة لنشر الإسلام، وسيظل إيقاع التعريب بطيئا إلى حدود عصر الدولة المرابطية، ثم سيأخذ منحى حادا زمان بسط الموحدين سيطرتهم على البلاد، وتحديدا خلال فترة حكم الأمير عبد المومن بن علي الكومي، ثم مع ابنه وحفيده، الذين قاموا باستجلاب قبائل عربية اللسان (من بطون بني هلال وبني سليم، وقد اندمج في نسيجها الإثني والإثنوثقافي أمازيغ مستعربون ومعرَّبون ومتعربون)، وتوطينها بمجال المغرب الأقصى، وذلك في سياق استراتيجيات جيوسياسية غايتها توطيد أركان الحكم. وهؤلاء سيضطلعون بدور كبير في تغيير الخارطة اللسانية بالمغرب الأقصى، إذ سيؤدي استيطانهم في عدد من المجالات الحيوية المرتفعة الكثافة السكانية (دكالة، بلاد الهبط، تامسنا...)، إلى تعرب هذه المجالات وما والاها من المجالات السهلة التي كانت تجمعها بها صلات اقتصادية أو دينية...، في عملية تمدد يشبه أثرها كثيرا أثر بقعة الزيت. ولعل ما يؤكد هذا الطرح ويزكيه تمنع معظم البقاع والأصقاع الجبلية المغربية ومحافظتها على لغتها الأمازيغية لقرون طويلة، حتى أن كثيرا منها ما يزال محافظا عليها إلى حدود اليوم. خلال العصر الوسيطي دائما، سيساهم المرينيون بدورهم في تشكيل الوضع اللغوي المغربي، حيث ستستقر، في عهدهم، قبائل بني معقل (ذات الأصول اليمنية) في أقصى الجنوب المغربي، فضلا عن قبائل بني هلال النجدية في مجال سهول الغرب وما جاورها من البقاع. علاوة عن جماعات كبيرة من المورسكيين الفارين من الأندلس، الذين حطوا الرحال بمجال الشمال الغربي من المغرب لقربه من الجنوب الإيبيري، وببعض المدن المغربية التي كانت قائمة آنذاك (فاس، تطوان، الشاون، الرباط...). ولعل التوصيف الذي يليق بماجريات الاستعمال اللغوي خلال هذا العصر أيضا، قريب من التوصيف السالف الذكر، أي ما ينبغي التمييز بموجبه بين التعريب الذي تم بمباركة الدولة والسلطة في سياق سعيهما إلى غايات سوسيوسياسية استراتيجية. والتعرب الذي استلب بموجبه كثير من الأمازيغ الذين احتكوا بمجال استعمال اللسان العربي. أما بعد سقوط الدولة المرينية وقيام الدولة السعدية، فقد عادت وتيرة التعريب والتعرب إلى سابق إيقاعها، بيد أن دواعي التعريب قد انحسرت، في تقديرنا، منذ هذه اللحظة في متغيرين رئيسين: أولهما الدافع الديني الذي جعل كثيرا من الأمازيغ يتخلون طواعية عن لغتهم؛ بسبب اشتغال آلة التأويل والفتوى التي تخلط بين العربية الفصحى ودوارجها من جهة، وتقضي باعتبار تعلم العربية فرض عين واجب على كل مسلم. وثانيهما اشتداد حركة الاستعراب منذ بداية الحكم السعدي، وتصاعد نجم "الشرفاء"، الذين وصل بعضهم إلى سدة الحكم، وتمكن كثير منهم من تدبير شؤون مجالات مغربية كبرى عبر نسيج من الزوايا. والاستعراب في هذه الحالة مبرر بالعوائد المادية والمعنوية الدنيوية المتحصلة عنه، على خلاف التعرب الخالص الذي تدفع إليه الغايات الدينية. استقلال المغرب: تاريخ مفصلي في مسيرة التعريب. يصح القول، لاعتبارات مختلفة سنأتي على ذكرها، أن مسيرة التعريب قد تسارعت بوتيرة شديدة منذ خروج المستعمر الأوروبي، إلى درجة تدفعنا إلى الاصطفاف في صف من يقول إن أثر التعريب منذ الاستقلال إلى اليوم أكبر من أثره منذ دخول العربية الأول إلى حدود التاريخ المفصلي المذكور. مثلما تدفعنا إلى القول، أيضا، إن التعريب موضوع الحديث قد استوجب تعربا شديد السرعة، وقوي الأثر، تبدى واضحا من خلال حصول تزايد متسارع في عدد الأمازيغ الذين تخلوا عن لغتهم لصالح استعمال الدوارج المغربية، وإن ظل المجال (الترابي) محافظا بشكل نسبي على نفس الخريطة السوسيولسانية. لقد سعت الدولة المغربية، عبر خيارات سياسية مؤسسية، إلى تعريب المغاربة عبر مداخل متعددة (التعليم، الإعلام، القضاء...)، وإقصاء الأمازيغية وتهميشها وإبقائها حبيسة السجلات الشفوية. بل وسارت التنظيمات المدنية التي تأسست قبيل الاستقلال وبعده إلى تكريس التصور الدَّولتي نفسه، لاسيما التنظيمات التي ارتهن مشروعها السياسي بالقومية العربية والاستلاب بالمشرق، وقد استوت في ذلك التيارات اليسارية والإسلامية. أما العوامل السوسيولسانية التي ساهمت في تسريع وتيرة التعريب والتعرب، فيمكن إجمالها على هذا النحو: - تهميش الدولة للعالم القروي، وهو ما رفع من معدلات الهجرة صوب المدن، إذ عرفت هذه الأخيرة وفود تجمعات بشرية كبرى (مختلطة اللسان)، كان عليها أن تتخذ لهجة سيارة Langue véhiculaire تفرضها الحاجة إلى التواصل. فلم يكن من بد أمام الأمازيغ الوافدين سوى اتخاذ الدارجة لغة ثانية للتواصل اليومي، قبل أن يذوب أبناؤهم وحفدتهم من الجيل الثاني والثالث في لغة المدينة. وذلك بتأثير من صورة اللغات في أذهان المستعملين L'image des langues، والتي وضعت العربية (الدارجة) في مرتبة أعلى من الأمازيغية. ولعله من النافل القول هنا إن هذه الصورة نتاج تدبير لغوي ممأسس. - تهميش الدولة للأمازيغية (لغة وثقافة)، في شتى مجالات التدخل والتدبير، بدءا بالمدرسة، مرورا بالإعلام وغيرهما من المؤسسات: سلطة، قضاء... - غياب الوعي الوطني والحس الديموقراطي لدى كثير من مثقفي البلد وأكاديمييه، ووقوفهم في صف استعداء المطالبين بالحقوق الثقافية الأمازيغية. التعرب والتعريب: ضرورة استدعاء الزمن المتوسط (الاجتماعي): قد يشيع الفهم مما سبق ذكره أننا نعني بثنائية: التعرب، التعريب، دلالة حدثية (وهي الدلالة الشائعة في هذا الخصوص من قبل مجمل الباحثين في التاريخ)، أي ذلك المعنى الذي يفهم منه حصول التحول من لغة إلى لغة أخرى في ظرف وجيز، كما قد يحصل مع حادثة تاريخية موضوعية على غرار استبدال ممثل سلطة أو عُملة أو بيعة أو ما شابه. ولعل سبب شيوع هذا الفهم هو ميل الذهن إلى اقتصاد الجهد في مسعاه إلى استيعاب التحول السوسيولساني، ثم تعميمه اختزالا. ونعني الاعتقاد أن سبب التعريب-التعرب راجع إلى نزوح تجمع سكاني عربي اللسان واستيطانه في مجال جغرافي جديد غير مأهول، أو استيطان هذا التجمع في مجال ما بعد طرد ساكنته، أو نزوح تجمع أمازيغي اللسان إلى مركز حضري دارجي اللغة، ومثل هذا السيناريو التاريخي يحصل طبعا، بيد أنه لا يشكل القاعدة، ولا يفسر غير جانب من المسألة، لذلك نصطلح عليه، اجتهادا، تعريبا مرهونا بحركات سوسيومجالية. وهو لا يشكل، في تقديرنا، العامل الرئيس في عملية تعريب المجالات. إن العامل الرئيس في تعرب المجالات، هو استلاب الأنا الثقافية، وهو نتاج عرضي طبيعي لتأويل وتمثل ديني ممأسس يعطي العربية (فصحى وعامية) مكانة أسمى دون غيرها من اللغات، ويدعو الناس إلى تعلمها وتعليمها لأبنائهم. بيد أن تفكير الباحثين ينبغي أن ينصرف إلى بيان آليات النفاذ والتغلغل اللسانية التي اقتحمت بها العربية المجالات الأمازيغية التي وضعت معها في خطوط التماس، ومثل هذا الموضوع غير مطروق في حدود علمنا، من قبل الباحثين المغاربة والأجانب. ينبغي التنويه قبل أن ندلو برأينا في مثل هذا الموضوع، إلى أمر على قدر كبير من الأهمية، سكتنا عنه لغايات منهجية في مستهل هذه الورقة، ونعرضه هنا للغايات ذاتها، وهو انطباع الدوارج المغربية في سياق احتكاكها بأمازيغية المغرب ببنيات هذه اللغة، وتأثرها الشديد بنظامها النحوي، وبخاصة على المستويين الصوتي والتركيبي. إلى حد يدفعنا إلى القول إن الدوارج المغربية عبارة عن سجلات معجمية عربية موضوعة في سكك قوالب تركيبية وصوتية وصواتية أمازيغية، وهو ما عبر عنه الأستاذ محمد شفيق بقوله إن الدارجة المغربية مجال توارد بين الأمازيغية والفصحى. وإلى جانبه الأستاذ محمد المدلاوي الذي يرى أن الدوارج قد تشكلت تاريخيا كلغات على أساس أرضية لغوية أمازيغية (Substrat linguistique berbère) انطلاقا من وجه وافد (Adstrat) من أوجه اللسان العربي (اللسان المُضري تحديدا). من هذا المنطلق، يغدو حديثنا عن التعرب أو التعريب في واقع الأمر حديثا عن "التدريج" أو "التدرج" (نشتقه من لفظ الدارجة)، وعليه يصح الحديث في مقام التعريب الذي نخوض فيه هنا عن حصول تلاقح لغوي بين اللغات التي تقع مجالاتها الحاضنة في خطوط التماس المباشر، بحيث تتمدد رقعة استعمال المعجم العربي متجهة من مجال استعمال الدارجة إلى مجال استعمال الأمازيغية، مثلما تتمدد رقعة استعمال البنيات التركيبية الأمازيغية متخذا طريقا عكسيا (في ما يشبه مقايضة بنية لسانية بأخرى مغايرة). ولأن الذي يعنينا هنا هو المنحى الأول، فإننا سنسوق ملاحظات لسانية نريد من خلالها أن نساهم في إعادة تركيب مسيرة التعريب/التعرب، مستفيدين من مقولة الزمن الاجتماعي (المتوسط) الذي أسس له فرناند بروديل، لأنه الأقدر على تلمس طريق الإبدالات البطيء الذي تسير فيه المجالات الأمازيغية الواقعة في خطوط التماس مع المجالات العربية. إن البحث، في تقديرنا، يجب ان ينصب على المجالات التي ينحسر فيها تداول الأمازيغية بشكل تدريجي، ولا يزال، (نعني هنا المجال القروي فقط. ونستبعد المجال الحضري الذي يخضع فيه استعمال اللغات لمنطق هيمنة تتولى السوسيولسانيات الحضرية بسطه وتفسيره بكثير من الدقة). من خلال اتخاذها عينات ومختبرات بحث نموذجية (تجريبية). ومن المجالات التي تفيد الدارس في هذا الباب نذكر مثلا مجال الشمال المغربي، وبخاصة مجال استعمال الأمازيغية الغمارية، وأمازيغية صنهاجة السراير، وإليكم الأسباب والملاحظات المثارة. سجل الباحث الفرنسي ج.كولان G.S Colin، في دراسة نشرها بمجلة هسبيريس سنة 1929، انحسار دائرة القبائل الغمارية التي تستعمل الأمازيغية (بني بوزرا، بني منصور)، مثيرا وجود عدد من المعمرين الذين لا زالوا يتحدثون بالأمازيغية على امتداد الخط الذي يفصل بين بني منصور ومجال اتحادية صنهاجة السراير. أما اليوم، فقد زاد انحسار مجال تداول الأمازيغية في هاتين القبيلتين الصغريين، مثلما قل استعمالها حتى بين فئة المحافظين، وبخاصة الذكور الشباب. والملاحظة المثيرة في هذا الشأن هي وجود قرى من القبيلة تعيش حالة ازدواج لغوي (سيدي يحيى أعراب، أناري..)، في ما يبدو مرحلة وسطى قبل العودة إلى الأحادية اللغوية في صيغتها العربية. في خضم ما توفره دراسة ج.كولان المذكورة يمكن للدارس تلمس إيقاع التحول والاستلاب، من خلال حساب سرعتها أو تسارعها خلال مدة تسعة عقود. وكذا بيان آليات التخلي عن اللغة الأم من قبل المتحدثين الغماريين، باعتبار المتغيرات السوسيولوجية المختلفة (الجنس، المستوى الدراسي، الفئة العمرية....). إلى الجنوب الشرقي قليلا، تعيش قبائل صنهاجة السراير مرحلة فارقة من مراحل تشكيل هويتها اللسانية، وهي تمنح الدارس أيضا مثالا ونموذجا دراسيا جيدا يمكن من خلاله فهم آليات التحول. وفي انتظار أن تتوجه أنظار الدرس السوسيولساني إلى مثل هذه البقاع، نورد بضع ملاحظات من وحي المعايشة: - تعرف بعض القبائل المذكورة، على مستوى معجم أمازيغيتها، حضورا لافتا للفظ العربي. يمس وحدات لغوية من صميم التداول اليومي (معجم القرابة: أشقيق عوض أوما- لّول عوض أمزكارو...). وهو أمر يدفعنا إلى افتراض مرور مسيرة التعرب من مرحلة لسانية انتقالية يتم فيها الاستبدال التدريجي للفظ الأمازيغي باللفظ العربي. وهو الاستبدال الذي يمس الوحدات المعجمية الشديدة الاطراد في التداول اليومي.. - حرص هذه القبائل على اتخاذ الدارجة المحلية وسيلة للتعبير الشعري عوض الأمازيغية، ذلك أن المنطقة تعرف شيوع الشعر المغنى المعروف محليا ب"الهايت" الدارجي، الذي تتقاسمه مع القبائل العربفونية المتاخمة (تركيست، بني كميل...). وهذه ملاحظة تسوغ لنا افتراض الدخول التدريجي للعربية إلى المجالات الأمازيغوفونية عن طريق أشكال التعبير الأدبي التقليدية المختلفة. على سبيل الختم: يجدر التنويه في ختام هذه الورقة، إلى مسألة مهمة ذات صلة، هي انحصار مدلول التعرب-التعريب الذي أثرنا ومضات تاريخية عن مسيرته، وصغنا بضع فرضيات تهم آليات اشتغاله ونفاذه، في إطار ما نعتبره تعربا-تعريبا لغويا، لا يتجاوز مستوى البنيات المعجمية والصرفية. بهذا المعنى ينبغي توخي مستويات عليا من الحذر المنهجي أثناء الحديث عن التعريب الثقافي (بالمعنى الأنثروبولوجي)؛ لأنه غير حاصل بالمعنى الذي تسعى بعض الإرادات غير العلمية إشاعته لدى النخبة العالمة ولدى الجماهير. نحن نعني، توخيا للدقة، أن المغرب لم يعرف تعريبا-تعربا ثقافيا على النحو التبسيطي الذي تعج به المصنفات التاريخية، ولذلك تبدو فكرة ربطه بالمشرق العربي على المستوى الثقافي ربطا جينيالوجيا فكرة سطحية اختزالية ساذجة، لا يحرص على إشاعتها إلا من يتخذها مطية لقضاء حاجات سياسية واقتصادية. إن الصحيح أن المغرب عرف تلاقحا ثقافيا بين الثقافة الأمازيغية الأصيلة والثقافة العربية الوافدة، واعتبارا لقلة العرب الوافدين (الخلص بالمعنى الثقافي) الذين أمكنهم الاستقرار في المجال المغاربي، فإن ما حصل، في تقديرنا، هو صَهْرُ اللغة العربية بدوارجها (على المستوى المعجمي تحديدا) في أمازيغيات بقاع مغربية مختلفة، مثلما حصل، على نحو متزامن أيضا، انْصِهار الثقافة العربية الوافدة في صلب الثقافة الأمازيغية. فتشكلت في قلب ذلك هوية "هجينة" كثيرها أمازيغي أصيل وقليلها عربي طارئ، وأقلها أندلسي وإفريقي، وأقل قليلها فرعوني وفينيقي وروماني ووندالي.... بيد أنها هوية مغربية أصيلة موصولة إلى فضائها الإيكولوجي، حية ومتجددة بتجدد الشروط التاريخية، متثاقفة ومنفتحة على ثقافات الشعوب المتوسطية والإفريقية. ولذلك يظهر التميز والتمايز المغربي عن المشرق واضحا جدا في ثقافته التقليدية الشفوية. ولهذا السبب لن نتردد ولن نكل من دعوة منكري ذلك إلى تأمل أشكال التعبير السوسيوثقافي المغربية المختلفة (قولية: شعر، أساطير كرامية، حكايات...- وغير قولية: موسيقى، رقص، طبخ، لباس...)، ومقارنتها بنظيراتها في المشرق. أو العودة إلى المادة المصدرية التاريخية المغربية (التراجم والنوازل والرحلات مثلا...)، عساهم يقفون على خصوصية الشخصية المغربية (بمزاياها وأعطابها)، ويتلمسون عمق الاختلاف، وقوة البنيات الأنثروبولوجية التي تشكلت على أساس قانونَيْ التذاوت والتراكب، وهو ما سمح لهذا البلد بضمان استقلاله السياسي عن المشرق وخصوصيته السيوسيوثقافية الفريدة. ولعل المثير في الأمر، أيضا، هو أثر هذا التمايز وإسهامه في بناء النبوغ المغربي على مستوى الثقافة العالمة في صيغتها العربية، وهذا بالضرورة فرع من ذاك، طالما ثمة خلفية ثقافية عبر-لغوية مغربية تضمن لهذا البلد حدا أقصى من الأصالة والخصوصية. والراجح في هذا الصدد أن من سينزع عن عينيه غشاوة "الشرقانية" التي تطفح بها مسالك الفكر والنقد والأدب بالمغرب، سيقف على حقيقة اختلاف الأدب العربي المغربي عن الأدب العربي بالمشرق. إذ ثمة خصوصية بارزة تميزه، هي في جوهرها محصلة ثقافة عميقة الجذور قوية الأثر. ومثل هذا الكلام ينسحب أيضا على مجالات معرفية أخرى، لذلك يسجل الدارسون وجودَ مسافات كبرى تفصل المنجز الفكري المغاربي عن نظيره المشرقي، سواء في قضايا الدرس اللغوي والفكري الفلسفي أم في قضايا العلوم الشرعية المختلفة. وهذا الكلام يدفعنا، باسم غايات يستوجبها راهن النقاش المجتمعي، إلى إثارة موضوع الحاجة إلى تفكيك الخطاب الديني والتاريخي المؤسسي (المحتضن من قبل مؤسسات رسمية)، وإعادة بنائه على قاعدة التراكم الفكري والسوسيوثقافي المحلي، شريطة الاستناد إلى إيديولوجيا وطنية منسجمة على مستوى الخطاب والممارسة، ومثل هذا المسعى جلي الأثر نبيل الغايات معتبر الفائدة؛ لأنه الترياق الشافي لداء المغالاة والتطرف الذي بدأت تظهر بعض أعراضه في جسد المجتمع المغربي منذ عقد ونيف.