"زوجة الأسد تحتضر".. تقرير بريطاني يكشف تدهور حالتها الصحية    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1500م من السبت إلى الإثنين المقبلين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    المديرية العامة للضرائب تعلن فتح شبابيكها السبت والأحد    حكام سوريا يقاتلون "ميليشيات الأسد"    الحكم موقوف التنفيذ لمناهضين ضد التطبيع    "البام" يشيد بمقترحات مدونة الأسرة    "منتدى الزهراء" يطالب باعتماد منهجية تشاركية في إعداد مشروع تعديل مدونة الأسرة    330 مليون درهم لتأهيل ثلاث جماعات بإقليم الدريوش    سرقة مجوهرات تناهز قيمتها 300 ألف يورو من متجر كبير في باريس    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    إياب ساخن في البطولة تبدأ أطواره وسط صراع محتدم على اللقب وتجنب الهبوط    الدحمي خطاري – القلب النابض لفريق مستقبل المرسى    غياب الطبيب النفسي المختص بمستشفى الجديدة يصل إلى قبة البرلمان    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    العام الثقافي قطر – المغرب 2024 : عام استثنائي من التبادل الثقافي والشراكات الاستراتيجية    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    تعاونيات جمع وتسويق الحليب بدكالة تدق ناقوس الخطر.. أزيد من 80 ألف لتر من الحليب في اليوم معرضة للإتلاف    الكونفدرالية الديمقراطية للشغل تصعد رفضها لمشروع قانون الإضراب    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    اكتشاف جثة امرأة بأحد ملاعب كأس العالم 2030 يثير الجدل    الارتفاع يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    "ال‬حسنية" تتجنب الانتقالات الشتوية    "التجديد الطلابي" تطالب برفع قيمة المنحة وتعميمها    "الاتحاد المغربي للشغل": الخفض من عدد الإضرابات يتطلب معالجة أسباب اندلاعها وليس سن قانون تكبيلي    حلقة هذا الأسبوع من برنامج "ديرها غا زوينة.." تبث غدا الجمعة على الساعة العاشرة    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    صناعة الطيران: حوار مع مديرة صناعات الطيران والسكك الحديدية والسفن والطاقات المتجددة    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    سنة 2024 .. مبادرات متجددة للنهوض بالشأن الثقافي وتكريس الإشعاع الدولي للمملكة    الممثل هيو جرانت يصاب بنوبات هلع أثناء تصوير الأفلام    الثورة السورية والحكم العطائية..    كيوسك الخميس | مشاهير العالم يتدفقون على مراكش للاحتفال بالسنة الميلادية الجديدة    الإعلام الروسي: المغرب شريك استراتيجي ومرشح قوي للانضمام لمجموعة بريكس    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    الضرورات ‬القصوى ‬تقتضي ‬تحيين ‬الاستراتيجية ‬الوطنية ‬لتدبير ‬المخاطر    الصين: أعلى هيئة تشريعية بالبلاد تعقد دورتها السنوية في 5 مارس المقبل    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    اعتقال طالب آخر بتازة على خلفية احتجاجات "النقل الحضري"    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    التوجه نحو ابتكار "الروبوتات البشرية".. عندما تتجاوز الآلة حدود التكنولوجيا    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محاضرة في السيناريو والإخراج
نشر في هسبريس يوم 27 - 03 - 2016

"هذا نص محاضرة مرتجلة ألقاها أندريه تاركوفسكي سنة 1982، أمام طلبة قسمي الإخراج و السيناريو بمؤسسة السينما في الإتحاد السوفياتي، ولم يتم طبعها أنذاك."
من الشائع اعتبار السيناريو نوعا أدبيا، وهذا خطأ شائع، السيناريو لا يمت للأدب بصلة، ولا يمكن أبدا أن يكون نوعا من الأنواع الأدبية .
إذا كنا نريد للسيناريو أن يكون قريبا من الفيلم، فإننا نكتبه كما سنصوره، أي أننا نكتب بالكلمات ما نريد أن نراه على الشاشة، ذلك هو السيناريو العادي بمفهومه الصحيح، وهذه الطريقة في الكتابة ليست أدبا على الإطلاق، إلا أن ضرورة تقديمه إلى الجهات المختصة، تفرض كتابته بشكل مقبول و مفهوم للجميع، مما يعني أننا نكتب شيئا بعيدا عن الرؤية السينمائية، إذ أن الكتابة السينمائية لا تلاءم الطريقة الأدبية، وذلك ما ينطبق عليه المثل المعروف وإن بصيغة أخرى : تكفي مشاهدة واحدة لفهم الفيلم بينما يحتاج السيناريو لعشرات القراءات.
يستحيل تحويل الرؤية السينمائية إلى كلمات، فكأننا نقوم بوصف الموسيقى عن طريق النحت، أو نقوم بإنجاز منحوتة لوصف مقطوعة موسيقية ، تبدو العملية مستحلية ، السيناريو الحقيقي لا يهدف إلى أخذ مكانة عمل أدبي جاهز، يجب أن يكتب منذ اللحظة الأولى كخريطة لإنجاز الفيلم في المستقبل، في رأيي كلما كان السيناريو دقيقا كلما كان الفيلم سيئا، عادة ما نسمي تلك السيناريوهات الدقيقة " قوية" ، الأبطال في هذه الأعمال دائما ما "يتحولون"، كل شيء فيها "يتحرك" إلخ إلخ، هذا مبدأ العمل على سيناريوهات تجارية، الأمر يختلف في سينما المؤلف، إذ لا يمكن تحويل الرؤية السينمائية إلى لغة أدبية، فمهما بذلنا من جهد فإن الفيلم سيكون مختلفا، من الأفضل أن يقوم المخرج شخصيا بكتابة السيناريو ، السينما الحقيقية تتخيل من البداية إلى النهاية، صفحة واحدة كانت كافية لتحرير كل سيناريو فيلم "vivre sa vie" لغودار، وكانت الصفحة عبارة فقط عن ترتيب تتابعي للأحداث كما ستبدو الشاشة، إذ لم يكن هناك حوار، فكان الممثلون يعمدون أثناء التصوير على ارتجال ما يقال عادة في تلك الحالات. هناك فيلم آخر "الظلال" "shadows" 1959 ل دجون كاسافيتس، وهو عمل فريد من نوعه، فهو ارتجال بكل ما تحمل الكلمة من معنى، دراما الفيلم جاءت كنتاج لما صور من لقطات، وليس العكس، هنا كل لبنة بني عليها الفيلم لتطوير الحكي الدرامي كانت عفوية و لم تكن مقررة مسبقا، قامت اللقطات المصورة بكسر قاعدة البناء الكلاسيكي للسيناريو، كل شيء يبدو متينا، وقابلا للتوضيب مادامت كل اللقطات من طبيعة واحدة.
وهذا لا يعني أنه بالإمكان حمل كاميرا و الخروج إلى الشارع وتصوير فيلم، سيحتاج الأمر إلى سنوات من العمل و التجريب، السيناريو شيء مهم، يجعلنا نتذكر الفكرة الأساسية و نقط الارتكاز لأي عمل، السيناريو شيء عظيم و لكنه لا يعدو كونه فكرة على الورق.
لا أفهم كيف يمكن أن نصنع فيلما عن سيناريو كتبه شخص آخر، إذا قام المخرج بتصوير فيلم معتمدا إعتمادا كليا على ماكتبه إنسان آخر يصبح ليصبح كمجرد مزين للكتب illustrateur
إذا كان السيناريست يقترح شيئا جديدا، فإنه هنا يتقمص دور المخرج، عادة ما يعمل السيناريست كوسيط، ويبقي أفضل اختيار هو أن يعمل السيناريست و المخرج يدا في يد.
سأحاول بتفصيل طرح أفكاري حول السيناريو و مفهوم "السيناريست" و ليسامحني كتاب السيناريو المحترفين، في رأيي لا يوجد هناك كتاب سيناريو، فالذين يقومون بهذا العمل إما كتاب يفهمون في السينما أو مخرجون يعدون بنفسهم المادة الأدبية، وكما سبق وقلت فليس هناك نوع أدبي اسمه السيناريو.
عموما دائما ما نقع في ورطة، المخرج حينما يقوم بكتابة السيناريو فهو يكتب فقط تلك الوقائع أو الأحداث التي يتصورها كجزء من الزمن الفيلمي الذي سيتبثه على الفلم الخام، من الناحية الأدبية ستبدو هذه الكتابة غامضة، ركيكة و غير مفهومة للعامة، لا أتحدث عن القراءة فحسب، فهي أيضا لا تصلح حتى للنشر.
من جهة أخرى فإن السيناريست إذا حاول أن يطرح أفكاره الأصلية بطريقة أدبية أو ككاتب، فإنه هنا لا يقوم بكتابة سيناريو بل يقوم بإبداع عمل أدبي، كأن يكتب مثلا حكاية في 70 صفحة وإذا قام بوضع ملاحظات حول الانتقالات التوضيبية للفيلم، فما عليه إلا أن يقف وراء الكاميرا وأن ينجز الفيلم بنفسه، لأنه لا أحد سيستطيع أن يتصور الفيلم أحسن مما سيفعله هو نفسه، سيكون السيناريو هنا كفكرة تم العمل عليها بشكل كامل ونهائي، تبقى فقط عملية التصوير أي إنجاز الفيلم.
إذا كان السيناريو في هذه الحالة جيدا و سينماتوغرافيا فلن يبقى للمخرج شيء يضيفه، أما في حالة إذا كان السيناريو عبارة عن عمل أدبي محض فإن عمل المخرج هنا هو إعادة صياغته من جديد سينمائيا.
وهكذا، حينما يحصل المخرج على سيناريو بين يديه و يبدأ في العمل عليه، مهما كان السيناريو جيدا وعميقا في فكرته فإنه يبدأ بإخضاعه إلى تغييرات، ولن نرى أبدا ذلك السيناريو بشكله الأصلي يتجسد حرفيا على الشاشة، دائما تحدث تغييرات، لذلك فإن عمل المخرج و السيناريست معا دائما ما يتسمم بالصراع و البحث عن تسويات للخروج منها، من الممكن أن تكون النتيجة فيلما متكاملا، رغم أن ذلك الصراع الثنائي بينهما قد يخلق لنا أفكارا و رؤى سينمائية جديدة تبنى على أطلال السيناريو الأصلي.
نرى أن أحسن طريقة للعمل في سينما المؤلف، هي حين لا تتكسر الفكرة الأساسية للعمل و إنما تتطور ، ويحدث ذلك عادة حينما يقوم المخرج نفسه بكتابة السيناريو أو يقوم السيناريست نفسه بإخراج الفيلم.
في آخر المطاف لا أرى فائدة في عزل مهنتي المخرج و السيناريست عن بعضهما، السيناريو الحقيقي لا يمكن إلا أن يكون عملا للمخرج أو حين يكون التعاون مثاليا بين المخرج والكاتب .
إلا أن الكاتب لا يمكن أن يتحول إلى سيناريست، يمكنه فقط أن يوسع حدود اشتغاله، و تقمص الكاتب لهذا الدور ليس مثمرا.
باختصار، أعتقد، أن المخرج في تعاونه مع السيناريست لا يمكن أن ينجح إلا مع كاتب جيد، لأن العملية تتطلب موهبة كبيرة في الكتابة، حينما تتعلق المسألة بالمتطلبات السيكولوجية، هنا تستفيد السينما حينما تتأثر بالأدب، ما دام الأدب لا يؤثر و لا يحور خصوصياتها، أتكلم عن فهم و سبر أغوار الحالة النفسية للشخصية و عمقها، تتطلب السينما من المخرج و السيناريست معرفة كبيرة بالإنسان، ودقة في هذه المعرفة في كل حدث على حدة، مؤلف الفيلم يجب أن يكون كاختصاصي أو طبيب في علم النفس، لأن التشكيل السينمائي يعتمد و بشكل كبير على الحالة النفسية للشخصية في إطار كل حدث على حدة، إن معرفة السيناريست بالعالم الداخلي للشخصيات تفيد المخرج ، لأجل هذا يجب على السيناريست أن يكون كاتبا حقيقيا.
إن تحول كم هائل من كتاب السيناريو إلى الإخراج لا يجب أن يثير الاستغراب، والأمثلة على ذلك كثيرة في سينما "الموجة الجديدة" أو بشكل أكبر في " الواقعية الجديدة" الإيطالية التي تكونت من نقاد وكتاب سيناريو سابقين، فمعظم مخرجيها المعروفين، و كقاعدة، إما يكتبون لأنفسهم أو بشراكة مع كاتب.
في حقيقة الأمر، كتابة السيناريوهات و مناقشتها في مجالس التحرير شيء رجعي و من الماضي، سيأتي الوقت الذي نتخلى فيه عنه، لأنه من العبث الحكم على مشروع فيلم ما انطلاقا من السيناريو، كثيرة هي الأفلام التي كانت تعقد عليها آمال كبيرة في أن تكون جيدة لاعتمادها على سيناريو جيد و لكنها فشلت، بينما أفلام أخري أصبحت روائع عالمية رغم أن أحدا لم يثق في السيناريوهات التي صورت عنها، ليس هناك أي منطق في العملية.
إذا كان هناك من يعتقد أنه بإمكانه الحكم على فيلم ما انطلاقا من سيناريو مكتوب على الورق، فصدقوني إذا قلت لكم أنه يرتكب خطأ جسيما.
للأسف، في الغرب، هناك المنتج الذي يريد أن يعرف أين سيستثمر أمواله، وعندنا مؤسسة السينما التي هي الأخرى تريد أن تعرف أين ستصرف أموال الدولة، إلا أن ذلك ما هو إلا كذب على الذات، كذب متبادل بين الطرفين، نحن نكذب على أنفسنا،والذين يعملون في لجان اختيار السيناريو يكذبون على أنفسهم.
ويبدو أنه ما دمنا نحتاج إلى منتج في صورة ذلك الرجل الغني، أو في صورة مؤسسة السينما، سنكون دائما في حاجة إلى مهنة " السيناريست".
تبقى علاقة الشراكة بين المخرج و الكاتب، كأعقد معضلة في العملية، ولكي يكون عملهما مثمرا من المهم أن يفهم الكاتب أن الفيلم لا يمكن أن يكون كرسومات لتزيين الكتب، الفيلم بمثابة عملية قراءة فنية جديدة للعمل الأدبي، والعمل الأدبي بحد ذاته لن يكون سوى أداة بين يدي المخرج تدفعه وتلهمه لإبداع أشياء جديدة، لقد اصطدمت أثناء عملي كمخرج بعدم فهم كتاب كبار أمثال ستانيسلاف ليم أو فلاديمير بوغامولوف لهذه المسألة البديهية في التعامل مع النص، إذ كانوا لا يسمحون بتغيير ولو كلمة في أعمالهم.
ويبقى عدم فهم خصوصيات السينما بالنسبة لعدد من الكتاب شيئا منتشرا، من جهة أخرى فإن تعاوني مع الكاتبين الأخوين ستروغاتسكي كان عملية مثمرة، باختصار ليس بإمكان كل كاتب جيد أن يصبح كاتب سيناريو بسبب بعض الأشياء التي ذكرتها سابقا، وهذا لا يعتبر بخسا لقيمتهم كمبدعين، ولكن بسبب الاختلاف بين الأدب و السينما.
ما هو "موضوع" السيناريو؟ ليس هناك جواب مطلق، لنتذكر ما سردته سابقا عن أفلام غودار و كاسافيتس، لذلك سأقف عند وجهة النظر التي أراها أقرب إلى الواقع، أي ماذا يعني بالنسبة لي "السيناريو".
تصوري لما يجب أن تكونه السينما، إمكانياتها وقدراتها كفن، فإن أهم شيئ بالنسبة لي هو أن يكون موضوع السيناريو ذا وحدة في الزمن، المكان والحدث كما في السينما الكلاسيكية، في الماضي، كان أمرا مهما بالنسبة لي استعمال الإمكانيات الشاملة لتوضيب كل شيء بشكل كرونولوجي، الأزمنة المختلفة، الأحلام، ارتباك الأحداث التي تقف فجأة في طريق الشخصيات الأساسية ومعاناتها و تساؤلاتها. الآن أريد أن يتدفق الزمن بسلاسة في اللقطة دون اللجوء إلى عمليتي اللصق و القص، ، أريد لعميلة لصق اللقطات أن تكون فقط استمرارية لعرض حدث ما ولا شيء أكثر، أن لا تكون عملية لكسر التدفق الزمني، أو إعادة ترتيبه و رصه دراميا.
أعتقد أن هذا الحل العادي و البسيط يعطينا إمكانيات أكثر .
لنتوقف عند مسألة الحوارات.
لا يمكن أن نختزل فكرة لقطة ما في الحوارات " كلمة، كلمة، كلمة"، في الحياة العادية ناذرا ما نشاهد تطابق الكلمات مع الحركات، الكلمات و الأفعال، الكلمات والأفكار، عادة الكلمات و الحالة النفسية و التصرفات الجسدية تتطور على مستويات مختلفة ، إنها تتفاعل فيما بينها، أحيانا تكرر الواحدة معنى الأخرى، أحيانا تتعارض، وقد يحصل بينهما صراع، وقد تفضح إحداهما الأخرى، وفقط حينما ندرك المعنى الحقيقي لما يحدث على هذه المستويات يمكننا الوصول إلى مسألة عدم التكرار، فقط عند مواجهة الحدث للكلمة المنطوقة، وسيرهما في اتجاهين مختلين يولد ذلك النموذج الفريد الذي أسميه نموذج الملاحظة.
في الأدب أو المسرح نعبر بواسطة الحوار عن الرؤية الفنية (عادة وليس دائما)، في السينما يمكننا أيضا أن نعبر عن الأفكار بالحوار، كما يحصل في الحياة اليومية، ولكن السينما تعتمد على مبدأ آخر في استعمال الحوار، على المخرج أن يكون دائما كشاهد لما يقع أم الكاميرا، الكلام في السينما يمكن أن يستعمل كمؤثر صوتي (ضجيج) أو كخلفية صوتية إلخ، فعلى سبيل الذكر هناك أفلام رائعة ليس فيها حوار إطلاقا.
حوارات الشخصيات في السينما لا تعبر عما تقوم به، وهذا شيء جيد، لذلك فإن طريقة كتابة حوار لسيناريو تختلف عن نظيرتها في المسرح أو الرواية أو القصة ، فحتى حوارات هذه الأنواع الأدبية تختلف فيما بينها، خلاصة القول، طبيعة الشخصية، دورها و حوارها في السينما يختلف عن باقي الفنون الأخرى.
ما هي طبيعة الشخصية في السينما؟ عادة هي شيء تقريبي، جد مجازي، لا يشبه كثيرا ما يقع في الحياة، وقد عولج هذا المشكل بنجاح مرات عديدة في السينما.
لنأخذ مثلا فيلم " تشاباييف"، إنه فيلم غريب، فلقطاته تبدو رائعة، ولكن توضيبه كان مقرفا، تحس وكأن اللقطات صورت لتوضب بطريقة أخرى غير هذه، إذ يبدو الفيلم كخط مستقيم به فراغات.
بابوتشكين (إحدى شخصيات الفيلم) يبدو مقنعا و شاعريا، ولكنك تحس وكأن اللقطات المصورة لا تكفي لبناء الشخصية، النتيجة شخصية ضعيفة و مباشرة، معالجة بدائية، بما في ذلك الفيلم ككل، اللقطات تبدو مقطعة و لا علاقة لبعضها ببعضها الآخر، أعتقد أن النتيجة جاءت عكس ما خطط له مؤلفو الفيلم.
في فيلم " المدير العام" (فيلم روسي من إخراج ألكسي سالتيكوف سنة 1964 المترجم) نجد هذه الطريقة في بناء الشخصية، طريقة تعتمد على مبدأ " البطل، إنسان يشبهنا"، غير أن هناك طرقا أخرى، نتذكر على سبيل المثل فيلم "Umberto D" (من إخراج فتوريو دي سيكا سنة 1952- المترجم).
عادة ونحن نشاهد بعض الأفلام نصطدم بذلك التخطيط في بناء الشخصية، ونجد أنفسنا وبشكل عفوي نتخيل ذلك المؤلف جالسا إلى مكتبه يفكر في طريقة مثلى لحكاية قصته بطريقة جذابة و ممتعة، نحس بذلك الجهد الخارق الذي يبدله مهما كلفه الأمر لكسب المتفرج، وهذا مبدأ من مبادئ السينما التجارية ، حيث تعتبر الفرجة هي أساس العمل السينمائي، و ليس حقيقة و واقعية الشخصية، يتم التخطيط لتلك الشخصيات في تلك النوعية من الأفلام بطرق معروفة، فمثلا لكي نجعل من البطل الإيجابي شخصية "حية"، من الضروري أولا أن نصوره في وضع مقرف و غير جميل.
وحينما يتعلق الأمر بعمل سينمائي حقيقي، بعمل رائع، فإننا نعمل بمبدأ "الشيء في ذاته"، فالشخصيات عادة غير مفهومة كما في الحياة، إذ أننا كلما تحدثنا عن الأساليب و الطرق التي قد تساعدنا على جعل العمل "ممتعا" كلما لامسنا واقتربنا من حدود السينما التجارية، العمل الفني الحقيقي لا يهتم بردة فعل المتفرج.
أحيانا نستمع إلى عتاب من هذا النوع: الفيلم الفلاني لا يمت للواقع بصلة، هذا شيء لا أفهمه، نوع من العبث، لأن كل إنسان يعيش هو و أفكاره وسط أحداث تقع في زمنه و حاضره المعاش ، فكرة "لا يمت للواقع بصلة" يمكن أن يقولها فقط مخلوق قادم من المريخ.
كل الفنون تهتم بالإنسان، حتى في اللوحات التي تصور فقط مناظرا طبيعة، أحيانا نستمع إلى أن هناك نقصا في تناول الإنسان في السينما، أو عدم اهتمام هذا الفن بمواضع تعود على المجتمع بالفائدة، أرى أن ربط السينما بموضوع ما وبشكل مباشر بغية التأثير في ميدان ما أو الحصول على نتيجة ما لا يجدي نفعا. أعتقد أن الفن الحقيقي يضع دائما الإنسان نصب عينه، الإنسان أهم موضوع في السينما.
أريد أن أذكركم بمقولة رائعة، شهيرة و منتشرة ولكننا دائما ما نتناساها، قال إنجلز مرة "كلما أخفى المؤلف وجهة نظره، كان ذلك أفضل للعمل الفني".
ماذا يعني هذا؟ حسب فهمي، فإن الحديث هنا لا يتعلق بانعدام النزعات في المعالجة كل عمل فني يحمل بين طياته نزعة ما بقدر ما يتعلق بضرورة إخفاء المؤلف للفكرة وتبطينها، لكي يحصل العمل الفني على بعد حي و إنساني وذي شكل إبداعي يخفي بين طياته الفكرة المباشرة، وجهة نظر الكاتب يتم توظيفها مع مكونات أخرى، و هي تعتبر نتاجا لعملية تفكير طويل ومعاينة للواقع، يجب التذكير بأن الفنان يفكر عادة عبر صور بلاغية و فقط بهذه الطريقة يمكنه أن يوضح علاقته بالحياة.
السينما تهتم بالإنسان، ولا يمكن لها أن تهتم بشيء آخر غير الإنسان، وهذا يعني أنه لا يمكن لها أن تخرج عن النظرة الإنسانية، بمعنى النظر إلى الإنسان من خارج الإنسان، أو من وجهة نظر غير إنسانية، لقد واجهت ذلك مرتين في حياتي العملية، في فيلم "Solaris "(فيلم أخرجه تاركوفسكي سنة 1972) رأيت أنه يجب علي أن أصور إحدى اللقطات بنظرة غير إنسانية ، متخليا عن الحس الإدراكي البشري التقليدي، أقصد لقطة محاولة إنتحار " Khari" و عودتها التدريجية ، إلا أن ذلك لم ينجح، وبدا لي أنه لا يمكن فعل ذلك إطلاقا.
هناك قوانين تتحكم في البناء الدرامي للشخصية في الأدب، الشعر و حتى الرسم، ما قام به شكسبير في مسرحياته كان من المستحيل القيام به في الأدب، ففي المسرح الكلاسيكي تتحكم المفاهيم و الرؤى الفلسفية في الشخصيات، فشخصيتي هاملت و ماكبث مثلا لا يمكن اعتبارها شخصيات بقدر ما يمكن اعتبارها نسقا و رؤية فلسفية و وجهة نظر، وهذا لا يمكن القيام به في الأدب أو الشعر لأن ذلك سيبدو تخطيطا نمطيا للشخصية، و هذا لا يخص فقط شكسبير، بل يخص أيضا بن دجونسون، بيرانديللو، أستروفسكي، ذلك أن هذه الطريقة تبقى هي الطبيعية في بناء الشخصيات في المسرح. حاولوا أن تجربوا انطلاقا من هذا المبدأ، أي أن تكتبوا عملا أدبيا دون أن تكون عندكم شخصيات، وستفهمون أن ذلك مستحيل، شخصيا لم أصادف قصة ولا رواية سواء من العصور الوسطى أو الحديثة لم تعتمد في بنائها على البعد الإنساني (شخصية ما)، إذا بدأنا في السينما بالاشتغال على الشخصيات بالطريقة المستعملة في الأدب، فلن يحالفنا النجاح، أقصد هنا طريقة أولئك الذين يتعاملون مع الفيلم كمجرد رواية. و أعتقد أن هذا خطأ كبير و المسألة لا تعدو كونها محاولة لاستلهام طرق بناء الشخصيات في الأدب و نقلها إلى السينما.
هذا سيكون أدبا متبثا على الفيلم الخام، وإذا حاولنا كذلك نقل الطبيعة المسرحية للشخصيات إلى السينما فلن ننجح أيضا لأن الشخصيات ستبدو مصطنعة و نمطية.
من هنا يجب أن تكون للسينما طريقتها الخاصة في طرح المواضيع، وهذا لا يعني أنه يجب على المخرجين العمل بطريقة واحدة، هذا فقط يعني أن للسينما موادها الخاصة، وعلى كل مخرج أن يتعامل مع تلك المادة بأسلوبه الخاص، وتلك المادة هي الزمن.
لاحظوا أنه كلما لامس المخرج أنواعا أخرى من الفنون واستغلها في عمله، نصل إلى نقطة جمود، أو منطقة ميتة، ويتوقف الفيلم عن الحياة، إن استخدام كل ما هو غريب عن السينما يخل بتماسك العمل، لا تصمد تلك المقاطع من الفيلم التي تستعمل كل ما لا يدخل في السينما كفن قائم بذاته.
غالبا و أثناء المناقشات التي تعني بالسينما، ما نسمع ب "الحدث" كأساس من أسس العمل الدرامي، ماذا يقصد ب "الحدث"؟ الحدث شكل من أشكال وجود الأشياء و الوقائع في الزمن، ولا يجب أن يلعب دورا أكبر من ذلك، الحدث ليس سيخا ندخل فيه كل وقائع الفيلم لإنجاح الفرجة، سيكون الأمر أقرب إلى المسرح.
نحن ناذرا ما نتأمل الحياة، لا نعيرها الانتباه الواجب، رغم أن الحياة أساس و نبع الفنون، نمارس الفن في المكاتب على طريقة جول فيرن، مما يتولد معه مجموعة كبيرة من الأكليشيهات واللغات المصطنعة، أصبحنا نحكي قصصا و أقاصيص بلغة غير لغتنا، لغة لا تناسبنا، نكرر لبعضنا البعض حكايات لا تفيدنا و لا تفيد الآخرين.
يمكننا بهذه الطريقة أن نجذب فئة من المتفرجين، وأن نحصل أرباحا من العروض، حكي لي مرة عن قصة وقعت لرجل محكوم بالإعدام زمن الحرب، بتهمة الهرب من الخدمة العسكرية أو الخيانة، لا أذكر التفاصيل، حكم على الرجل و مجموعة أخري بالإعدام رميا بالرصاص، أوقفوهم إلى سور مدرسة ابتدائية، وكان الجو ربيعا ولم يذب كل الثلج الذي كان يغطي الأرض، فانتشرت برك من الماء هنا وهناك، و قبل أن يتم إطلاق الرصاص، طلب منهم أن يخلعوا معاطفهم و أحذيتهم، قام كل الرجال بنزع ملابسهم و أحذيتهم و ألقوها على الأرض، أما رجلنا فقد نزع المعطف، طواه بشكل جميل، بدا وكأنه يفكر في شيء ما، تم بدأ يمشي هنا وهناك إلى أن وجد مكانا جافا فوضع فوقه المعطف و انصرف إلى الصف ينتظر تنفيذ الحكم، ، بعد لحظات بدا ملقى على الأرض و قد فارق الحياة، وبدا أنه لن يحتاج إلى معطفه مرة أخرى ، لم يكن الرجل لحظات قبل ذلك يفكر في شيء آخر غير الموت، ولكنها العادة الأوتوماتيكية التي تدفع بعض الناس إلى القيام بمهامهم مهما كانت الضر وف.
في آخر المطاف، فمن أهم مميزات السينما الدقة، في الأيام القليلة الماضية، ظهر مخرج موهوب من مدينة لينينغراد، اسمه ألكسي جيرمان، أخرج فيلما رائعا " عشرون يوما بلا حرب"، في هذا الفيلم، ورغم غياب الكمال، هناك مقاطع تنبؤنا بميلاد سينمائي كبير، و رغم أنه يحتاج إلى مزيد من الوقت ليتعلم، يمكنني أن أعدد أسماء معلمين كبار في السينما لا يضاهون موهبته، لا يجب أيضا أن نبخس مؤلف الفيلم حقه، هناك مقاطع جد رائعة في الفيلم، مشهد المظاهرة في مصنع مدينة طشقند، مشهد جد رائع، صور بحرفية كبيرة، تصيبك الدهشة و تتساءل كيف أمكن لإنسان أن تخطر بباله تلك الفكرة وهو لم يعش الحرب، المسألة ليست مسألة معايشة حرب من عدمها بقدر ما هي عملية إحساس و كيف سننجزه على أرض الواقع.
من المفيد أن تشاهدوا فيلمي المخرج سيرجي بارادجانوف، فيلمه الثاني على الخصوص، أفلام المخرج أوتار يوسيلياني الثلاثة، هؤلاء كلهم مخرجون يتميزون ب "الحفر" ، لأنهم يفهمون مدى أهمية عمق الأفكار في السينما، وستفهمون أنهم لا يتشابهون فيما بينهم، وأن أساليبهم تختلف، و مواضيعهم كذلك.
لكي تقتربوا من الكمال في أفلامكم، عليكم أن تفهموا الأشكال الموسيقية: الفوغا ( صنف من التأليف الموسيقي يعطي الانطباع للمستمع بمشهد هروب أومطاردة - المترجم )، السوناتا، السيمفونية..إلخ، فالفيلم أقرب إلى البناء الموسيقي، ليس مهما منطق تسلسل الأحداث بقدر ما هو مهم شكل تسلسل تلك الأحداث على الشاشة، الزمن شكل من الأشكال.
النهاية مهمة في العمل السينمائي، كالمقطع الختامي في القطعة الموسيقية، تتابع الأحداث والشخصيات بشكل كرونولوجي ليس مهما، الأهم هو منطق القوانين في تتابع الجمل الموسيقية و تصادمها إلخ ، في فيلم "المرآة" استخدمت هذه القواعد.
الدراما السينمائية تشبه الشكل الموسيقي، لا تعتمد الموسيقى على المنطق، بل تلعب على التأثير في المشاعر والعواطف، و التأثير فيهما لا يتم إلا بكسر التسلسل في الحكي، وهذا ما تمثله الدراما السينمائية. لعبة التتابع و ليس التتابع بحد ذاته .
ليست مهمة المخرج البحث عن المنطق أو الحكاية، و إنما تطوير الأحاسيس، ليس من قبيل الصدفة أن تشيخوف حينما كان ينتهي من كتابة قصة كان يلقي بالصفحة الأولي في صندوق المهملات، كان بذلك يحرر الموضوع من "الدافع" و يتحرر من "المنطق العقلاني"، فتمضي الأشياء في إطارها و تحولاتها الطبيعية، كلما كانت المادة الفيلمية المصورة جيدة كلما تكسرت الدراما و ابتعدت عما خطط له.
الصورة الفنية الحقيقية لا تخضع لتفسير عقلاني، ولكنها تمتلك خصائص حسية لا تقبل التفسير الواحد، لذلك فإن لا منطقية البناء الموسيقي أكثر دقة وفنية من المنطق العقلاني، خلاصة القول، الفن هو خلق معادلة بين المالانهاية و الصورة.
على العمل الإبداعي أن يكون قادرا على خلق الصدمة، على تطهير الروح و تنقية نفس المشاهد ، أن يكون قادرا على لمس المعانات الإنسانية، ليس من أهداف الفن تعليم الناس كيف يعيشون، الفن لا يجيب على الأسئلة، بل يطرحها، الفن يحول الإنسان، يجعله قادرا على تقبل الخير، يحرر طاقته الروحية، تلك هي رسالة الفن.
*عن مجلة " فن السينما"، العدد رقم 7، الصفحات 105-112.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.