انتهت الدورة السابعة عشرة من المهرجان الوطني للفيلم ويمكن القول بدون تردد على أن هذه الدورة شهدت، كما أغلب الدورات السابقة، جدلا لم يترك لا كبيرة ولا صغيرة إلا وضعها موضع مماحكاته. إيجازا للقول وتلافيا لتكرار الرائج نحصر قراءتنا لهذه الدورة في جانبين كليين متداخلين هما: الجانب التنظيمي للدورة من جهة، والجانب الثقافي من جهة أخرى. ولا بد من الإشارة أنهما معا متفاعلان فلا تنظيم دون مضمون فني وفكري رفيع ولا مضمون دون تنظيم محكم مريح ودقيق. نقصد بالقيمة التنظيمية الجانب الذي نؤكد فيه دون مواربة على أنه كان ناجحا ونوعيا، رغم التأخير في خروج ترتيباته إلى الوجود قبل انطلاق أشغال الدورة، سواء إعلاميا للعموم أو من حيث الاتصالات والإخبار بالترتيبات. ويعود الفضل في نجاح التنظيم بالأساس لفريق المركز السينمائي المغربي نساء ورجالا على المستوى المهني والإنساني الجيد. إذ الفريق نجح دائما في الحفاظ على علاقات طيبة مع الجميع، وباحترافية وحيادية عالية غالبا ما كانت وراء الحفاظ على القيمة التواصلية للمركز مع مواقف وآراء قد تصل حد التضارب في قيمتها وعمقها ونوعيتها من الممارسة السينمائية للمهنيين وللمبدعين من قضايا الفيلم المغربي، بما فيها أسئلة التدبير والتسيير في تركيبِيّتها وفي « حساسيتها ». إن النجاح الكبير للتنظيم والإقبال المحترم على المهرجان بكل فقراته من جهة، والحضور القوي في مناقشات الأفلام والحضور الغائب لأغلب النقاد والصحافيين المتخصصين وللسينمائيين في هذه المناقشات من جهة ثانية، إنما هو دليل على الغياب العميق لثقافة ولذوق سينمائي ناجعان في الإنتاج والتدبير والتسيير. إن إطار التنظيم الناجح مثل شهد دون عسل، فهو لحد الآن مُصنفٌ، ضمن الديكور الفولكلوري للمهرجان، لأن أغلب جلساته تَمُرُّ، بين استسهال السذج من بعض الشباب المتعطش وبعض المهتمين وبين عجرفة بعض المخرجين الذين يحتمون بوضع غير دقيق المعايير وصرامة التدبير من جهة، وبين سلبية بعض النقاد والمتخصصين، واعتيادية المألوفين من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة بين ندرة تدخلات الممارسين، وغيض من تدخلات حَسَنِي النية الذين بمناخ الخلط والعبث هم غير آبهين: هي في الواقع فرجة بئيسة وليست قوة اقتراح جمالي وفضاء تبادل فكري وسينمائي ملائم. - القيمة الثقافية: وتضم الجانب الفكري والإبداعي الذي يرتبط أساسا بالمسابقتين الرسميتين للمهرجان للأفلام القصيرة والطويلة، كما يتعلق بالندوات وبمناقشات العروض السينمائية وذلك من خلال عنوان عريض هو التصور الثقافي العام للمهرجان ولفقراته والغاية منه ومن برنامجه العام. يُطرح التساؤل في هذا السياق حول تناغم فقرات هذا البرنامج وتماسك التصور الكامن وراءه، وتلاؤمه مع مشروع سينما وطنية. - لماذا سينما وطنية؟ هي ما سيدخل في خانة مصاحبة بناء مجتمع الحداثة، حيث تندمج القوة الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية، مع قوة الصناعات الثقافية الوطنية التي تستطيع المنافسة، وتستطيع إيجاد موقع قدم في السوق العالمية حماية لثقافة محلية تتراجع أمام ضربات لا تتوقف لعولمة شرسة، ولخصوم قادرين على احتلال مواقع قوة في الساحة السينمائية الثقافية العالمية. - تأطير الندوات ومناقشات الأفلام والولائم الموازية يتم بمنطق صياغة الحصيلة والإعلان المباشر أو غير المباشر عن عدم امتلاك بُعْدٍ استراتيجي ثقافي مندمج، والأهم أن السينما أيضا حقل تواصليٌّ جماهيري يحتلُ صُلبَ بناءِ الإنسان وبُؤرة التنشئة الاجتماعية وصناعة الرأي العام. إنه يشكل عُصب الصِّراع الثقافي والهوياتي المُوازي للحروب الإعلامية والتجارية بل والعسكرية التي تعصف وستظل تعصف بعالم الألفية الثالثة فكيف يمكننا تدبير حقل لا استراتيجية تواصلية ولا ثقافية لنا فيه؟ بعض من الجواب: احتضار القاعات. معاهد التكوين متروكة لتدبير الارتجال والعلاقات غير الرسمية سوسيولوجيا. - غياب أي حديث بل ورفض أي نقاش حول المعايير الجمالية العامة للاشتغال على الإنتاج السينمائي الوطني من منطلق تبخيس مقنع للمسألة واعتبارها شأن ثانوي تارة، وغير منطقي تارة أخرى. يصل الأمر حد التطويع الساذج للذاتي المعياري بمعنى مُنفلت عن السيطرة الفكرية. الذريعة هي أنه يؤدي إلا « للخصام » وبالتالي فلا جدوى منه. غياب هذا النقاش فصْلٌ تعسُّفي لحقل السينما ولطريقة تدبيرها عن جذورها، وتهريب لها عن وظيفيتها المجتمعية الأساسية لخدمة الدولة والمجتمع معا: ذلك أوسع الأبواب التي منها يتسرب الخلط وتتموقع الرداءة ويتشرعن التسلط على الإبداع إلى درجة أن بعضهم قال بأن الإخراج في السينما مسألة « زعامة »!!!!! ما يمكن قوله عن رُكْنٍ هامٍّ من الدورة وما وزعته من نياشين، هو أن الفلسفة تفكيرٌ رفيعٌ في سينما، عفوا أفلام، رفيعة: يقتضي الأمر تمثُّلا عميقا للاثنين معا ضمن دائرة غلافِ جماليّةٍ صارِمة المعايير، تعتز بالذات المتذوقة وتستحضر الرمزية القوية للحظة وانعكاسها على نمو حقل بكامله: فهل هي غواية سلطة عابرة أو رضوخٌ « لواقعيةِ » مؤسسة أم أن الأمر يتعلق بالممكن فقط وهو الذي انتصر؟ طوبى للبعض وعتاب قوي صادق لآخرين. عن الحصيلة والقراءة الكميَّةِ لنسب المتابعة في شباك التذاكر أعارض: فحجة الرقم 200.000 تذكرة لفيلمي « الفروج والحمالة » لا يقرأ إلا مقابل رقم يكاد يطابقه حققته أفلام حسب أهميتها الجمالية البصرية وتماسك وانسيابية حكيها وحبك إيقاعها وهي على التوالي « جوق العميين » و « رهان » و « جوق منتصف الليل » و « خنيفيسة الرماد ». هذا ولا بد من الإشارة إلى الآتي من أفلام نجحت، بدرجات متفاوتة طبعا، في المزاوجة بين شباك التذاكر وفيلم المؤلف: « أفراح صغيرة » « دموع إبليس » « رجال من طين » « فداء » « مسافة ميل بحذائي ». نتحدث في هذا المقام عن أفلام « في شبكة قاعات سريالية وانتشار عبثي للثقافة السينمائية وتطويع مريع لقطاع استراتيجي تخلت الدولة عن حمايته اجتماعيا وفكريا وجماليا دون التخلي عن تمويله فأي مفارقة هذه؟ لنُركِّب الآن ولنعبُر نَحو النّظرة الشمولية التي لا تُعجب البعض، ولنقل ما يلي عملا بقاعدة قل كلمتك وانصرف: ليست دورة طنجة « 17 » من المهرجان الوطني للفيلم بطنجة، في نهاية المطاف وفي نهاية التأمل السوسيوثقافي والجمالي، سوى مرآة لكل الاختراقات والانتهاكات التي طالت مفهوم الإبداع وقيمةَ الجَمال ومُلاءمة العُمق الفكريّ وطراوة النَّسْج الحِكائي الرفيع للسينما وللفنون البصرية والمسمُوعة عموما بالمغرب. إخلاصا لرُؤيتنا الشُّمولية نقول بأن حقول الجماليات البصرية من السينما إلى الفوتوغرافيا والتلفزيون، مرورا بالأغنية المُصورة (فن الكليب) والفنون التشكيلية، أصبحت الأبواب فيها مُكسّرة على مِحْراب الإبداع وهيبته وسموِّه. فها قد أصبح كل ذي سذاجة أو حُلم أخْرق بل وحتى كل مُتطاول لا يرفُّ له جفنٌ، لا هو مهذب بالتواضع ولا سلوكه مُشذَّب بالتربية على قِيَم الاحترام للثقافة ولا حتى للذات، أصبح لا يرى في الفن البصري وحقوله الإبداعية سوى دُكَّان للكسْب السَّريع. القاعِدةُ هي إن لم يكن هذا الربح ماديا فعلى الأقل سيكون ربحاً « فُقاعاتِ" شُهرةٍ كانت بداياتها الاستيراد المشؤوم، منذ نهاية الثمانينيات فيما أحسب، لسلسلاتِ ولمُسلسلاتِ "الفُقَاعَات الصَّابُونية" Soap operas (نسبة للصبون المستعمل في اليومي للأسر وما يرافق ذلك من برامج تلفزية تشبه قنابل الأكريموجين) من البرازيل. إنه الاستيراد الذي انطلق مع التسعينيات وبلغ اليوم مداه مع تمام الاحتلال لشاشاتنا الصغرى بالتأكيد وما تبقى من الكبرى بالنسبية، بل حتى الخاصة والعامة، والفردية والجماعية والأسرية منها بشكل مُوجع. اكتساح ُهذه الاختراقات غير المُعلن يتعاون فيه حتى أخوان أعداء: أولهم المُدعين للاشْتغال على عصرنة الحُقول الفنية البصرية منها والمسموعة، العمومية والخاصة، بمنطق اعتماد « لدراسات الكمية »، وذلك بتغليب التوفر على الإمكانيات المادية في الانتاج، على التوفر على رؤية ونظرة وصيغة إبداعية إلى جانب قيمة كونية تستحق أكثر من الترويج والحماية قبل أو على الأقل بموازاة امتلاك المال. يحدث هذا في عصر نتحدث فيه عن أننا بصدد بناء مجتمع المعرفة والتواصل والمواطنة العالمية. لكن، ألا ننسى ونُنْسِي معنا المُؤيدين والمُساندين لنا والمعوَّلِ عليهم لمَدِّنا بالسُّلطة (سلطة القرار والتقرير) التساؤل عن أي مستوى من الوعي الحضاري المُواطِنِ والمدني لدى المواطن الذي نبني به هذا المجتمع الجديد الحداثي والعقلاني، المواطن الذي سندخل به ومعه مَعْمعة التنافُس العالمي القاسي ثقافيا وتواصليا ودعائيا. يتعلق الأمر بتنافس يعتمد استراتيجية تتأسس جوهريا على « الصورة » الإلكترونية التي بها سنصنع للمواطنين، ليس المواقف والآراء والتصورات، بل سنصنع لهم حتى الصور الذهنية التي ستؤثث وتلون بشكل حاسم قيمة أحلامهم. -ثانيهم أولئك الذين يدّعون الدِّفاع عن المِهني والمِهنيّة، وعن المحترف والاحترافية، ويطالبون بالوسائل التكنولوجية والمالية الكبرى ليبدعوا وليسايروا إيقاع التنمية والتحديث التحت-بنيوي للبلد. يُغْرَقُ هؤلاء، في انتظار رِبْحهم في « اللُّوطو السينمائي »، والضحية هم المغلوبين على وعيهم الشقي من الجماهير العريضة (المنزوعة السلاح النقدي والمعرفة الملائمة) بما يزيد الطين بلة في تفشَّي ليس الرداءة والبؤس الفنّي فقط، بل الأمرُّ والأدهى هو « لزعامة » في ادعاء الإبداع والتعرُّف عليه والقدرة على مقاربته بل ونقده وتحليله، متآزيرين في ذلك، أقصد المُطالبين بالمال والتكنولوجيا، مع ثالث قوة تدميرية وهي تتكون أساسا من الساعين إلى نيل العُلى والنياشين وعلى ماذا؟ على تفكيكهم لآخر قِلاع الجَودة والرِّفعة والتجديد، ليبقى كل مُبدع وكل ناقد وكل مُفكر وكل روائي أو مُلحن أو مُغنٍّ رصين وجدِّي مُستقل عن الضحالة عازفٍ عن جوقة الرِّياء والتشْجيع الباطل والمتبادل، ومنطق تقاسم كعكات بئيسة، ليبقى مَحطَّ تهميشٍ وإقصاءٍ مُمنهجٍ بل وسخرية، في الغالب وراء الظهر، من محققي ملايين « الجيمات »، وطالبي الصُّور البريئة التي تؤؤل نجاحا إبداعيا وما هي إلا باطل يسْتغِلُّ سذاجةً شعبيةً نُسِجت على مدى إفلاس أسرة ومدرسة وتلفزة وسوق فنية وطنية، لم تعد لها معايير واضحة غير التسيُّب والحِساب الكمِّي: هات ثلاثة أو أربعة وخذ البطاقة و »الاعتراف" الإداري. إنه "الاعتراف" الإداري الذي به يتم الإقصاء والضّمُّ. الذين يتماهون مع إحباطات اليومي ب"الجيم والصور" أكثر مما يعون ما يكرسونه من رداءة، إنما يساهمون، عن وعي أو عن غير وعي (والعامة لا تُحاسب بقدر ما يُحاسب من منها تسرَّب لموضع القرار أو من يستغلها عنوة لأغراضَ وضِيعة) هؤلاء يساهمون من جهتهم أيضا في تحطيم ما تبقَّى من قيم الجمال والصِّدق وإنتاج الدَّهشة الرَّفيعة والذوق الصَّافي في العقول. لنُعِد القَوْل للمرة الألف: إذا كان من المعلوم وفي مستويات التعاطي الرصين مع قيم الجمال الكبرى فلسفيا وسوسيولوجيا أنه لا يمكن أن ينفصل الصدق عن التناسق، ولا يمكن التفريق التعسُّفي بين الالتزام بقاضيا الناس بين الصيغة المُدهِشة لتقديم الموقف الملتزم. وإذا كان من المعلوم أنه من العبث المُدمِّر للفن ولقواعده الفصل بين التمَكُّنِ التقني وبين التجديد في التعاطي مع قواعد الحَكي البَصَري، إذا كان من الوضيع والمُتردي القوْلُ بتبنِّي القيم الكونية الإنسانية الرفيعة وتقديم، في نفس الوقت، صيغةً بصريَّةً مُترهِّلة لا تنْطِقُ فيها إنارةٌ بالوجدان، ولا تُداعِب فيها الموسيقى المعاني في غير المَنْطُوق بِه، ولا تهمِسُ تقاسيمُ الوجه بالسَّرِيرة في وَجعِها وفي خفقان الفؤادِ، فإن الخلط والتردي لن يسمحا لا بظهور إبداع ولا بعلة شأن تجديد إلا ما انفلت ولن يكون لا مؤثرا ولا نموذجا إلا بشكل منحسر يأتي عليه المسطح الاعتيادي المتطاول قهرا أو تهميشا. لنا في الهدرة الإبداعية والعلمية والتقنية نماذج.