يتعلق الأمر، في هذا المقام، بتوضيح الفرق بين الإنسان والوظيفة التي يقوم بها الإنسان مؤسساتيا. إذ رغم أن التفكير الدارج ينحو، نظرا لنقص في الضبط والدقة، إلى الخلط بينهما، فإننا سنحاول رسم الحدود الحقوقية والمؤسساتية بينهما. وسنشتغل، زيادة في جدية الموضوع، على حالة الفرق بين السيد بان كي مون الشخص والسيد الأمين العام للأمم المتحدة. يشغل السيد بان كي مون، ومنذ يناير 2007، منصب الأمين العام للأمم المتحدة. ويعرف ميثاق الأممالمتحدة الأمين العام بأنه « الموظف الإداري الأكبر في الهيئة»؛ أي هيئة الأمانة العامة التي تشمل «أميناً عاماً ومن تحتاجهم الهيئة من الموظفين»، حسب المادة 97 من ميثاق الأممالمتحدة. وهذا يعني أن المهمة الموكولة إلى الأمين العام للأمم المتحدة هي التدبير الإداري لقرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن وغيرهما من المؤسسات والبنيات الأممية. وإذا كان أعضاء الجمعية العامة ومجلس الأمن يعبرون عن آراء ومواقف سياسية؛ أي أنهم ينحازون لأحد زوايا النظر ويعمل كل واحد على تسييد وجهة نظره، فإن التدبير الإداري لا يمكن أن يستقيم دون حياد. ويعني الحياد تفعيل دواليب الإدارة لتنفيذ قراراتهما بنفس الكفاءة سواء تعلق الأمر بما يتفق والقناعات السياسية لهيئة الأمانة العامة للأمم المتحدة أو يختلف معها. وبهذا الشكل يستطيع المنتظم الدولي أن يتقدم نحو تحقيق أهداف السلم وتمكين الجميع من جميع الحقوق. فما هي الدلالات الشخصية والمؤسساتية لتصريح الأمين العام للأمم المتحدة السيد با كي مون في الجزائر؟ إذا نظرنا إلى التقارير التي أنجزها السيد الأمين العام حول الصراع في »الصحراء الغربية«، ومنها آخر تقرير لمجلس الأمن، فإن المتتبع لا يجد توصيف «الاحتلال» كنعت للصراع الدائر في شمال غرب إفريقيا. وهذا يعني أن تشخيص السيد بان كي مون لحالة الصراع (بين الأطراف المتعددة والمتنوعة) بأنه احتلال هو انحياز لأطروحة أحد أطراف الصراع، وتعبير عن رأي سياسي. والحال أن مهمة الأمين العام هي تشغيل آليات الإقناع القانونية والإنسانية، عند كل الأطراف، من أجل إيجاد الحلول التي تبدو مستعصية عند الأطراف المعنية والمهتمة، وليس تخندقه مع هذا الطرف أو ذاك أو ذلك! وعلى هذا الأساس، فإن تصريح السيد بان كي مون لا يتناسب مع مهمة الأمين العام للأمم المتحدة. و من باب المسؤولية والمحاسبة، يمكن أن يؤاخذ منطقيا ومؤسساتيا بما يلي: من الناحية المنطقية يعتبر استعمال توصيف الاحتلال «مصادرة على المطلوب Pétition de principe»، حيث يتم افتراض بداهة أو على الأقل صحة ما يجب التدليل والحجاج عليه. أي أن النقاش داخل أروقة الأممالمتحدة يصبو إلى الاتفاق على توصيف متفق عليه حول حالة الوضع في المنطقة هل هي احتلال أم قضية استكمال تحرير. والانحياز الإداري للاحتلال يعني قفزا على الحجة والدليل واعتبار ما هو في حاجة إلى دليل باعتباره تحصيل حاصل. ونحن لا نندهش أمام وقوع بعض «القادة العرب» في هذا المطب، باعتبارهم من مستهلكي ومنتجي نمط من التفكير لا يتقيد دائما بالمنطق السليم. وهذا الأمر تقبله، مع ذلك، البيداعوجية التي تتأسس على الأمل في تحسين المردود الفكري والدقة المفاهيمية. لكن الاشتغال بهذا المنطق في أروقة الأممالمتحدة لا يمكن أن يقبل بأي حال من الأحوال، لأنه عكس روح وميثاق الأممالمتحدة. أما من الناحية المؤسساتية، فإن السيد الأمين العام، بممارسته لتخصص المقررين وبمحاولة تكييف آرائهم السياسية تبعا لتمطيط مهامه الإدارية يكون قد جانب الأسباب التي جعلت من الأممالمتحدة آلة لحفظ السلام وإحقاق الحقوق للجميع. لأن هذا الأمر النبيل يتحقق إلا انطلاقا من قياس التوازن بين مختلف هيئات الأممالمتحدة التقريرية والإدارية والاستشارية. وتفاعلا مع ما وقع، كان من ردود الأفعال في الأممالمتحدة القول بأن السيد بان كي مون عبر عن رأيه الشخصي. وهذا يستدعي الملاحظتين التاليتين: 1 يحق لكل شخص التعبير عن رأيه. فالمادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تقر بوضوح ما يلي: «لكل إنسان حق في اعتناق آراء دون مضايقة. لكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها...». 2 وربما انطلاقا من هذا الاعتبار أتى التكييف الذي يتحدث عن حق السيد بان كي مون في التعبير عن رأيه السياسي، لكن حالة السيد الأمين العام للأمم المتحدة، نظرا لجسامة مسؤولياته، لا تسمح له بذلك، لأنه لا يمكن اعتباره إلا متحدثا بما تمليه عليه قرارت ولوائح الأممالمتحدة. 3 وقد يقول قائل: ولكن السيد بان كي مون إنسان ومن حقه التعبير عن رأيه الشخصي باعتباره كذلك! وهنا أيضا لا يحق للسيد بان كيمون الإنسان أن يعبر عن رأيه الشخصي وهو يقوم بمهامه الرسمية. إذ أن زيارته للجزائر جاءت بصفته المهنية وليست بصفته الشخصية؛ 4 وحتى في حالة زيارته الشخصية (غير المهنية)، فإن تعبيره عن رأيه الشخصي (المنحاز) يخالف مبدأ التحفظ الذي تفرضه عليه مهنته، لأنه سيخلق بذلك التوجس عند طرف بانحيازه لأحد الأطراف، مما سيعيق مساعيه المتمثلة في « الاضطلاع بدور “الحكم” في النزاعات بين الدول الأعضاء»! إن الموضوع، إذن، يتعلق بفرق واضح وجلي، في الممارسات الديمقراطية، بين الحياة الشخصية والمهام الوظيفية، سواء تعلق الأمر بموظف أو مدير أو وزير أو رئيس دولة. بحيث يعتبر التمييز بينهما أحد دعامات وضمانات اشتغال الديمقراطية. في حين أن الممارسات التحكمية تسمح باستعمال الوظيفة (باعتبارها امتيازا دون حق) من أجل تحقيق المصالح الشخصية. إن الأمر بالنسبة لنا لا يتعلق بتقريرات des affirmations بقدر ما يتعلق بفتح مسالك للتفكير الحقوقي في أفضل الطرق والمنهجيات لتحقيق السلام وإحقاق الحقوق للجميع. *فاعل مدني