في كل مدينة وقفة.. في كل شارع وقفة.. في كل زقاق وقفة.. وفي كل جمعة وقفة.. صحيح أن هناك وقفات جادة وذات مطالب محددة، ولكن الكثير منها تحول إلى مجرد "موضة"، ويصدق عليها قول الشاعر: "كلٌّ يدّعي وَصْلا بليلى... وليلى لا تُقرّ لهم بذاكَ" هذا الوصف ينطبق بقوة على المشهد الإعلامي المغربي، الذي خرج في الآونة الأخيرة بنكتة مضحكة جديدة، لا تتعلق بشبكة البرامج هذه المرة، ولكن ببعض مكاتبه النقابية القطاعية في القناتين الأولى والثانية التي ارتأت، بدورها، الركوب على "حركة 20 فبراير"، في مشهد أقل ما يمكن القول عنه إنه مثير للضجر والضحك في نفس الآن. فأين كان مكتب نقابة مستخدمي "دوزيم" طيلة فترة المدير العام الحالي، قبل انطلاق شرارة الحراك الشبابي المبارك الذي يعرفه المغرب حاليا؟ ففي الوقت الذي أغرقتنا هذه القناة ببرامج الترفيه والتسلية والمسلسلات المكسيكية والتركية وسهرات العلب الليلية، كان المكتب المشار إليه في "دار غفلون" أو ربما في دار أخرى لا يعرفها إلا هو... جعلت مسؤوله الأول صرح لأسبوعية "المشعل" قائلا: "دوزيم.. فرصة جميلة للمغاربة" !!؟، وجاء هذا التصريح مباشرة بعد اجتماع وصف ب"التاريخي والإيجابي" مع إدارة سليم الشيخ، وبشر فيه النقابيون زملاءهم بزيادة مرتقبة، اعتبرتها بعض الصحف "مجرد ذر للرماد في العيون". وطيلة هذا المسار في العلاقة "الغرامية" مع الإدارة العامة، كان قياديو المكتب النقابي يتجاهلون محتوى شبكة البرامج "الدوزيمية" وتهميش الكفاءات الحقيقية في القناة، والاعتماد المشبوه على شركات للإنتاج بعينها دون غيرها... إلى أن حاولوا الإيهام بالانخراط في المطالبة بالإصلاحات، بعد أن بادرت بعض الهيئات المدنية والحقوقية والثقافية إلى التنديد بالمرتبة المتدنية التي وصلت إليها القناة الثانية، عقب تضاعف فورة احتجاجات الشارع المغربي. والمثير للشفقة أنه، عوض أن تعمل المكاتب النقابية الموجودة في الإعلام السمعي البصري العمومي على انتزاع مكاسب اجتماعية ومادية هامة للعاملين في القطاع والنضال من أجل توفير ظروف ملائمة وجيدة للممارسة الإعلامية، نلاحظ أنها حشرت أنفها في قضايا أكبر منها، تعدّ من اختصاص هيئات وطنية، سياسية ونقابية وحقوقية وثقافية؛ والحال أن تلك المكاتب هي تنظيمات قطاعية تمثل عاملين معظمهم تقنيون وإداريون، حيث يلاحظ في وقفاتها المتكررة كل جمعة، غياب شبه التام للصحافيين المعنيين بالأساس بقضايا الخط التحريري ودمقرطة المرفق العمومي وطبيعة المحتوى المقدم ومدى استجابته لدفتر التحملات الذي يربط المؤسسات الإعلامية العمومية بالدولة. "وشهد شاهد من أهلها" حينما تبرأ صحافي كان يتعاطف مع المكتب النقابي العمالي في "دوزيم" من الأسلوب الذي تبناه المكتب في الآونة الأخيرة، حيث وصفه في رسالة مفتوحة موجهة إلى الرأي العام الإعلامي بأنه يبتعد عن الأهداف المطلوبة من هيئة نقابية قطاعية، ويحاول الركوب على مطالب الشارع المغربي، خدمة لأجندة أحزاب سياسية يوجد بعض أعضائها في هذا المكتب. وقد ابتدعت تلك المكاتب النقابية أسلوبا غريبا وغير معهود في العمل النضالي، نبه إليه الصحافي الملمح إليه آنفا، يتمثل في ما يلي: "أنظم وقفة احتجاجية أطالب فيها برحيل العرايشي مثلا . ومباشرة بعد الوقفة أستجدي لقاء معه من أجل الحوار". يا لغرابة الموقف! فمن يريد الحوار فعلا.. لا ينظم وقفة اعتباطية، يركز فيها على الأشخاص، دون أن يتقدم باقتراحات موضوعية وملموسة لتطوير أداء المرفق الإعلامي العمومي، مع العلم أن الأخبار التي تتداولها الصحف هذه الأيام تفيد أن رئيس القطب العمومي بادر إلى عقد سلسلة اجتماعات وجلسات حوار مع المهنيين وكذا ممثلي النقابات والهيئات الثقافية والإعلامية الفاعلة؛ مما يجعل برأي بعض المتتبعين أن مسألة الوقفات أمام القناتين الأولى والثانية فعلا متجاوزا في هذه المرحلة. من يريد الإصلاح والنضال حقا، فليبحث عن بعض الملفات المسكوت عنها داخل القناة الثانية، فماذا يقول مكتب نقابة المستخدمين عن ملف الموظفين الأشباح في هذه المؤسسة التي يعرف عنه أعضاء هذا المكتب الشيء الكثير دون النبس ببنت شفة في الموضوع؟ ماذا يقول هؤلاء عن مثال صارخ للأشباح الدوزيمية، وهو ابن قيادي بارز في حزب "تقدمي" مشارك في الحكومة، يعرفه الجميع بحمله صفة صحافي، دون القيام بأي عمل صحفي ملموس داخل القناة أو حتى تكليف نفسه عناء الحضور، من شهر لآخر أو حتى من سنة لأخرى، لارتشاف فنجان قهوة بالبناية الزجاجية لعين السبع. ماذا يقول هذا المكتب عن أحد أعضائه الذي أهان زملاءه ببوابة الحزب الاشتراكي الموحد في الدارالبيضاء، وحرّض مجموعة من شباب 20 فبراير الأبيّ ضدهم ناعتا إياهم بأنهم يمثلون التلفزيون المخزني؟ محاولا استغلال الحركة الشبابية المغربية الميمونة، أولا لتلميع صورته خارجيا، وثانيا للتغطية على وضعه المهني الهش داخليا، والحري به إذا كان صادقا فيما يقول ومؤمنا به أن يقدم استقالته من هذه المؤسسة التي وصفها بالمخزنية، وأن يرفض استلام الأجر الشهري الكبير الذي لا تحلم بربعه فئات عديدة من الشباب المعطل حاملي الشهادات العليا، ممن تنزل عليهم هراوات المخزن أمام البرلمان! إن النقابات والأحزاب والهيئات السياسية والحقوقية والثقافية الجادة وحتى التنظيمات القطاعية الصغرى إذا بقيت فيها ذرة من الوطنية مطالبة اليوم بتطهير بيتها الداخلي من كل الوصوليين الذين يريدون الركوب على الحراك الشبابي والمجتمعي الموجود حاليا، وتطهير نفسها من كل الذين يعتبرون هذه الهيئات مطية لتكريس ثقافة الريع السياسي والاقتصادي والإعلامي خدمة لمصالحهم ونزواتهم الشخصية. فالأجدر بها، وبنا نحن كمغاربة، أن نكون في مستوى مرحلة ما بعد التعديل الدستوري الموعود، لأن المشكلة الكبرى التي ستُعيق تفعيل مقتضيات التغيير تكمن في مدى قدرة الهيئات الوطنية الكبرى بمختلف أطيافها، على التخلي عن منطقها الانتهازي القديم بالكف عن التعامل مع قضايانا اليومية والمصيرية بأسلوب يغلب المصلحة الشخصية على الصالح العام لأبناء هذا الوطن من المقهورين والمهمشين والباحثين عن العيش الكريم. وصدق الله العظيم إذ قال: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". *فاعل جمعوي وناقد إعلامي