مر العالم أجمع، في الآونة الأخيرة، بتحولات خطيرة، بعد أن عقدت الألفية الثانية تمامها، وشرعت البشرية زمنيا في ألفية ثالثة، على المستوى الاقتصادي، وعلى صعيد جميع المستويات الأخرى التابعة له، ذلك أنه بعد انتهاء الثنائية القطبية، وبروز القطب الواحد الذي يتحكم في العالم على الأقل في التوجه ، تم فرض هيمنة اقتصادية لنموذج الرأسمالية المتوحشة . وهنا نذكر، أنه إذا كان الإنسان الأوروبي قد ثار ضد الإقطاع، بغية تحرير العبيد، فما ذلك إلا بغية أن ينتقل بهذا الإنسان من إقطاع الفلاحة إلى أقطاع الصناعة، ويبدو هذا الإقطاع جليا واضحا بعد أن أخذت الرأسمالية زمام الاقتصاد، وجعلت من نفسها المذهب الأكثر استيلاء في العالم، إلا أن هذا الإقطاع يبدو في أسوأ صوره، وأوحش مظاهره، في عالمنا العربي والإسلامي. وإذا كان الرأسمالية لا تنتظر في فرض هيمنتها، على المجتمعات، لا تنتظر منها أن تهيأ نفسها لاستقبالها أو رفض، بل تسرع إسراعا، وتستبق الخطوات، فإن من الممكن القول إن ما يقع في المغرب يأتي في هذا السياق، ذلك أن جل القطاعات في المغرب غير مهيكلة، وليس لها تنظيم أو قانون تنظيمي واضح المعالم، ومن هنا تجد الرأسمالية المتوحشة، التي تستهدف الربح ، وتضخيم رأس، وما يسمى بحرية الملكية الفردية، تجد الأرض خصبة للإنبات والإنتاج. إن البنك الدولي، والمنظمة العالمية للتجارة، وصندوق النقد الدولي، وغيرها من المنظمات الاقتصادية الدولية، كلها وبدون استثناء صنعت لخدمة هذه الرأسمالية المتوحشة، ولتسير في هذا التوجع العام الذي سار عليه العالم. ما علاقة هذا بالمرسومين المشؤومين؟ إن ما أصدرته الحكومة المغربية، مما كثر الحديث عنه هذه الأيام، وهو حديث الساعة بامتياز، مما يتعلق بقضية التعليم، يدخل ضمن هذا الإطار، ذلك أن الحكومة المغربية ارتأت أن القطاع التعليم غير منتج، بمعنى أو بأخر لا يستجيب لمتطلبات التوجه الرأسمالي ، أي بصيغة أخرى، لا يدر أرباحا لا على الدولة، ولا على رجال الأعمال الذي لهم الكلمة الأولى في هذه الدولة. ومن هنا سارعت الحكومة إلى إصدار قرارات تخدم من قريب أو بعيد هذا التوجه، والباب الموصل إلى هذه النتيجة هو خصخصة القطاع، فقطاع التعليم في نظر الحكومة ينهك ظهر، وينسف جيبها بكثير من المصاريف التي لا تدر دخلا مرضيا، بل التعليم عالة على الدولة، ينتظر صنبورها متى يجود بتلك القطرات الشحيحة التي تمنحها له من حين لآخر، بعد عناء واستعصاء. إن قرار الحكومة المتمثل في إصدار مرسومين ، يفصل أحدهما التكوين عن التوظيف، والآخر يحكم بتقليص المنحة إلى أقل من النصف، ما هو إلا انحدار بالتعليم من القطاع العام إلى القطاع الخاص، وكل هذا على ما يبدو استجابة لمضايقات صندوق النقد الدولي، إذ الملاحظ أن الدول التي في المنطقة، جميعها تقترح على شعوبها مثل هاته القرارات، مما يعني أن الدافع لهذا الأمر دافع واحد، ومنبع الإشكال منبع واحد لا غير. إن فصل التكوين عن التوظيف، يعني في المستقبل القريب، كثرة حاملي شهادات التأهيل التربوي، وبهذه الشهادة يتأهل حاملها لتولية مهنة التدريس، وحيث إن حاملي الشهادات في المغرب بالألوف ، في انتظار الوصول إلى الملايين، فإنه سيسهل على الوزارة جدا أن تجد حلا مناسبا لقطاعها، يتم بمقتضاه إمضاء عقدة عمل ، تهضم فيها جميع حقوق العمال، وحيث إن العرض سيكون طبعا يفوق الطلب، فإنها ستتفنن إذ ذاك في إذلال هذه الفئة، والتغلب على حقوقها، وهضمها. إن التكوين الأساس يتلقاه الطلب في مرحلة الجامعة، فولوجه المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، بموجب قانون استحداثها سنة 2011، يكون بعد نيله لشهادة الإجازة العادية أو التربوية أو ما يعادلها، حسب التخصص الذي يختار الترشح له، بمعنى أن التكوين العلمي/ النظري، قد تلقاه من قبل ولوجه للمركز، وما على المركز إلا أن يؤهله للولوج للمهنة، فهو تكوين تأهيلي لتولي مهنة التدريس، ومن هنا فإن المنطق يقتضي أن تكون الوظيفة وهي وظيفة محددة التي يتأهل لها، في انتظاره ، وتنتظر انتهاء تكوينه وفقط. إن القطاع الخصوصي في مجال التعليم في المغرب، يعاني من عدة إشكالات، لن أخوض في تفاصيلها، وأقتصر على ما يتصل بقضيتنا بسبب ، هو التوظيف بالقطاع الخاص، إذ لا وجود لقانون أو مذكرة ملزمة لمالكي هذا القطاع بشيء، وكل ما يمكن وصف المدرسة الخصوصية به، هو أن هذه المدرسة مثل مصنع أو غيره من المشاريع، يقوم صاحبها باستغلالها من أجل الربح، بكل الوسائل والطرق والمسالك التي يرى أنها توصله لهذا الهدف، ضاربا بحقوق الإنسان، وما يتطلبه التعليم من دربة وحنكة وخبرة في المجال عرض الحائط. ومن هنا، إذا كانت الدولة ، حقا ، تريد توجيه الفائض 3000 مؤهل للقطاع الخاص، لم لا تؤهل أولا لهم ظروف العمل في هذا القطاع، ولو افترضنا أن هؤلاء بعد تأهيلهم وأخذهم لشهاداتهم، فهل ستقبلهم المؤسسات المنضوية تحت القطاع الخاص؟ على ما يبدو أن الأمر ليس كذلك، والدليل هو أن الحكومة كانت قد شرعت في برنامج قبل هذا، هو تكوين 10000 إطار، من أجل توجيههم إلى القطاع الخاص، وقد حاول كثير من هؤلاء العمل في القطاع الخاص فلم ينتبه إليهم، (كاتب هذه السطور أودع ملفاته لدى أكثر من 5 مدارس خاصة طلبا للعمل، فلم تتصل به واحدة منهن ، وكثير من الزملاء والزميلات يعانون الشيء نفسه) ولا أدل على ذلك من الوقفات الاحتجاجية التي يقوم بها حاملو الإجازات المهنية لتكوين 10000 إطار. أضف إلى هذا، أن أغلب المدارس الخصوصية، حين تلج إليها طالبا للعمل، إن قبلتك المدرسة، فإنها تقبل بك على شرط أكيد، وهو أن لا تشرع في العمل إلا بعد خضوعك لتدريب، يصل أحيانا إلى سنة كاملة، وفي أحسن الأحول، يصل إلى شهرين، دون أن تتقاضى على ذلك ولو سنتيما واحدا، وبعدها يخاطبك المدير قائلا (نعملوا اجتماع أولدي ونردوا عليك ... ) فتنتظر بعد ذلك ، وربما يكون الرد هو الرفض، فتخرج ويدك على قلبك . أو يكون الرد هو القبول ، بثمن زهيد، لأنك أستاذ جديد، تحتاج إلى دربة وخبرة، فإن أبنت عن "حنة يديك" يمكنه الزيادة في الأجر، وإن لا، فانت هناك لا تتحرك، لكن آباء التلاميذ حين يأتون إليه راغبين في التسجيل، فإنه لن يخبرهم أن أبناءهم سيدرسون عند أستاذ جديد، يخاطبهم على أنه قد أعد لهم أساتذة من الطارز الرفيع، تكوينا وتعليما ... لو كان للحكومة القدرة على هيكلة القطاع الخاص، وأن تلزمه بمعاملة أستاذته باعتبارهم أساتذة حاملين للقيم النبيلة التي يبثونها أبناء الشعب، وأنه يجب احترامهم وأنزالهم منازلهم، وإعطاءهم المقام الذي يستحقونه، لو كان ذلك كذلك لما وجدت الرفض واصلا إلى هذا الحد. لو كانت الحكومة حقا، تريد التكوين في هذا القطاع من أجل رفع جودة التكوين، لما وجدت القطاع الخاص يعاني من هذه المزاجية والريع الذي يعاني منه، وإننا هنا لا نقول إن أبناء القطاع الخاص ليسو أهلا لأساتذة مكونين لهم الأهبة الكاملة، والتأهل التام لتولية المهمة ... حاشا وكلا ومعاذ الله، ولكن، نقولها كلمة واحدة : إذا كان التعليم الخاص، استثمار، من أصاحب مؤسسات/شركات، في قطاع تهيئه الدولة لهم، فيكفيهم، وليقوموا بتكوين أطرهم، ولتكن هناك مؤسسات خاصة بشراكة مع الوزارة، أو يكيفية أخرى لتأهيل أطر القطاع الخاص بنفس المواصفات التي تؤهل بها أطر الدولة أو أفضل. أو، لتقم الدولة أولا بتأهيل هذا القطاع أولا، وتأهيل الظروف الملائمة، ثم تكوين الأطر التي ترسلها إليه، حتى إذا جئت طارقا باب مدرسة خاصة، حاملا معي شهادة التأهيل المهني، أجدها مفتوحة، ومرحبا بي داخلها، ولي حقوق أستوفيها، مقابل واجبات أقدمها. إن النضال ضد المرسومين الذين أصدرتهما الحكومة ، يأتي في سياق هذا وصفه، ومن أناس واعون كل الوعي بهذه الإشكاليات والمخاطر التي يعاني منها القطاع، ومن هنا فإني أهيب بكل الغيورين على القطاع، والذي لهم حرقة ووعي بما يمكن أن يصير إليه، أهيب بهم أن يخرجوا عن الصمت الذي طالهم لمدة سنين، وأن يكون هناك نقاش حقيقي حول التعليم ومستقبله في المغرب. إن التعليم الذي هو الضامن الأول للاستقرار، والضامن الأول للتقدم والتحضر، والضامن الأول للحفاظ على الوحدة ، ولا هو مستقر، ولا هو متقدم، ولا هو في مقام يجعلنا نفتخر به,، والحديث عن الجودة فيه هو حديث لحد الآن خارج عن السياق، هو حديث عن القشور، ونحن لا نبتغي حل القشور. إن نضال الأساتذة المتدربين، كان فرصة، وما يزال، سانحة من أجل إعادة النقاش، في جملة من القرارات التي اتخذتها الدولة، والتي أعلنت أعلى سلطة في البلاد فشلها، وربما حسب ما يبدو ما زالت ستعلن فشلها مرة أخرى، استنادا إلى أننا لم نر هناك بدائل حقيقية من أجل الإصلاح. وختما، أقول لإخواني الأساتذة المتدربين، إنكم أبنتم عن نضالكم، وثباتكم، ووعيكم، وتقدمكم حتى على حكومتكم، ومهارتكم التي أبهرت العالم، وهذا التعليم رهين بكم، فلو تحقق مطلبنا، فإن هناك مطالب أخرى تنتظر وصولنا، لنعلنها قولا واحدا ، أن نضالنا لإسقاط المرسومين أولا، وللنهوض بالتعليم أولا، ولنضع بصمة خاصة لهذا التعليم، الذي نرى أنه في انحدار دائم. *أستاذ متدرب - مركز طنجة