إن أي مقاربة مفاهيمية للنظرية السياسية تضعنا أمام سياقات توظيفية ومنهجية للاشتقاق أو الإيتمولوجيا، حيث اقتران السياسة أو الحكم بالسياسة بمفهوم الدولة أو المدينة، وهو ما يؤكد انسجام العلاقة القائمة في الحالة المذكورة مع بنية المجتمع المدني المنظم على أساسات متينة تقوم على أنساق المدنية والتساكن والمواطنة والوظيفة. بخلاف مفهوم شيخ القبيلة أو رئيسها،حيث يستند في حكمه على النفوذ الشخصي الاجتماعي أو الديني أو على عامل السن، إلى الحكم عن طريق السلطة السياسية القائمة على الإكراه والقسر وعلاقة حاكمين بمحكومين. هذه الجدلية الكامنة في منظومة الأجهزة المفاهيمية للسياسة ونظرياتها وحقولها الإبستمولوجية تكتسي أبعادا عميقة الدلالات، انطلاقا من المرجعيات والحمولات التاريخية والثقافية والأيديولوجية. حيث يشيح أغلبها إلى المغايرة وعدم وحدة المصير المفهومي، وبالتالي عدم فعالية الاستئثار بالحيز المفرد للدال الواحد. من ثمة لامجال لطرح علاقات مفهوم النظرية السياسية تحت أي تشكل هوياتي، طائفي، عشائري، قبائلي، دون تعيين حدود للتوافقات حول المدلولات المتعين رصدها عبر قطائع وتمظهرات الفعل السياسي وجذوره المعرفية. وهنا يمكن الولوج بالتدريج لتوارد صفة الحكم بالسياسة التي قال عنها ابن خلدون : "إن الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض، فلابد أن يكون متغلباً عليهم وإلا لا تتم قدرته وهذا التغلب هو الملك وهو أمر زائد على الرئاسة لأن الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع، وليس عليهم قهر في أحكامه وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر". فهي إذن نظرية سياسية مقيدة بقيد القوة والقهر والاستحواذ. مع ما يطوقها من مرجعيات فكرية وعقائدية ومذهبية. كما أن تلمس هذه الحتمية وفهمها يمر من قول شهير ينسب ل "جوليان فروند" حيث يقول: إن السياسة تشبه "كيس سفر يحتوي ما تنوع من الأشياء..فيه ما شئت من الصراع، والحيلة، والقوة، والتفاوض والعنف والإرهاب، والتخريب والحرب والقانون". إن انتشار السياسة بين المذهبية والطائفية في اتساق مع الصراعات الإيديولوجية والدينية والاتجاهات الفلسفية والكلامية، هو حصيلة لاتساع الهوة بين النظام واللانظام، بين القدرة على فهم السياسة ك"فن إدارة المجتمعات الإنسانية" وتدبيرها إلى "ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد". ومع اتساع الهوة بين المفهومين الشاذين عن الحاجة إلى علم للسياسة يتماثل وجوهر مدركاته المعرفية والعلمية، تصطرع أفكار الجانبين، على طول خط الصعود والهبوط، بين فاعل في قوته، يقوم على العلم ولا يتسامى في ظله. وبين مفعول به في قوته، يرتدع تحت سلطة الولاية وغلبتها. وبينما تسلك المذهبية الدينية والتعصب المذهبي كل مقاصد الترويع السياسي والتقويض لكل أساليب النظرية السياسية أعلاه، تستعذب دول الاصطفاف والحشر إسرافها في مجابهة الخصم، انطلاقا من تدافع براغماتي سياسوي يهدر الجهد في محاصرة الأفكار والتضييق عليها وإعدامها. مع ما يحتمل تشكل العداء القاعدي للتوجيهات والامتثال لغلبة المال ونفوذ سلط البيع والشراء في الذمم، مع تغليب فتنة البروباجندا وتمجيدها على حساب العمق الحضاري والجوار الجغرافي والمبادئ السامية الكونية لحقوق الإنسان واستقلال الدول وقراراتها الداخلية. إن حالات هيستيرية مروعة لكل قيم وأخلاق السياسة، تذهب كل مذهب لتمزيق عرى التواصل بين مكونات الثقافات وتعددها، يهدد السلوك المدني السليم، ويساهم في تعتيم أدوار الحوار والتفاوض السلمي، بين من يفترض بهم تمثيل شعوب العالم الإسلامي وحضارته العريقة. فالذي وقع بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمملكة العربية السعودية لايستوي على نظر كامل بوعي وسلوك منظمين. كلا الأسلوبين المتبعين في تدبير شؤون العلاقات الثنائية لا تستسيغه العقول الراجحة. من جهة رفض كل واحد من الطرفين الابتعاد عن كل ما يعكر الصفو أولا ، وثانيا لوجود استبداد بين الخصمين يرفع من وثيرة الصراع بسبب التعنت والرفض، على أساس المذهبية الطائفية الممزقة إلى"شيعة وسنة". من ثمة يمكن الحديث عن استمرار تدهور صياغات ما يسمى بالإسلام السياسي اليوم. حيث يغلب تحويل الإسقاطات الدينية عن راهنية التحول الحديث لأنماط الحكم وطرق تصريفه وعمليات نقله بآليات اجتهادية محذورة ومنتقاة. فهل تحصد المجتمعات ما تزرعه التيارات والاتجاهات السياسية من تطرف وعنف وطائفية، في غياب أسس بيداغوجية سياسية متحققة على إواليات ومرجعيات علمية دقيقة، تعمل على إنصاف الخاصية الدينية أو الإيديولوجية للمجتمعات المعتنقة أو المؤمنة بها. وتترك الحقوق المشروعة للتفكير والانتماء مجالا مفتوحا على سمو المبادئ وضرورة الحفاظ عليها؟. إن إنصاف الأقليات الدينية والعرقية في البلدان التي تتجاور على أساس مذهبي أو طائفي يجب أن يخضع لسلطة التقرير الأممي الذي يقوم على " حق كل فرد في حرية الفكر والوجدان والدين أو المعتقد، بما يشمل حريته في أن يكون أو لا يكون له دين أو معتقد أو في أن يعتنق دينا أو معتقدا يختاره بنفسه، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعليم والممارسة والتعبد وإقامة الشعائر، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة، بما في ذلك حقه في تغيير دينه أو معتقده". * باحث وإعلامي من مراكش [email protected]