في هذا الجزء الثاني من الحوار الذي أجريناه مع عالم المستقبليات الرحل المهدي المنجرة، يتحدث عن علاقاته الثقافية بالمفكر الفرنسي أندري مالرو، وقصته مع "ملايين" محمد كريم العمراني، المدير السابق للمكتب الشريف للفوسفاط، فضلا عن رأيه بشأن تولي المسؤولين للمناصب، وكيف تغيرهم وتدفع بهم نحو الابتعاد عن الحقيقة. لو عدنا إلى البعد الثقافي في حياتك.. وقد أشرت من قبل إلى اقتراح "أندريه مالرو" الخاص بالفنون والآداب.. المناسبة كانت تهم الهندسة المعمارية، وتتلخص في تعيين لجنة تحكيم لمشروع كبير يخص "قوس النصر" بفرنسا. وقد عينت بصفة شخصية من لدن الاتحاد العالمي للمهندسين المعماريين، الذي سمّاني مهندسا معماريا شرفيا وحيدا. وطلب مني "مالرو" والجماعة أن أكون عضوا في لجنة التحكيم تلك، وساهمت فيها كنائب للرئيس. وشاركت في عدد من لجان التحكيم، ومنها لجنة المركز الإسلامي للتحكيم بمدريد، وعملت مع الأغا خان..الهندسة المعمارية جانب مهم أهتم وأعنى به؛ وأنا مرتاح لأن لي ابنة تدَرّسها. أي إنك أفلحت في نقل هذا الحب إلى ابنتك، ولم يذهب سدى. بصفة غير مباشرة.. حين يصيب ابنك مس أو ميل قوي نحو اهتمام معين فلا تتدخل .. هي تخرجت من مدرسة المهندسين بالرباط.. هل جمعتك علاقة بأندريه مالرو؟ العلاقة التي كانت لي مع أندريه مالرو تكمن في أنه تفهم مشروعا أسميته (les politiques culturelles) "السياسات الثقافية"، وبدأته لما كنت في اليونسكو، لتكون لكل دولة سياسة ثقافية، وقد لامسنا في حديثنا جوانب من ذلك؛ ومعناه أن الدولة لا يجب أن تتحكم وتفرض على الناس موسيقى معينة، بل إن الحكومة وهي تحدد ميزانيتها يجب عليها أن تحدد في الآن ذاته حجم الدعم الذي ستمنحه للمعهد الموسيقي، ثم تحدد مناهج التدريس.. الأمر الثاني، وقد لا يعرف كثير من الناس ذلك، هو أن نسبة من الدعم المادي تمنح لبنايات الدولة لتشجيع الفن (واحد في المائة التي نادى بها مالرو). فعندما تبنى عمارة جديدة للدولة يجب أن يقدم قسط مالي لشراء لوحات فنية مثلا. لما دخلت المغرب وجدت نفسي أمام كريم العمراني، فقلت له وهو رفقة أجانب: "دفعتم خمسة ملايير تقريبا لبناء إدارة الفوسفاط، يجب تشجيع الثقافة أيضا"، وعلى الساعة الثالثة مساء توصلت بشيك قيمته مليون درهم. أعدت الشيك إلى كريم العمراني، وشكرته على ذلك عبر رسالة قلت له فيها: "إني أشكرك.. لن احتفظ بهذا القدر المالي، بل يجب أن تسمي لجنة من إدارتك لتشتري اللوحات المغربية مثلا، بما يسمح به ذلك المليون". ولذلك كان من أوائل متاحف الفن العصري بالمغرب ذلك الذي بحوزة المكتب الشريف للفوسفاط، وتبعته إدارات أخرى، منها البنك المغربي للتجارة الخارجية.. وهذه الممارسة ضرب من السياسات الثقافية لتشجيع الفن بطريقة مباشرة، حتى لا يتم اللجوء إلى شحذ المال.. من هنا ربما برز البعد السياسي للثقافة.. أفكر في المختار أمبو.. البعد السياسي فيه أنواع، هناك البعد السياسي الانتهازي، ويقوم على حسابات، وهناك بعد سياسي يركز على الثقافة، ودعمها وتشجيعها، لأهميتها في رفع الوعي العام؛ ولذلك لم يسبق لي أن قبلت أن أكون مرشحا لمنصب المدير العام لمنظمة اليونسكو. وقد اتصل بي الإبراهيمي، وزير الخارجية الجزائري يومها، خلال انعقاد مؤتمر وزراء خارجية الدول غير المنحازة بالجزائر، وأوقفني بدرج البناية وقال لي: "المهدي، يجب أن تكون المرشح، فالكل متفق على ترشيحك"، فقلت له: "لا". لم أقبل، بعدما رأيت ما حدث لشخصيات على جانب كبير من الأهمية، كنت أقدرها تقديرا، وكيف أصبحت لما احتلت ذلك المنصب. أتحدث عن المدير الأول والثاني. وما أقوله لا علاقة له بالمختار أمبو، فالقضية ليست قضية أشخاص، بل قضية المناصب التي تُغير صاحبها، حتى إن المجهود الذي تقدمه يصبح نصفه يخدم محاولة ضمان بقائك في المنصب لفترة أو ولاية ثانية.. تصبح العلاقات العامة هي أساس عملك، وتسعى إلى أن تكون على ما يرام، فتربط علاقات مع السفارات، ومع الوزراء الذين يزورونك وتلتقي بهم، وتسعى إلى أن تبقي الجميع مرتاحا، وبذلك تبتعد تدريجيا عن العمل الحقيقي الذي من أجله جئت إلى المنصب، وتبرر ذلك بالقول إني لم أبتعد، وإنني أخدم رؤية المنظمة؛ لكنك تبتعد عن التفكير في خطة أو خطط لرفع مستوى المنظمة التي أنت مسؤول عنها، وعليك أن تطور عملها..وكل الذين تعرفت عليهم في حياتي، والذين رأيتهم في المناصب العليا لا أعرف من بينهم استثناء. رأيت هذه الأمور وعشتها سياسيا لما عدت إلى المغرب، إذ رأيت ما حدث للحركة الوطنية من صراعات داخلية دامية، وحتى داخل العمل الحزبي المغربي. وقد يقال هذا نوع من التخويف، إذ سمى مسؤول وطني كبير كوني لم أنخرط في حزب "خيانة".. أنا لا أقوم بهذا العمل؛ والسبب أن السياسة تدفع بك نحو الدفاع عن المصلحة، وعن الخطأ، وبذلك تبتعد عن الحق والحقيقة..وفي الحقيقة، ففي لحظة ما، هناك أشياء تغالبك، تنجر نحوها وإليها، وبالنسبة لي فالخلق والإبداع هو ما يغلبني، وإليه تنصرف جهودي. أستيقظ على الثالثة صباحا، وأبدأ الكتابة، وحين ألاحظ أنني أخطأت في تحديد سنة المرجع، أبقى مستيقظ الحواس حتى أصحح خطئي..لا أستطيع أن أصف لك المتعة التي أشعر بها وأنا أكتب كلمات العرض.. هي متعة شخصية لا توصف. أقسم لك أني أجد في ذلك متعة، وفي هذا العمل مردودية. والمردودية يمكن أن تلمسها حين تحضر أي محاضرة لي في أي جهة من المغرب. لدي مقياس لمعرفة مدى التجاوب. أقول لبعض الأصدقاء، حين يحدث أن أدخل قاعة وألاحظ أن طالبا أو طالبة يغض الطرف عني، أو يبتعد عني، أو يقول لي بالأمس قدمت عرضا وقلت كذا وكذا، أو يوم كذا استمعنا لك في موضوع كذا وقلت كذا.. بمعنى أني ألام على موقف..والله العظيم إنه موقف أو شعور يؤدي بالإنسان إلى قتل نفسه؛ لأن الاحترام هو الرصيد الوحيد الذي أملكه، والذي ظللتَ أبنيه طيلة حياتي، ويجب أن أحرص عليه وأفتخر به.. وهو احترام اكتسبته أولا من خلال مصداقية علمية ثم تواصلية مع الناس. يجب أن تبقى على استعداد أن يبقى بابك مفتوحا في وجه الجميع، فمنذ بدأت العمل في الإذاعة كان باب مكتبي مفتوحا..من يأتي يدخل دون بروتكول.. ومن يكتب إلي أجيبه، ويصلني تقريبا ثمانون إلى مائة "إيمايل" يوميا، وأجيب الجميع قبل النوم. أعتبر ذلك واجبا كأوقات الصلاة التي سميت لنا..فالتواصل هو جوهر زمن التواصل هذا، وإذا لم تعط قيمة للآخر لا حق لك في أن تطلب منه أن يمنحك قيمتك.. النخبة تعيش أزمة، وهي في الحقيقة ليست نخبة إذا اعتمدنا المقاييس الدقيقة؛ ذلك أنك لو امتحنتها لأيقنت أنها تعاني من ضعف، ولكنها تعتبر نفسها نخبة. وحين تعتبر نفسك نخبة فأنت تضيع مصداقيتك مع نفسك أولا، ثم لا تجد نفسك تقدم للبلد مصلحة، أو تلعب في حياته دورا إيجابيا، أو تقدم له عملا نافعا. ثم إن هذا المشكل ليس مغربيا فقط، بل له تجليات أكبر في الجزائر، وكذلك الأمر في تونس. وما لم أستطع فهمه هو كيف يمتد الأمر منذ زمن الرومان، إذ كانت فئة (les scribes)، وهم نُسّاخ الديوان، أصحاب المخزن، أصحاب القلم..لم أفهم كيف أن من يعتبر نفسه مثقفا تنقلب مفاهيمه وتتغير أفكاره. في عصرنا هذا، هناك تحرر حقيقي، وهو تحرر الإنسان مع نفسه، ولكن النظام الدولي أبدع ضغوطا على عدة مستويات لا تسمح لك بالاستفادة من ذلك التحرر.. هذا النظام هو الذي يتبعك ويغيرك.. أنت الذي صعدت إليه لتغيره فغيرك..