تندلع عند بداية كل موسم فلاحي نزاعات حول الحدود والأملاك العقارية في العالم القروي، لتتطور من نزاعات فردية آخذة طابعا قبليا يكتسي أحيانا الحدة والخطورة، وتصل تبعات ذلك إلى ردهات المحاكم، مخلفة وراءها ضحايا واعتقالات وعداوات تأزم الوضع وتجعل النزاعات مزمنة. ما يرصد من صدام يسري على الأملاك ذات طبيعة مخزنية، أو ما يسمى ب"أملاك الدولة"، كما يطال أصنافا أخرى كالأملاك الجماعية، أو ما هو معروف بأراضي الجموع أو الأراضي السلالية، التي تخضع للمقتضيات القانونية المنصوص عليها بفحوى الظهير المؤرخ في 27 أبريل 1919، كما جرى تعديله وتتميمه، والتي تسهر على تسيير شؤون الوصاية عليها مديرية الشؤون القروية بوزارة الداخلية. وتتكون الجماعات السلالية من قبائل ودواوير أو مجموعة سلالية، وتتمتع بالشخصية المعنوية وتخضع لنظام عقاري خاص له إطار تنظيمي، وهي غير قابلة للتقادم ولا للحجز ولا للتفويت، باستثناء تفويتها لفائدة الدولة أو الجماعات المحلية أو المؤسسات العمومية أو الجماعات السلالية، ويناهز عددها 4600 جماعة سلالية على المستوى الوطني، ينوب عنها أكثر من 7600 نائب جموع، يعتبرون الممثلين الشرعيين والمخاطبين الرئيسيين لجماعاتهم، وتتم تصفيتها القانونية وفق مسطرتين؛ أولها التحديد الإداري حسب الظهير الشريف الصادر في 18 فبراير 1924، والتحفيظ العقاري المحدد بظهير 12 غشت 1913. وقد نظمت عدة قبائل سلالية احتجاجات بالمغرب، من طرف النساء السلاليات خاصّة، ضد ما أسمي ب"نهب الأراضي"، مع المطالبة برفع الحيف جراء ضعف التشريعات القانونية. كما نظم، من أجل تشخيص واقع الجماعات السلالية وتقديم اقتراحات عملية، حوار وطني حول الأراضي الجماعية سنة 2014، في دورات جهوية، بغية الوصول إلى صيغة توافقية وفعالة لاستثمار هذه الأوعية العقارية في تنمية بشرية مستدامة، وفق توجهات البرنامج الأخضر. وقد توج الحوار برسالة ملكية وجهت إلى المشاركين، مؤخرا، في المناظرة الوطنية للعقار بالصخيرات. ومن جهة أخرى، هناك الأملاك المخزنية الخاصة بالدولة، والتي نظمها الظهير الصادر في 2 يناير 1916، الذي عرّف هذه الأملاك بكونها لم تخصص لاستعمال العموم، وليست خاصة أو ضرورية لتسيير ملك عمومي، وهي بدورها أنواع؛ لكن أهمها هي الأراضي التي استرجعتها الدولة من المعمرين، ويطلق عليها "الأراضي المسترجعة"، فهي لا ترتبط بقواعد الأملاك العامة وإنما بشروط خاصة تتعلق بكيفية اقتنائها وتدبير شؤونها من منطلق أنها أملاك خاصة للدولة ذات ذمة مالية عامة. إقليمسطات يعتبر من الأقاليم الفلاحية بامتياز بالنظر إلى شساعة الأراضي الفلاحية الصالحة للرعي أو الزراعة، ويشكل فيها الوعاء العقاري تنوعا كبيرا في طبيعة الأملاك، حيث هناك الأملاك المخزنية أو الأراضي المسترجعة، والأراضي السلالية على مستوى دوائره الثلاث؛ سطات، البروج وابن أحمد، حيث تنتشر عدة بؤر توتر حول الحدود وأحقية التملك بكل من التعاونية العنبرية وملك أولاد واحي "الفرمة" بقيادة بني خلوك، والتعاونية الفارسية والتعاونية المهداوية بدائرة ابن أحمد وأرض الكفالي بأولاد بوزيري دائرة سطات وغيرها من أماكن النزاع. هسبريس انتقلت إلى بعض بؤر النزاع والتوتر عبر مختلف المناطق بسطات، ورصدت طبيعة النزاعات والخلافات حول الأرض واستقت مختلف المواقف والتداعيات التي ترتبت عنها، حيث عاينت كلا من أرض الكفالي بأولاد بوزيري، والتعاونية العنبرية ببني مسكين، والتعاونية الفارسية بجماعة الثوالث أولاد فارس دائرة ابن أحمد، وملك سيدي أحمد بن عبد الواحد "الفرمة" بجماعة عين بلال، والتي تعيش نزاعات موسمية متشابهة، حيث واجهنا كل طرف بهذه المناطق بكومة من الوثائق والمحاضر والاستدعاءات والشواهد الطبية ومحاضر المعاينة والشواهد الإدارية والشواهد الملكية والمراسلات والتعرضات... الكل يدعي ملكه للأرض بناء على ما يتوفر عليه من وثائق كما أن عدة قضايا لازالت معروضة أمام محاكم ابن أحمد وسطات. اعتصام مفتوح بالاتجاه على الطريق صوب مدينة مراكش، على بعد 30 كيلومترا من الانطلاقة، تسترعي الانتباه خيمة منصوبة، إلى جانبها لافتات تقادم بعضها بفعل عوامل الطقس ورايات وطنية، وبعض المواطنين يقومون بالمداومة على مكان الاعتصام المفتوح الذي ينظمه سكان ضيعة "الكفالي"، نسبة لأحد المعمرين، ودواوير أولاد سعيد بن علي والقائد موسى وأولاد برغاي ولحمامدة والهيبات التابعين لقيادة أولاد بوزيري. وبالاقتراب من مكان الاعتصام يبرز عدد كبير من الناس، نساء ورجالا، كل يحمل رزمة من الوثائق ويصيح بأن الأرض تعود لأجداده وهو الأولى بها في التملك أو الكراء أو التفويت. مصطفى شجر، أحد سكان ضيعة المعمر "الكفالي"، قال في تصريحه لهسبريس إن والده كان منذ 70 سنة في هذه الضيعة، أي منذ أن كان المستعمِر، وبعد مغادرة هذا الأخير للمنطقة، ترك مجموعة من العائلات الذين لازالوا يقطنون بالضيعة إلى أن حفّظتها الدولة، واليوم تفاجأ السكان، يضيف مصطفى، بخمسة أفراد جاؤوا لشراء هذه الأرض بعد عزم الدولة تفويت الأملاك المخزنية، وطالب المتحدث المسؤولين بتفويت الأرض للسكان باعتبارهم الأولى وبالنظر لمستواهم الاقتصادي والاجتماعي. ونيابة عن بعض الدواوير السلالية بأولاد بوزيري والمعنية بملك أرض "الكفالي"، أفاد الحاج لمشامخ أن هذه الأرض تبلغ مساحتها ما يقارب 650 هكتارا، هي في الأصل تعود لأجداد السكان سلبهم إياها المستعمر، وأصبحت اليوم ملكا للدولة، وطالب بمراعاة تمكليها للسكان، سواء عن طريق البيع أو الكراء باعتبارهم أولى بها ولكونهم فقراء. أما الطرف الآخر، وفي اتصال هاتفي بالحاج الخلوقي، فقال إن أمر أرض ضيعة "الكفالي" محسوم، حيث يتصرف فيها عدد من المواطنين منذ 1975، والآن قد فوتت لهم الأرض بصفة نهائية خلال هذه السنة، موضحا أن الملفات التي كانت رائجة بمحاكم سطات تتعلق بمنع المستفيدين من الحرث من طرف السكان، مضيفا أن السلطات المحلية انتقلت عدة مرات إلى الأرض موضوع النزاع، وقد صدرت أحكام في ذلك، موضحا أنه حصل على الرأي بالموافقة من إدارة الأملاك المخزنية بسطات قصد التفويت، مطالبا الطرف الآخر بالإدلاء بوثائقه القانونية، ومشيرا إلى أن الأرض منها ما هو فلاحي ومنها ما هو رعوي. من أجل حل مشكل أرض "الكفالي" قامت الدولة بخلق لجنة وزارية مشتركة مكلفة بفض النزاعات الناشئة عن تطبيق ظهير 2 مارس1973، وتمثل دور اللجنة، التي كان يترأسها المحافظ العام على الأملاك العقارية، في تلقي شكايات المواطنين ودراستها بناء على ما يتوفر عليه أصحابها من بيانات ووثائق، وفي سنة 1994 صدرت دورية عن الوزير الأول أنشئت بموجبها لجنة إقليميةبسطات في إطار عدم التمركز لمتابعة دراسة الملفات العالقة، نتج عنها إعطاء الموافقة لبعض الطلبات بعد تسوية ملفاتهم بأثمان رمزية أو تفاوضية، وظلت المسطرة جارية، إلا أن الملاحظ أن التسوية التي كانت في البداية تتعلق بالضبط التقني لأصحاب الملفات من حيث المساحات وحدود الأراضي المعنية، أخذت اتجاها آخر بعد تأخير المساطر لتدخل جوانب تتعلق بالساكنة المحيطة بهذه الأراضي التي بدورها بدأت تطالب بالاستفادة من هذه التسويات، بادعاء أن آباءهم وأجدادهم كانوا يعملون بهذه الأراضي خلال مراحل سابقة من الاستعمار. النزاع المزمن في الطريق إلى البروج، حيث لازالت مجموعة من الأراضي قاحلة غير محروثة، وعليها نبات ذابل ينذر بموسم فلاحي ضعيف، وبعد قطع مسافة تقدر ب60 كيلومترا، يتحقق الوصول إلى دوار لخشاشنة، حيث مقر التعاونية العنبرية، وبأبوابه عدة مستفيدين من الإطار التعاوني المذكور. بادر مصطفى الطالبي، أحد سكان التعاونية العنبرية، بجماعة سيدي بومهدي في قيادة بني مسكين الغربية، وأحد المستفيدين من التعاونية، بالقول إن التعاونية، التي تضم 69 شخصا، تكونت في بدايتها تحت إطار توزيع الأراضي الفلاحية الخاصة بالإصلاح الزراعي التي همت الأراضي المسترجعة، وقد تكونت سنة 1972 بمقتضى ظهير، وأصبح كل فرد من أعضائها يملك نصيبا خاصا، بالإضافة إلى الملك المشترك الذي تقدر مساحته بما يقارب 852 هكتارا، والذي أصبح موضوع نزاع بين التعاونية العنبرية وساكنة لخشاشنة. هذه التعاونية، يورد الطالبي، ومنذ تأسيسها، كانت تستغل أراضيها بأمن وأمان إلى حدود سنة 2011، حيث تقدم بعض نواب أراضي الجموع من ساكنة دوار لخشاشنة السلالية للحصول على شهادة إدارية تخص التحديد الإداري للأراضي السلالية الحاملة للرقم 12 والتي تخصهم، وتوجهوا إلى ساكنة الدوار وأخبروها بأن هذا الملك المشترك التابع للتعاونية العنبرية قد كان في السابق ملكا لأجدادهم، حيث ابتدأ النزاع يوم 13 مارس 2012، بعدما قام الدوار بأكمله بالرعي الجماعي وإتلاف المحصول الزراعي كاملا. وبعد مرور أسبوع تقدم أعضاء التعاونية بشكاية في نازلة الترامي لدى محكمة سطات، وصدر على إثر ذلك حكم قضائي في البداية ببراءة المتهمين، وبعدها توجه أعضاء التعاونية من أجل حرث الأرض التابعة للتعاونية، إلا أنهم فوجؤوا بهجوم جديد من قبل ساكنة لخشاشنة، ما استدعى تدخل السلطات المحلية، بما فيها القائد ورئيس الدائرة والدرك الملكي، لتهدئة الأوضاع وتقديم وعود بتأمين عملية الحرث فيما بعد، وهذا ما تم بعد مؤازرة أعضاء التعاونية من طرف السلطات الإقليمية والدرك الملكي والقوات المساعدة. وفي اليوم نفسه، يضيف المتحدث، قام السكان المجاورون بهجوم جديد والرعي في المحصول، تبعته شكاية جديدة في النازلة، حيث حكمت المحكمة الابتدائية ببراءة المتهمين، في حين ألغت استئنافية سطات الحكم الابتدائي، وحكمت على المتهمين بالسجن لمدة 3 أشهر وغرامة مالية، واستأنف الحكم بالنقض ولازال الملف جاريا أمام المحاكم. كما أن هناك ملفا أعيد من جديد، بعد الاستئناف بالنقض، إلى نظر الابتدائية، تحت عدد 55/15، ولازال البت فيه جاريا، ورغم ذلك، يروي مصطفى الطالبي، لازال المشكل قائما حيث تمت الاعتداءات من جديد، وتقدم أعضاء التعاونية بشكايات في الموضوع وتم استدعاء الأطراف المتهمين الذين وضعوا بالسجن الفلاحي احتياطيا، لتتم الموافقة على تمتيعهم بالسراح فيما بعد، مشيرا إلى أن أعضاء التعاونية لم يحرثوا الأرض بعد، ومطالبا السلطات الإقليمية بتحمل مسؤولياتها في الملف لحل المشكل الذي لازال قائما. في المقابل، أفاد الحطابي الشرقي، أحد السكان السلاليين لدوار الخشاشنة بجماعة سيدي بومهدي بني مسكين الغربية، أن المشكل القائم بين السكان والتعاونية العنبرية 70، يرجع إلى كون كل واحد من الأطراف يملك وثائق وحججا. الجماعة السلالية الخشاشنة تملك شهادة إدارية مسلمة من طرف الوصاية سنة 2011، وبالرجوع إلى وثائق أخرى، يسترسل الشرقي، يستنتج منها أن بعض المستعمرين هم الذي حفّظوا هذه الأرض فوق أرض جماعية، حيث كانت الأرض بيضاء في سنة 1927، وكان الجميع يرعى غنمه فيها حتى بعد مغادرة المستعمرين، إلى حدود 1987 حيث قام أعضاء التعاونية بتنقية الأرض وحرثها، وفي ذلك الوقت لم يكن السكان السلاليون يملكون أي وثيقة بسبب عدم وجود المجلس النيابي. واعترف المتحدث بكون ساكنة دوار الخشاشنة تتعرض على استغلال الأرض من طرف أعضاء التعاونية عن طريق الاحتجاجات ومراسلات للسلطات الإقليمية، نافيا أن يكون السكان قد قاموا بإتلاف أي محصول أو مواجهة أعضاء التعاونية بالعنف أو التحريض عليه، مضيفا أن السكان السلاليين توصلوا بجواب من وزارة الداخلية بعد اتصالها بمصالح المحافظة العقارية ومندوبية الأملاك المخزنية بسطات، تؤكد فيه عدم العثور على أي وثائق تبين بدقة كيفية انتقال ملكية العقار الجماعي المعني إلى الملك الخاص للدولة، ومن تم تمليكها للمعمرين وبعدها آل الملك لأفراد التعاونية الفلاحية العنبرية، وفتحت عدة حوارات على المستوى الإقليمي في إطار توافقي من أجل رفع كل لبس حول طريقة انتقال هذا الملك، وطالب المتحدث بتدخل السلطات لحل المشكل وإنهاء النزاع مادام أن الطرفين لا ينطلقان من فراغ بل لكل واحد حجته. الرسالة الملكية جاءت رسالة من الملك محمد السادس متطرقة لملف الأراضي السلالية، وفي مواضيع العقار بعموم البلاد، وهي التي تلاها المستشار عبد اللطيف المنوني، مؤخرا، أمام المشاركين في المناظرة الوطنية للعقار بالصخيرات، حيث دعا الملك إلى إيجاد حل نهائي لإشكالية الأراضي الجماعية والسلالية. وأهابت الرسالة بالمشاركين في المناظرة، حول السياسة العقارية للدولة ودورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إصلاح الأراضي الجماعية وفتح حوار وطني حولها، وجعل الأراضي السلالية مساهِمة في التنمية في إطار مبادئ الحق والعدالة الاجتماعية. كما دعا الملك محمد السادس، بمضمون الرسالة نفسها، إلى تمليك الأراضي الجماعية لذوي الحقوق بالمجان، إلى جانب إعادة النظر في التدبير المؤسساتي لهذا القطاع العقاري، كما طالبت الرسالة بتشخيص جماعي للواقع الحيوي في مجال العقار، والوقوف على الإكراهات والتوجهات الكبرى، من أجل سياسة وطنية متكاملة وناجعة، مع القيام بتشخيص جماعي لواقع هذا القطاع الحيوي، والوقوف على أبرز الإكراهات التي تعيق قيامه بوظائفه. الرسالة وردت بها الدعوة، أيضا، إلى الحوار والتفكير الجماعي واعتماد المقاربة التشاركية، بالانكباب على مراجعة وتحديث الترسانة القانونية المؤطرة للعقارات، بشقيه العمومي والخاص، بما يضمن حماية الرصيد العقاري وتثمينه، والرفع من فعالية تنظيمه، وتبسيط مساطر تدبيره، لتمكينه من القيام بدوره في تعزيز الدينامية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد.