القذافي..من الانقلاب والتسلط إلى التيه في نرجسية "الثورة" التي هي أنثى الثور في خضم موجة الانقلابات العسكرية، التي سادت البلاد العربية عقب نكبة فلسطين، كأسلوب من أساليب التهدئة السيكولوجية لمشاعر الإحباط والمهانة التي اكتسحت الشارع العام في البلاد العربية، قام الملازم معمر القذافي مع مجموعة من رفاقه الضباط الصغار بانقلاب عسكري على الملك المتصوف إدريس السنوسي. وصادف انقلابهم الذكرى العشرين لموضة الانقلابات العسكرية العربية. من الانقلاب على الدستور إلى وصف الشعب الليبي بالجرذان والكلاب اخترع القذافي لقبا لانقلابه، الذي حدث في 1 سبتمبر 1969، هو لقب "ثورة الفاتح العظيم"، معلنا في الوقت نفسه دعمه القوي لأيديولوجية القومية العربية القائمة على الانقلابات العسكرية الدموية في ذلك الحين. كما تبنى شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، الذي صاغه جمال عبد الناصر لإسكات أصوات منتقديه، عقب هزيمة 5 يونيو 1967. إذا كان لعبد الناصر بعض العذر في اختيار ذلك الشعار للحفاظ على ما تبقى من الدولة المصرية بعد انهيار جيشها بتلك السرعة غير المتوقعة، فإن تبني القذافي لنفس الشعار لم له من مسوغ غير التخلص من كل معارض له، يملك تصورا مغايرا في تسيير شؤون بلده. وباسم ذلك الشعار تمت تصفية معارضيه تصفية جسدية، لأنهم يرون ما لا يراه "قائد ثورة الفاتح العظيم". وكثيرا ما برّر تصفيتهم بأنهم "كلاب ضالة". وقد جاء في خطاب له بتاريخ 17 أبريل 1974 قوله: "أنا أستطيع أن أعدم عددا من أفراد الشعب لأنهم أعداء الثورة، الذي يعارض لازم ندوسه بالأقدام". ولم يغير الزمن نوازع الدم والقتل عند القذافي، الذي أضاف إلى لقب "قائد الفاتح العظيم" ألقاب "ملك ملوك إفريقيا، وعميد الحكام العرب، وإمام المسلمين". باسم هذه الألقاب جميعا وصف مئات الآلاف من المتظاهرين الليبيين، المحتجين والمطالبين بالتغيير والحرية والكرامة، في خطابه بتاريخ 22 فبراير 2011 بالخونة والجرذان والمقملين تجب ملاحقتهم في كل شبر ودار وزنقة لقتلهم دون شفقة أو رحمة. من أين تأتي الرحمة إلى من يعتبر أفراد شعبه، الذين لا يخضعون له خضوعا أعمى، مجرد كلاب ضالة وجرذان، والذي حرم أحفاد عمر المختار وسليمان الباروني من كل حقوقهم المدنية والسياسية والاقتصادية. إضافة إلى حرمان أمازيغ ليبيا من أبسط حقوقهم في الهوية اللغوية والثقافية. إضافة إلى ممارسة أبشع أنواع الاستغلال لليد العاملة الأجنبية في ليبيا، الذي لا يختلف عما يحدث في أغلب دول الخليج. إن ليبيا تصدر 1600000 برميل من البترول يوميا والشعب الليبي الذي لا يتجاوز تعداده 7 ملايين نسمة يحيى في بؤس اقتصادي ويعيش معيشة ضنكا. لأن القذافي الذي يعتبر شعبه كلابا ضالة مارس على هذا الشعب منهج "جوع كلبك يتبعك"، لكي يستولي هو وأبناؤه وزبانيته على مغارة علي بابا الليبية. وقد بدأت أرقام نهبه لثروة الشعب الليبي المقدرة تقديرا أوليا ب 130 مليار دولار المعنى الواقعي لعبارة "الفاتح العظيم"، اعتقادا منه بأنه استطاع أن يفتح ويستحوذ على كل خزائن ليبيا في غفلة من شعبها. غير أن الشعب الليبي، مثله كمثل جميع شعوب الأرض، احتفظ لنفسه بحق الذود عن كرامته وحريته وممارسة حقوقه السياسية واسترداد ثروته. وهاهو الآن يمتحن قدره، ويتماوج مع رياح التغيير التي تهب على شمال إفريقيا والشرق الأوسط، ويعانق بشائر العدالة، ويستجيب لنداء المستقبل الذي يطارد الاستبداد كما يطارد الفجر ظلام الليل. القذافي في محيطه الإقليمي أما علاقة القذافي بجيرانه فقد كانت مزاجية لم ينتج عنها غير السوء، شبهها البعض بالسحاب التي لا تمطر غيثا،، بل هي أقرب من رياح السيروكو، أو الخَمَسين، أو السّموم. وتميزت في أغلب مراحل حكم القذافي بالتآمر وتصفية الحسابات مع خصومه، على طريقة الذهنية القبلية، التي مجدها في مكتوبه المسمى "الكتاب الأخضر"، بصفتها المحرك الأقوى للتاريخ البشري، وتعددت مواجهاته مع الجيران الشمال الإفريقيين، شرقا وغربا، بدعوى ضرورة الأخذ بنظريته السياسية في حكم الشعب أحيانا، وبدعوى ضرورة انضواء الجميع تحت راية القومية العربية أحيانا أخرى، حين أعلن نفسه أمينا على القومية العربية، بدون أي اعتبار للقومية الأمازيغية، التي تشكل الجزء الأساسي الآخر من المرجعية الإثنية والثقافية لليبيا ولبلدان المغرب الكبير. ومن منطلق إدماج شمال إفريقيا في القومية العربية، طوعا أو كرها، ترغيبا أو ترهيبا، دعم قائد "الفاتح العظيم" كل مناهض للنظام السياسي في بلده؛ وساند بصفة خاصة الصحراويين المنحدرين من إقليمي الساقية الحمراء ووادي الذهب المغربيين, الذين قرروا مواصلة كفاح آبائهم من أجل تحرير الإقليمين المستعمرين من قبل إسبانيا. وكان الآباء يقومون بذلك في أفق استكمال استقلال المغرب كل المغرب. أما الزعيم فقد اشترط على الأبناء أن يعلنوا منطقة الساقية الحمراء ووادي الذهب (المعروفة في المعجم الاستعماري بالصحراء الغربية) جمهورية منفصلة عن المغرب إغاظة للنظام الملكي المغربي الذي حمل له العداء ظاهرا وباطنا، كما اشترط على قيادة "الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، المعروفة اختصارا ب "البوليساريو Polisario" أن يطلقوا على جمهوريتهم اسم "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية"؛ وهي "الجمهورية" الوحيدة بعد جماهيريته، اللتان تحملان صفة العربية في شمال إفريقيا، ولم يستطع إقناع حتى قادة الجزائر، حلفاء "الفاتح العظيم" في مناوأة المغرب ضدا على استكمال وحدة ترابه، بإطلاق صفة العربية على جمهوريتهم. وبينت مقالات بعض الدبلوماسيين الجزائريين السابقين، مؤخرا، أن منهجية تعامل الجزائر مع القذافي كانت تعتمد على انتقاء الوفود الذاهبة لزيارة القذافي بأن تكون عارفة بمزاج الزعيم، وتخاطبه بما يضخم أناه وترضي غروره تجنبا لردود أفعاله في موضوع التوارق والصحراء المغربية بصفة خاصة. وتؤكد تلك المقالات أن الجزائر عانت الأمرين في علاقتها مع القذافي، وأشارت إلى أنه كثيرا ما كان عائقا أمام المصالح الجزائرية والبناء المغاربي. أما علاقته مع المغرب فالكل يعرف أن تقلب مزاجه، وعدم وجود حدود لتصرفاته وقراراته سبب للمغاربة في مآسي كثيرة، أخطرها وقوفه ماديا ولوجستيكيا وراء خلق ودعم حركة انفصالية في الأقاليم الصحراوية، قبل أن توظفها جهات أخرى لتصفي حسابات لا تنتمي إلى العلاقات الدولية الإيجابية في الزمن السياسي للقرن الواحد والعشرين. وكان من نتائج ذلك ممارسة كل أنواع الابتزاز على المغرب. ولم يتوقف ابتزاز قائد الفاتح العظيم على الحكومات المغربية المتعاقبة وأحزابها فحسب، بل تجاوزه إلى القضاء بإصدار أحكام وغرامات مالية كبيرة على كل من ينتقد تصرفات القائد. وتظهر مزاجية القذافي أكثر في اعتقاده بأنه استطاع أن يأتي بما لم تأت به الأوائل، حين أذاع بين الناس أنه جاء بالحل الثالث الذي يتوسط الرأسمالية والشيوعية، من خلال مكتوب سماه "الكتاب الأخضر" الذي بشر به كبنبراس لعصر الجماهيرية، لا يقل شأنا عن نار برومثيوس في الميثولوجيا الإغريقية. وأهم ما في هذا المكتوب من الناحية السياسية اختفاء مؤسسات الدولة، لتفسح الطريق لمزاج القائد، الذي لا يخضع لأي قانون أو معيار ديني أو إنساني. وأظرف ما في المكتوب "الكتاب الأخضر" الذي يشبهه البعض بأنه مثل الدلاح، أخضر من خارج أحمر من داخل، تمييزه بين الرجل والمرأة، حين قال: " الرجل ذكر والمرأة أنثى ... والمرأة تحيض والرجل لا يحيض". وذهب به مزاجه وغروره إلى اعتبار نفسه مجددا للثورة العربية القائمة على منطق القبيلة العربية، التي انطلقت في القديم من سقيفة بني ساعدة، عقب التحاق رسول الله بالرفيق الأعلى. فهو في هذا الإطار لم يكن يختلف منهجيا عن "منظري" حزب البعث الذين حاولوا في دعايتهم أن يجعلوا من الإسلام الذي ظهر في الجزيرة العربية مجرد أيديولوجية للعروبة في القرون الوسطى. ويزعم متزعم "الفاتح العظيم" أنه الوحيد القادر على تجديد أيديولوجية العروبة. فثورة العروبة الأولى، بالنسبة إليه وإلى بعض القوميين، انبثقت عن قبيلة قريش في صحراء شبه الجزيرة العربية بتوظيف القرآن الكريم لخدمة أهدافها. أما ثورة العروبة المعاصرة فإنها ستنطلق من قبيلة أو قبائل عربية أُخر بصحراء شبه جزيرة المغرب،(ليبيا تحديدا) متخذة من الكتاب الأخضر، الذي ألفه العقيد الملازم مرجعا لإحداث هذه الثورة، التي ستحقق له المجد. ولذا لم نستغرب أن يعلن في خطابه، المشار إليه أعلاه، أنه مجد ليبيا والعرب وإفريقيا وأمريكا، بل للعالم كله. وقاده مزاج "أنا قائد الثورة" المضخمة، وغير المقيدة بأي معايير دينية كانت أو إنسانية، دستورية كانت أو أخلاقية، إلى الاعتقاد بأنه فوق مستوى زملائه الحكام في البلدان العربية، وقد صرح بذلك علنية في إحدى مؤتمرات القمة العربية على الهواء مباشرة. خاصة بعد أن اشترى بأموال وثروة الشعب الليبي ذمم من لا همة له من الرؤساء الأفارقة، الذين أوحوا إليه بأنه "مؤهل" وحده لقيادة الاتحاد الإفريقي، فتوهم أنه كذلك؛ فاتخذ شعار القومية الإفريقية بديلا عن القومية العربية، وكأن القبائل الإفريقية أحسن حالا من القبائل العربية. وسيبقى عهد القذافي الذي تلون مزاجه السياسي بألوان البالونات الاختبارية في السياسة الدولية نموذجا لعصر كادت أن تختفي فيه شعوب بكاملها من صناعة التاريخ، لولا وعي الشباب المتدفق كشلال الحرية الأبدي، وهو يزيل في حركة عودته إلى أصله طبائع الاستبداد المختفية وراء شعارات لم يجن منها إلا التخلف والذل والمهانة، في مقابل جنون التسلط الناجم عن تأميم الدولة، واحتكار الثروة من قبل من اعتقد بأنه البداية والنهاية، فكانت نهايته بإرادة الشعب التي تتساوق مع مكر التاريخ، ولأنها أيضا من إرادة الله التي لا تقهر. *بتحيين وتصرف من مشروع كتاب: "النظام العربي: شعار التحرير وجمر الاستبداد" قراءة في الزمن السياسي العربي.. الذي لم تقبل دور النشر بنشره وتوزيعه؛ لكونه قال ما لا يعجب الحكام العرب، ولكونه توقع حدوث زلازل سياسية في المستقبل المنظور، وهو ما يحدث فعلا الآن.