أضحت حيازة الأسلحة النارية معضلة كبرى في الولاياتالمتحدةالأمريكية، بالنظر إلى حجم الخسائر البشرية المسجلة سنويا، وفشل الجهود المبذولة لتشديد المراقبة على امتلاكها، مما جعل الجميع يتفق على أن أمريكا التي ظلت تنعت ببلاد الحرية والديمقراطية، أصبحت اليوم بلاد الأسلحة أيضا. ولعل مقتل أكثر من ثلاثين ألف أمريكي سنويا، جعل حوادث إطلاق النار في مكان العمل أو صالة للعروض السينمائية أو حتى داخل مدرسة حدثا شبه عادي بالنسبة للأمريكيين، الذين يصحون كل يوم على حالة جديدة من عنف الأسلحة، تهز هدوء مدنهم الصغيرة حينا، وحينا آخر تهز البلاد بأكملها. فمن حادث مدرسة ساندي هوك الابتدائية بولاية كونيكتيكت (دجنبر 2012)، الذي راح ضحيته 27 شخصا، منهم عشرون طفلا، إلى حادث الأربعاء الماضي الذي كانت مدينة سان برناردينو بكاليفورنيا مسرحا له، والذي أودى بحياة 14 شخصا، دائما ما تعود قضية تقنين حيازة الأسلحة إلى الواجهة، وتتعالى العديد من الأصوات منادية بتطبيق مراقبة صارمة على اقتناء وامتلاك الأسلحة، قبل أن يوصد هذا الباب مجددا من قبل الجماعات واللوبيات المتحكمة في هذا الملف، والتي تعتبر أي تضييق على منع السلاح بمثابة انتهاك للفصل الثاني من الدستور الأمريكي. وإذا كان أغلب الخبراء ورجال السياسة والقانون يجمعون على استحالة منع انتشار الأسلحة النارية بالولاياتالمتحدة، بالنظر إلى صعوبة التوصل إلى إجراءات قانونية تمكن من التخلص من هذا الانتشار، فإن المحكمة العليا الأمريكية أصدرت سنة 2008 قرارا لافتا أسقطت بموجبه القيود الرئيسية المفروضة على انتشار الأسلحة النارية، باعتبارها مخالفة للقانون، خصوصا وأن الدستور الأمريكي يسمح بالاحتفاظ بسلاح دفاعا عن النفس. ورغم رغبة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في منع انتشار الأسلحة النارية، فإن الكونغرس الذي يهيمن عليه الجمهوريون، يعرقل كافة المحاولات الرامية إلى تمرير أي قانون يحد من انتشار الأسلحة النارية، وبل وتدافع بشدة عن حيازتها. هذا الدفاع عن حيازة الأسلحة النارية يلاقي صدى ودعما سخيا وضاغطا من لدن" لوبيات" الأسلحة، وفي مقدمتها "الجمعية الوطنية للبنادق"، التي يؤيد أنصارها حمل الأسلحة، وتجد مواقفهم آذانا صاغية لدى الأمريكيين، إذ سجل في الولاياتالمتحدة خلال السنوات الأخيرة ازدياد في عدد الأمريكيين المدافعين عن الحق في حمل السلاح بلغ 50 في المئة في مقابل 33 في المئة قبل عشرين عاما. "لقد أصبحنا فاقدي الاحساس تجاه ذلك .. لا يكفي الدعاء بالرحمة للموتى مع استمرار حوادث إطلاق النار بشكل منتظم للأسف الشديد في أنحاء الولاياتالمتحدة"، هكذا ناشد الرئيس أوباما وسائل الإعلام القيام برصد عدد الضحايا الأمريكيين خلال العقد الأخير نتيجة ظاهرة عنف الأسلحة، مشددا على أن قوانين حيازة الأسلحة النارية في الولاياتالمتحدة تحتاج إلى تغيير. الأممالمتحدة بدورها، دعت الولاياتالمتحدة إلى اتخاذ الإجراء الضروري لتقليل هذه الحوادث المروعة التي تقض مضجع المجتمع الأمريكي". هذا، وتشير الأرقام إلى أن البلاد تتوفر على حوالي ثلث الأسلحة النارية الموجودة في العالم، لكن مع تدابير رقابية منخفضة. ويقدر عدد الأسلحة النارية الرائجة في الولاياتالمتحدة بنحو 300 مليون قطعة ل318 مليون شخص، أي ما يعادل سلاحا واحدا لكل فرد. وفي المتوسط، قتل أزيد من 30 ألف شخص، وجرح أكثر من 68 ألف آخرين بالأسلحة النارية في البلاد. وقد كشف موقع (شوتينغ ترايكر)، المتخصص في إحصاء حالات العنف بالأسلحة النارية في الولاياتالمتحدة، أنه تم خلال الفترة الممتدة من بداية السنة الجارية إلى غاية 27 نونبر الماضي تسجيل أزيد من 350 حادث لإطلاق نار جماعي، أصيب أو قتل خلاله أربعة أشخاص أو أكثر، أي ما يفوق حادثا واحدا يوميا. وأمام هذه الإحصائيات المفجعة، انطلقت العديد من الحملات التوعوية، التي قادها العديد من النجوم والفنانين الأمريكين، والتي تدعو إلى إنهاء العنف المسلح، وإبعاد الأسلحة النارية عن أيدي المجرمين ومعتادي العنف والمضطربين عقليا، كما تدعو إلى حفظ الأسلحة النارية بشكل آمن بعيدا عن متناول الأطفال. لكن يجدر الانتباه الى أن انتشار الأسلحة بشكل واسع بين المواطنين الأمريكيين، بمعدل سلاح لكل فرد، يجعل موضوع تحديد حمل السلاح أمرا متأخرا، ما دامت هنالك مئات الملايين من الأسلحة التي يتم بيعها وتبادلها حتى بدون أي أوراق ثبوتية في المهرجانات أو على الإنترنت، الأمر الذي يزيد الإشكالية تعقدا، ويجعل القوانين التي عرضها أو دعمها الرئيس أوباما عاجزة عن وقف هذه الحوادث التي أصبحت تحصل بشكل مستمر. فمتى سيتحقق الحلم الأمريكي، الذي أصبح اليوم معلقا بين القضاء على العنصرية والعنف المسلح أيضا. *و.م.ع