الحاجة إلى "الهيئة العليا للتدبير المفوض" على إثر ما عرفته مدن الشمال من احتجاجات بسبب غلاء فواتير الماء والكهرباء والذي تحول إلى موضوع مسائلة شهرية للسيد رئيس الحكومة بمجلس النواب الثلاثاء الماضي، أصبح لقضية التدبير المفوض أبعادا تثير عدة أسئلة حول هذا النهج الاقتصادي الذي حاولت الحكومات السابقة من خلاله الرقي بالخدمات التي تقدمها للمواطنين، هذا النوع من الخدمات أصبح يثير إشكالات اجتماعية ذات أبعاد اقتصادية وحتى سياسية، تجعل منه موضوع اهتمام وطني ومؤسساتي. فالتدبير المفوض بما يطرح اليوم من مشاكل مختلفة تهم الأطراف الثلاثة "الدولة، المواطنين والشركات التي أسندت لها مهام التدبير المفوض" وهذه الأطراف المرتبطة بهذا السلوك التدبيري تتضارب مصالحها لاختلاف المواقع والعلاقة مع موضوع التدبير المفوض. فالدولة نهجت هذا التدبير بهدف منح هذا المجال لذوي الاختصاص والتجربة مستهدفة فتح المجال لتطوير الخدمات والتي تدخل ضمن صميم مسؤوليتها، وذلك سيعفي الدولة من ثقل المسؤولية وتشعب الوظيفة، وفي نفس الوقت تكون قد ضمنت للمواطن الخدمات التي من المفروض أن تقوم هي بتوفيرها، وفي المقابل فإن الشركات التي تشتغل في إطار التدبير المفوض بقدر ما تقوم بمهامها العقدية يفترض أن تطور خدماتها إلا أنها لطبيعتها التجارية تسعى لتحقيق مداخل تضمن لها تغطية مصاريف تدبير هذا القطاع وتحقيق الربح، في حين من المفروض أن يكون المواطن هو المستفيد كطرف ثالث له على الدولة حقوق مقابل التزام مالي دوري لكن دون إثقال كاهله بفواتير تتجاوز قدراته وإمكانياته الاقتصادية. إن العلاقة بين الأطراف الثلاثة التي تختلف منطلقاتها نتيجة اختلاف أهدافها ومساعيها ذلك أن الدولة تسعى إلى تقديم الخدمة والشركة تسعى إلى الربح والمواطنين يسعون إلى الاستفادة من الخدمات بأقل تكلفة، مما يفرض أن يكون مبدأ التوازن مسألة أساسية في هذه العلاقة، الشيء الذي يتعين معه إخراج هذا الموضوع من المواجهات السياسية والاتهامات المتبادلة والتفكير في أفضل الطرق للحفاظ على توافق إيجابي بين هذه المكونات الثلاث. لذلك تقدمنا باقتراح قانون حول التدبير المفوض، يسعى لخلق جهاز إداري مستقل في إطار ما يدعى بالسلطات الإدارية المستقلة ومؤسسات الحكامة المنصوص عليها دستوريا من خلال الفصل 159، يكون ضابطا ورقيبا لحسن خلق وتنفيذ عقود التدبير المفوض، وذلك لما فيه حسن تطبيق القانون وحسن تنفيذ الإلتزامات. ولتحقيق الأهداف الكبرى من هذا الاختيار المؤسساتي، لابد من منح هذا الجهاز أو الهيئة حق الرقابة على طبيعة العقود وتنفيذها وعلى التزام الأطراف بتنفيذ الاتفاقات وعلى حماية حقوق المواطن باعتباره العنصر الضعيف في العقد، وأن تكون قراراته حاسمة للخلافات التي قد يعرفها تنفيذ العقد بين الأطراف، واختزالا للوقت وحسن سير المرفق فيجب أن تكون قراراتها غير قابلة للطعن إلا أمام أعلى هيئة قضائية إدارية وفي زمن قضائي معين. إن التفكير في قوة هذه الهيئة يفرض أن نمنحها الاستقلالية التامة عن الأطراف الثلاثة حتى نضمن استقلاليتها تنظيميا ووظيفيا، وذلك من خلال اقتراح إنشاء مجلس مكون من 13 عضوا يعين منهم جلالة الملك خمسة ومن ضمنهم رئيس الهيئة، ثم أربعة يعينهم السيد رئيس الحكومة وأربعة يعينهم البرلمان على أساس مراعاة تمثيلية النقابات ورجال الأعمال الأكثر تمثيلية، وأن يتم اختيارهم من خارج البرلمان ضمانا لاستقلالية هذه الهيئة، ويجب أن يكونوا متفرغين لمهامهم بالهيئة بتعويض مادي مقابل هذا العمل الإيجابي الذي سيقومون به. إن نجاح مهام هذه الهيئة يتطلب منحها الكثير من الوسائل القانونية واللوجيستيكية حتى تتمكن من ممارسة مهامها في أحسن الظروف، وذلك من خلال إجبارية تمكينها من الوثائق والمستندات وحقها في الاستماع لأي طرف، كما لها حق تقديم الرأي الاستشاري لكل من جلالة الملك وللمكونات الدستورية الأخرى، بل يجب أن يمنح لهذه الهيئة حتى اختصاص التلقي والبث في شكايات المستفيدين من عقود التدبير المفوض وفق صيغة ومسطرة ينظمها مجلس الهيئة ذاتيا. ويمنح لهذه الهيئة دور استباقي من خلال مراقبة مشاريع العقود ودفاتر تحملات عقود التدبير المفوض قبل إبرامها، حتى نضمن توازن العقود وجدواها، وتكون قراراتها قابلة للطعن، كما يمكن للجماعات الترابية و للحكومة طلب رأيها في مدى جدوى نهج مسطرة التدبير المفوض في مجال من المجالات، وكذلك ما تراه مناسبا من التزامات يجب أن تضمن بدفتر تحملات. ومن منطلق الدور الدستوري الهام لممثلي الأمة في علاقتهم بمثل هذه المؤسسات، فإن هذه الهيئة مطالبة بتقديم تقرير سنوي أمام البرلمان عن سائر أعمالها يكون موضوع مناقشة. إنه لا يهم أن يكون هذا البناء القانوني مقترحا من هذه الجهة أو تلك، و لا يضر في شيء لو تواردت فيه الأفكار بين المعارضة والأغلبية، لأن المصلحة العامة تقضي توفير أحسن السبل والوسائل للدولة لتقديم أحسن الخدمات للمواطن. *محام ونائب رئيس مجلس النواب.