على قدر ما تكون هناك سلطة من دون رقيب يتعقبها ولا معارضة تواجهها بأخطائها يكون هناك من الفساد يعم البلاد والعباد، حتى قالوا قديما إن السلطة المطلقة تعني الفساد المطلق ولا ريب، وهذا الفساد يتعاظم ويتعاظم حتى يأتي بالهلكة على صاحبه ومن حوله. ولقد تذكرت وأنا أسمع خطاب الزعيم القذافي وخطاب نجله سيف قصة كاليجولا التي قرأنا عنها في مسرحية ألبير كامو "كاليجولا" وحدثنا عنها يول ديورانت في قصة الحضارة، وهي قصة معبرة تعكس كيف يصبح الحاكم إلها ومعبودا، وتسقط المسافات بينه وبين "المطلق" بسبب غياب من يقول له كلمة"لا". لقد تجلى القذافي في خطابه الأخير إلها من آلهة اليونان القديمة، إما تعبدونني ف"أنا المجد" و"أنا الثورة" و"أنا ربكم الأعلى"، وإلا يحل بكم العذاب، وإلا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير،..، إما تبقون علي وإلا فلا بقاء لأحد منكم.. إن قصة القذافي شبيهة بقصة الإمبراطور الروماني كاليجولا الذي حكم قبل حوالي ألفي عام، حكم بكل قسوة وبكل عنف وبكل "ألوهية". كان لا يتكلم إلا ب"أنا" ومثله القذافي في خطابه العصابي. تولى القذافي مثل كاليجولا الحكم في سن الشباب، فغلبت النزقية والخفة والطيش عليه، حتى ملأ الحياة بالقتلى والدماء والخوف وعدم الاستقرار.. بدأ كاليجولا أيامه الأولى في الحكم بأسلوب مختلف، فقد توسع في ممارسة الديمقراطية، وأعطى صلاحيات واسعة لمجلس الشيوخ الروماني، وأفرج عن المسجونين وأعاد المنفيين، وكان يحب التمثيل فأغدق الهدايا والمكافآت على الفنانين، وظن الناس أنهم سيعيشون مع هذا الإمبراطور حياة وردية لا نهاية للسعادة فيها، غير أن هذه الأوضاع لم تستمر لأكثر من ثلاثة أشهر، ليرى الشعب حاكما وحشا معتوها مجنونا بالحكم متعطشا للدماء مليئا بالقسوة..وكذلك القذافي أوهم الناس أنهم سيكونون في رخاء بعد ملكية إدريس السنوسي، وأنهم سيحكمون أنفسهم بأنفسهم، وأنه لا سلطان عليهم بعد اليوم، حتى إذا تمكن منهم أحال حياتهم إلى جحيم.. لقد اكتشف كاليجولا، مثلما اكتشف القذافي، أن كلمته لا ترد، وأن أوامره كلها مطاعة ومسموعة، وأنه لا راد لأمره ونهيه، فنشأ في نفسه أنه إله،"فاستخف قومه فأطاعوه"...فتوالت تصرفاته المجنونة التي أثارت الفزع في قلوب المواطنين،..وتلك حكمة القصة التي نستخلصها من فم التاريخ، فالطاغوت لا يولد طاغوتا، بل هو طاغوت بمن حوله ممن يتملقونه ولا يردون له رأيا. لقد أرغم كاليجولا أعضاء مجلس الشيوخ أن يُقبلوا رجليه، بعد أن كان قد أوهمهم أنه سيمنحهم صلاحيات واسعة لمناقشة أمور الدولة واتخاذ القرارات المناسبة، وكذاك فعل القذافي بعد أن أذل شعبه وأوهمهم أن اللجان الشعبية والمؤتمرات الشعبية هي من يباشر الحكم وأنه سيبقى رمزا فقط لا يتدخل في الحكم، فإذا بالناس يصدقون ويهتفون بحياة القائد، حتى إذا استتب له الأمر ظهر أن لا حاكم إلا هو، وأن رؤساء اللجان الشعبية يصبحون ويمسون على تقبيل رجليه.. لقد كنا متوهمين حين صفقنا للقذافي وهو يمزق ميثاق الأممالمتحدة، كنا نرى فيه انتصارا لحقوق الشعوب المهضومة، وكلمة حق في وجه الإمبريالية والمركزية الغربية، لكن تمزيقه لأجساد شعبه وإعلانه الحرب على معارضيه في خطابه الأخير بهذه الهمجية وهذه الضراوة، واستعداده على تصفية "كل الشعب" لقاء أن يبقى "هو" "رمزا" فتح عيون الجميع على أن "عنتريته" جزء من "الأنا المجنونة" والعته الذي بلغ مداه. ومثلما يُحكى عن القذافي شذوذه في عالم النساء حتى لم يكن من حرسه المفضلين إلا الحارسات الشخصيات اللاتي لا يأمن لسواهن، فقد كان كاليجولا كذلك يأخذ كل من وقعت عليها عينه لنفسه من زوجات قواده فيحكى أنه حضر ذات مرة عرسا في روما لإحدى النساء الشهيرات، وفي ليلة العرس أعجبته العروس فأخذها لقصره أمام مرأى ومسمع الجميع ولم ينبس أحد بكلمة..إنه المجتمع حين يحوله الاستبداد إلى عالم من القبور..أموات غير أحياء، وما يشعرون أين يبعثون.. كان كاليجولا دمويا إلى درجة الهوس فلم يتح فرصة يوما لأحد لمعارضته والاختلاف معه، معارضته كانت تعني أن ينتهي بحلق رأس المسكين وإلقائه للوحوش التي كان يستمتع كاليجولا بمشاهدتها تفترس المساجين من معارضيه في أول سيرك دموي في التاريخ ،في مشهد لا أخلاقي ولا عقلاني في نفس الآن..كان كاليجولا يقول: إن بإمكاني أن أفعل أي شيء بأي إنسان،..ولقد أبان القذافي في خطابه البئيس إلى شعبه كيف ينظر إلى معارضيه من شعبه على أنهم"جرذان" و"وسخ" و"قطط" و.. و.. و، ينبغي سحقهم، وهي صورة مصغرة لما يراه الزعماء "الآلهة" حين يخلو لهم العالم فلا يسمعون إلا أصواتهم..ولا يرون في المرآة إلا صورهم، وهم على ما هم عليه من الغفلة حتى تعصف به عواصف التغيير فتقتلعهم، أو تأتيهم رسل الموت يتوفونهم وهم لا يفرطون، وردوا إلى الله مولاهم الحق، ألا له الحكم ، وهو أسرع الحاسبين.. * أكاديمي ومفكر مغربي