مفاجأة سياسية فجرها الدبلوماسي المغربي في نيويورك بمناسبة الذكرى السبعين لتأسيس الأممالمتحدة. ولا يكمن وقع المفاجأة في التوقيت أو المكان بل لكونه يشكل انقلابا في مسار الدبلوماسية المغربية بتاريخها وأعرافها التي حافظت عليها طيلة عقود من الزمن. فقد تناقلت المنابر الإعلامية عن مساعد الممثل الدائم للمغرب بهيئة الأممالمتحدة، عبد الرزاق لعسل قوله: "من المؤسف أن نرى تطلعات منطقة القبايل المشروعة تنتهك ونحن في القرن 21". وأضاف: "في الوقت الذي نخلّد الذكرى السبعين لهيئة الأممالمتحدة، ما زال أحد أقدم الشعوب الإفريقية (شعب منطقة القبايل) محروما من حقه في الحكم الذاتي، في حين تُنتهك حقوق الإنسان يوميا في هذه المنطقة، ويتعرض ممثلوه الشرعيون للقمع والاضطهاد، في الوطن والمنفى". وأن "من حق شعب منطقة القبايل، الذي يبلغ عدده 8 ملايين نسمة، وذو تاريخ يعود إلى 9000 سنة، أن يحصل على حقه في الحكم الذاتي والاعتراف بهويته الثقافية واللغوية»، طبقا للفصول 1.2. 3 من إعلان هيئة الأممالمتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصيلة". وبسرعة تلقفت العديد من الأصوات الإعلامية والسياسية والأكاديمية هذا التصريح وفق رؤية تدافعية ضد طرح الحكومة الجزائرية المناهض للوحدة الترابية للمملكة. وبالطبع كان أول المشيدين بهذا القرار الهيئة التي أطلقت على نفسها حكومة القبايل المؤقتة التي عرفت ولادتها القيصرية في رحاب الكنيست الصهيوني حين عبر زعيمها الموهوم عن الحاجة "إلى التضامن مع الشعوب التي تصارع من أجل وجودها وحريتها". والمقصود هنا اليهود والأمازيغ. فهل هذا تنفيذ لمضامين بيان ندوة المهرجان المتوسطي للثقافة الأمازيغية بطنجة 2011 الذي جعل الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي في ليبيا آنئذ، في نفس مصاف الاعتراف بالحكومة المزعومة لمنطقة القبائل؟ أن يدافع دبلوماسي عن وحدة وطنه وسيادته فهذا هو المطلوب منه والذي يدفع له من أموال المغاربة نظير القيام بذلك، وأن ينتفض ضد خصوم الوحدة الترابية للمملكة جزء من مهمته التي وكلت له، لكن أن يلعب على وتر النعرات القبلية والإثنية الغارقة في التشظي فهذا خط أحمر غير قابل للمساومة أو الاستغلال. ويكفي أن نستعرض المفردات الواردة في هذا الخطاب (الشعب الأمازيغي المحروم/ التطلعات المشروعة للسكان الأصليين/ الظلم التاريخي ضد القبايليين...) لنفهم طبيعة المعجم الذي متح منه هذا الدبلوماسي مفاهيمه التجزيئية بحثا عن كسب النقط في مواجهته مع نظيره الجزائري. لكن فاته، كما فات من تغنى بمسلكه، من الفضلاء، أمورا عدة: تاريخيا وحتى في لحظات الذروة والمواجهة حافظت الدبلوماسية المغربية على منطقها المرتكز على قوة الذات وليس ضعف الآخر. لذا تميزت بالاعتدال في المواقف والعقلانية والتريث في اتخاذ القرارات والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يربك سياسة الدولة الخارجية. فكان المغرب على الدوام مصدر قوة وإلهام للعديد من الدول والمنظمات الدولية التي قادها في مراحل التجاذب والتي تلجأ له حين تدلهم الخطوب، لتميز دبلوماسيته بقدر من الحكمة بعيدا عن الانفعالات الوجدانية والصبيانية. ويكفي أن نتذكر بأنه خلال فترة الثمانينيات وفي وهج الحرب الباردة ترأس المغرب في نفس الوقت ثلاثة منظمات: القمة العربية الثالثة عشر والمؤتمر الإسلامي ولجنة القدس. لذا كانت المواجهات حتى مع خصوم وحدته مضبوطة باختيارات عقلانية وليست انفعالية. إذا كان المغاربة يعانون من مشكل فرض عليهم من طرف النظام الحاكم في الجزائر فهذا لا يعني تحميل الشعب، بكل مكوناته، تبعات هذا المشكل. والزعم بكون منطقة في البلد تعاني من القمع والفقر والتهميش والاستناد إلى معجم العرقيات والإثنيات من أجل مناهضة طرح مضاد هو دفاع مغلوط على طرح وهمي. فالمسألة في منطقة القبايل تجمع بين بعدين: خطأ النظام الحاكم في تدبير التمثيلية الشعبية، واستغلال خارجي غرضه الوصول إلى نبوءة رايس. ومن يراجع تاريخ الثورة الجزائرية وكيف تم السطو على مخرجاتها سيفهم جيدا ما يقع في مناطق عديدة من المغرب الأوسط. والذي يتصور أن نار التشظي التي حاول الدبلوماسي المغربي إشعالها ستمسك بتلابيب الجيران فقط فليول وجهه قبل المشرق ليأخذ العبرة. والرؤية الاستشرافية تفرض طرح الواقع في تجلياته المستقبلية، وتصور الجار مشتتا بين أقاليم إثنية وهمية، فهل سيتوقف الأمر عند الحدود أم الأمر بطرحه الثقافي والاجتماعي قابل للتمدد والانتشار وله دعاته بين ظهرانينا؟ المفردات المستعملة في هذا الخطاب/ المفاجأة هي نفسها المفردات التي يستعملها دعاة الاستئصال والتي وجدت مرتعا لها في أدبيات بعض السياسيين والإعلاميين. فبقليل من التأمل في مسار الأحداث ومحاولات بعض الجهات المدعومة خارجيا سنجد أنفسنا أمام زخم من دعاوى الانفصال التي لا تتوقف عند الصحراء المغربية بل وجدنا من يتحدث عن جمهورية للريف مصطنعا لها علما ونشيدا وقد نجد من يتحدث عن الصحراء الشرقية وهكذا دواليك. ألم يفكر قادة الدبلوماسية أنهم بهذا السلوك الانفعالي، في أقل تقدير، يعطون مبررات إضافية لدعاة الاستئصال المترددين على بروكسيل وتل ابيب؟ أليست هذه حجة موثقة وفي منبر أممي على دعاوى الانفصال المنتشرة افتراضيا؟ ألا تشكل هذه التصريحات والمفردات مرجعا لمحاسبة المغرب مستقبلا عن مكوناته الإقليمية؟ إن اللعب على وتر التشظي المؤسس على الإثنية والعرق واللغة والزعم بالشعوب الأصلية سيكون سكينا مشحذا ضد وحدة الوطن قبل الغير، وأن الزعم بالدفاع عن وحدة الوطن بتشظي الآخر هو ضرب في أعراف ومرتكزات الدولة المغربية. وبعد ذلك لن يبق أمامنا إلا النار.... فلا تلعبوا بها.