لن أتبلد و أرثيك بقصيدة شعر، أنت أيتها المفجوعة، في أبناءها،المرتمية ثكلى بين أحضان غريب. كم تفيأت بغنج لرجالاتك الذين صدقوك العهد، فأمسيت المحروسة. كم تدللت على أسوارك و قصباتك و أسواقك و صوامعك بملاحتك و تكسرك كأنك تخالفيهم و ليس بك خلاف. لقد كنت المجد و التبل و الشرف الذي نتنعم فيه، كما يتنعم السيد في قصره. آه ثم أه...كم كانت تستطيب فيك حلاوة العيش. كنا بين دروبك رعارع. لا تستنشق رئاتنا إلا دخان بارود البنادق التي صنعت مجدك . فتحوله دماءنا لهواء جديد. لقد أمسيت كالبتلة من النخل.و أضحيت كفسيلة انفردت عن أهلها و استغنت بنفسها. كنت عرش كبرياءنا و عزة نفسنا، منك نستخلص الدروس و نستلهم العبر. كلما أردنا المباهاة عرجنا على مقبرة سيدي بنعاشر و باب معلقة، لنقرأ الفاتحة على شهداءك البررة الذين افتدوك بأرواحهم. نعم تكاثرنا و تفاخرنا حتى زرنا مقابرنا نستشهد بأوليائنا، و على نهج أجدادنا الذين كلما أصابتهم مصيبة كانوا يستغيثون بالله و بأوليائهم، فإنني أستغيث بكل من له غيرة على سلا لرفع أكف الضراعة للباري عز و جل بأن يعيد مجد هذه المدينة. مصيبة سلا اليوم أنها أصبحت محط إعجاب كبار المخرجين السينمائيين العالميين، الراغبين في تصوير مشاهد و لقطات في أماكن معبرة جدا، و بكلفة بخسة، فبعد بحث و تنقيب عن أماكن تصوير مثالية، كانت لأهل الفن السابع خيارات بين التصوير في كابول أو مقديشو أو حمص "الحرب"، لكنهم - جزاهم الله خيرا- فضلوا التصوير بمدينة سلا لتنوع ديكوراتها الطبيعية الساحرة و المعبرة. لقد انتصرت سلا على مدن الصومال و أفغانستان و سوريا الحرب، و فازت بشرف نقل أوضاعها الاجتماعية، و حالة بنياتها التحتية المزرية، و صورتها القاتمة عبر الشاشات العالمية. إن التصوير في سلا لمشاهد محبوكة في سيناريوهات المخرجين العالميين يضمن النتائج المرجوة، و تحقق الأفلام الأرباح تلو الأرباح، لأن الجمهور يتفاعل مع المشاهد البئيسة بإحساس يبلغ حد التأثر بما يراه من إبداع في طبيعته، دون روتوشات أو مساحيق أو مؤثرات جانبية. فهي ديكورات متفرقة بين أزقة و دروب و أحياء مدينتي التاريخية، تنطق بصوت مدوي" يغنيك حالي عن السؤال". للأسف تفضيل سلا عن سواها من المدن يكون فقط لتصوير لقطات لمظاهر البؤس و الفقر و التشرد و الحرب و الدمار و الخراب و الهلاك و الأوبئة و الكوارث و العواصف، و كل ما يحيل على التقزز و يبعث على الشفقة. أتذكر هنا السلطان أبو يوسف بن عبد الحق المريني الذي أذرف دموعه و هو واقف يتأمل لما جرى للمدينة من خراب جراء الهجمات التي تعرضت لها من قبل القشتاليين الأسبان، و غيرته على المدينة لدرجة أنه شارك بيديه في إعادة بناء الأسوار المطلة على البحر. المفارقة العجيبة أننا نسمع أصواتا تدعو لترشيح سلا لنيل شرف صفة تراث عالمي للإنسانية الذي تقره منظمة الأممالمتحدة للتربية و الثقافة و العلوم "اليونيسكو" و ذلك لغنى و تنوع تراثها و مواقعها و معالمها التاريخية... كلام جميل طبعا، و لكن ماذا هيئنا لكذا طلب ؟ و هل واقع هذا الموروث و تلك المآثر على أحسن حال؟ إن أسوار المدينة و خصوصا السور الممتد من باب دار الصناعة حتى باب بوحاجة الذي يعتبر مدخل المدينة لا يعكس أبدا هذه الرغبة، ولا يشجع الإنسانية لضمه كموروث عالمي، ألا يرى الجميع أن قدم هذا الجدار أصبح مرحاضا عموميا عالميا تتآكل أسواره، كما تأكل النار الهشيم. لن أبتعد كثيرا عن هذا المكان،و لننزل عبر دروج باب الصناعة، الذي شيد بتزامن مع بحث الدولة المرينية العظيمة على مشروعية لحركتها الفتية، حيث كان السلاويون يصنعون بداخله البوارج الحربية للدود عن المدينة ... لنشاهد أو بالأحرى لنشم شتى أنواع الروائح الكريهة، و نعاين الجدران المتهالكة من جراء قدفات كرات المتريضين الذين جعلوا من الفضاء ملعبا لكرة القدم دون مراعاة لقيمته التاريخية، ناهيك عن المارة الذين يلقون أزبالهم المترسبة، المكونة لطبقات متراصة. تفضل بزيارة المعالم و المواقع و القصبات المرابطة بجوار الولي الصالح سيدي بنعاشر و سيدي لمجراد، لتقف عند مسرح الجريمة، هنا تحضر كل أشكال اللامبالاة. فبعض جامعي " البحرار أو بوزروك" يشعلون النيران عند قدم الأسوار فيلتصق الدخان بأحجارها و كأنها صبغت باللون الأسود كأن غارة الإفرنج على سلا ذات يوم عيد فطر على عهد الدولة المرينية ما زالت متواصلة. هذه الأسوار كلما تم تبليطها إلا نفضت ما ألصق بها في ظرف أشهر معدودة و كأنها تقول " أنا لا أريد العكر فوق الخنونة". يبدو للقادم من فوق ربوة سيدي عبد الله بنحسون في اتجاه مقبرة سيدي بنعاشر، خط مستطيل من البراز يمتد من أسفل البرج الركني حتى برج الدموع في شكل هندسي يزيده تقززا اصطفاف جيوش "الشماكرية" و"الكويلات" و "الساحرات" و "الجكدات" في لوحة تنطق بكل أشكال الانحراف و الشعودة، في هذا الفضاء بالضبط أذرف السلطان أبو يوسف بن عبد الحق المريني دموعه غيرة على ما آل إليه و ضع المدينة قبل قرون، و هنا نتحسر و نبكي جميعا على مآثرنا المهجورة. أتمنى أن يكون المشروع الحالي الذي سينجز في هذا المكان بادرة يراد منها رد الاعتبار لمقبرة سيدي بنعاشر. انعرج يسارا لتصل لدروج مقبرة باب معلقة، هنا المدخل الرئيسي للترحم على الأهل و الأحباب، فما إن تطأ قدمك الأرض حتى تنسى ذكر دعاء دخول المقابر من شدة الروائح الكريهة المزكمة...أما إذا كان فضولك لا يقف عند هذا الحد، فأرجوك المرور بالرحيبة لترى بأم عينيك لب ما يبحث عنه المخرجون السينمائيون العالميون. و ليكن ختام الزيارة "مسك" بانتشاء كأس شاي منعنع بإحدى المعالم التي قد تؤهل مدينتنا لتصبح في مصاف الملك العالمي للإنسانية " مقهى شخشخ" العريقة، فإنك ستصطدم بجبال من الأزبال المتراكمة عند مدخل السوق المركزي، و التي أصبحت من المناظر الخالدة بمدينتي البسيئة. لن أزيد و أطلب منك زيارة شاطئ سلا في فصل الصيف، فهذا الموضوع يحتاج وحده لوقفة تأمل عميقة. و لا حتى القيام بجولة ليلا ببعض أزقة المدينة القديمة، لأنك ستفقد أو تسلب. و لو كتب لك النجاة فإن "وجوه الشرع" سيعيدونك كيوم ولدتك أمك مجرد من اللباس، حافي القدمين، حاملا... نعم، حاملا لتوقيعات سكاكينهم على جسدك، مختومة بعبارة "إذا كان أجدادك قد اجتثوا السيبة من جدورها في زمنهم الجميل، فنحن جدع ضل صامدا، لم يجد من يجتثه" سلا التي لم يحميها الرجال فقط، بل نساءها كن اشد ضراوة بالعدو. و أكثر حرصا على بناءها و نشر العلم بين سكانها، و من باب الفخر أذكر هذه الأسماء: للا فاطنة بنت النعام و للا مماس و للا الغفلة و للا عائشة مسعود و للا الشهباء و للا غنيمة و للا يامنة وهدانة و للا لة تاشيخت و للالة الزرقة. لقد لفظت سلا فئة من أهلها و طردتهم خارج التاريخ، لأنهم تاهوا عنها، كما يتيه الغريب في "سبع تلاوي"ها ، و هي التي تشبثت عبر التاريخ بكل أبناءها في كل المصائب و المحن. نعم رمت فئة من فلذات كبدها لأنهم لم يلعبوا دورا فوق ركح مسرحها، و قبلوا تكالب الزمان في ذل و خنوع مهطعين مقنعي رؤوسهم. قدفتهم سلاخارج أسوارها لتموت وحدها في سكون، موت الحرة التي لا تشرب من ثديها. لقد توفيت سلا بموت الضمائر. فنيت في المزابل و القذرات و الجرائم. هلكت بسقوط تقاليدها و عاداتها. سلبت بسرقة سبورات التشوير الرصاصية التي تعرف بأزقتها. يا ويلاه...من أجل مثقال رصاص أقبرت حكايات دروب و أزقة و أحياء لا يقاس وزنها بقناطير الذهب. اختلست أغطية مجاري صرفها الصحي الحديدية، فزادت ثقوبها. كيف إذن نرتق بكرتها و هي المغتصبة المتعددة الثقوب. زمان قاتم بهيم هذا الذي تحياه مدينتي. لا بد من إطلاق صفارة الإنذار، و لن نكتفي بالاستغفار. لا بد لسلا أن تنبعث من رمادها. إنني ألوم نفسي التي أحياها الله حتى رأيت مدينتي قذارة في قذارة. أنا المهووس بالصور التاريخية لسلا، كلما تأملت صورة قديمة بها رجال تمنيت لو مت مثلهم قبل عصري هذا. إن التفاؤل الذي يدفع الغيورين لترشيح سلا كتراث للإنسانية يستدعي وقفة تأمل من طرف الأطياف المشكلة لهذه الحاضرة رأفة بها، و رحمة بأجدادنا الذين يبكونها من داخل قبورهم.