طغى طيلة الفترة السابقة تقريباً، وعلى نحو ملتبس هذه المرة، شبح انتفاضة فلسطينية جديدة. ويظهر شريط الأحداث أنه على خلفية اقتحام الصهاينة للمسجد الأقصى ومحاولة التفرد به زمانياً ومكانياً، ارتفعت حدة الاصطدامات بين الفلسطينيين في القدس الشرقية وفي الضفة الغربية، وبين قوات الاحتلال الإسرائيلي. وكانت قد سبقت هذه الاصطدامات اعتداءات أقدم عليها مستوطنون صهاينة من الطامحين إلى تطهير الأرض عرقياً بعد الاستيلاء عليها، واستهدفوا فلسطينيين قتلا وحرقاً ودهسا. تحولت معه مأساة عائلة الدوابشة و ورضيعها علي إلى واقعة رمزية تذكر بمقتل الفتى محمد الدرة بين أحضان أبيه قبل سنوات. لا ينقص الوضع الفلسطيني القائم، السائر بصعوبة وسط عواصف "الربيع العربي"، توفر ما يكفي من العوامل المسببة لانتفاضة؛ فتوقف مسلسل المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية لايرجع الى صعوبات إجرائية أو تقنية، لأنه حاجة إسرائيلية واضحة ومعلنة بهدف إتمام مخطط الزحف الاستيطاني وتهويد مدينة القدس وجعل الكتلة البشرية الفلسطينية عبئا سكانيا يتحمّل الجميع تبعاته وتكاليفه. وهذه ،فيما يبدو، هي المهمة الوحيدة التي تعرضها حكومات إسرائيل المتعاقبة على السلطة الوطنية الفلسطينية، أي أن تكون جهازا يؤمِّن إدارة الوظائف الحياتيّة للفلسطينيين دون أي هوية سياسية وحقوقية وطنية له . ومع أن شروط اندلاع الانتفاضة متوافرة، فإننا نتوقع أن لا يلقى شبحها واقعا لاحتضان وتمثيل حمولته المثقلة بالظلم والتهميش. أعربت السلطة الفلسطينية بواسطة رئيسها محمود عباس،عن عدم رغبتها في تصعيد المواجهة «الأمنية» مع إسرائيل. وأصبح في متناول نتانياهو أن يتخفف من لهجته التصعيدية وتهديداته باستخدام أقصى درجات القوة لدحر "الإرهاب الفلسطيني الاسلامي" حسب توصيف يستمده، مثل سابقيه، من مناخ الهواجس العالمية من الإرهاب الاسلامي، ومن سهولة محاصرة الاحتجاجات الفلسطينية، أيا كان شكلها ،في إطار المخاوف من محارق كبرى. هذه الأجواء هي ما باتت تحتاج إلى عرض حال، كي لا نقول إلى تبسيط. سنبادر إلى تشخيص هذا المناخ بالقول بأنه خليط من اللامبالاة ومن ادعاء الاتعاظ واستبطان الضعف، للأطراف العربية وأشباه نظمها الأبوية والريعية حظ كبير في إنتاج هذا المناخ الباعث على الغضب بعد دفن الرؤوس في الرمال. إنه وضع موات للعدمية السياسية، ولتجرّع جرعات لا يقصرعن ضخّها الوعي الشقي والزائف المتغلغل في صلب التصورات والتحليلات التي فجرها الربيع العربي. فعندما انتقلت شرارة الحراك الاحتجاجي ضد الأنظمة الاستبدادية من تونس إلى مصر ومن ثم إلى ليبيا والبحرين واليمن وأخيرا سورية، سارعت ثلة متزايدة من الإعلاميين والكتاب العرب المهتمين بمجال التحليلات الشاملة والعريضة، إلى الإمساك بدرة الدهر اليتيمة كما يقال. فقد انتبه هؤلاء إلى غياب أو تراجع القضية الفلسطينية عن وفي المطالب الاحتجاجية المرفوعة. وظهر أن العدد القليل من المدافعين عنها ليس سوى بقايا وترسبات مرحلة سابقة حازت فيها القضية الفلسطينية على مكانة بارزة. الإمعان في التذكيربهذه المسألة يسمح بالاعتقاد أنها، في عرف أصحابها، أكثر من علامة فارقة: إنها أمنية. ولأنها كذلك فقد اعتبرها البعض مؤشراً حقيقيا الى نشوء وعي وطني، عاقل ومتعظ، يقطع مع لغة حقبة سابقة ادعى خلالها القوميون العرب والأنظمة المنعوتة بالتقدمية جعل القضية الفلسطينية في منزلة القضية المركزية. اعتمادا على ما اعتقده المسترشدون الجدد قطيعة مع الخطابة القومية العروبية بكل تنويعاتها الناصرية والبعثية واليسارية العالم ثالثية،، تنامي مستوى التعويل على الحراك باعتباره حاضنة مرحلة وطنية حقيقية وبداية يمكن التأسيس عليها. هكذا امتلأت الساحة بأماني واعدة بإعادة تشكيل الكيانات الوطنية على مبادئ متحررة من إغراءات الأنظمة والتيارات التقدمية التي يتداخل فيها النزوع إلى تحكم النخب العسكرية والاقتصادية، وتغوّلها في كثير من الحالات، مع التشبت بمبدإ السيادة الوطنية لمرحلة ما بعد الاستقلال. في هذا السياق، وفي مايتعلق بمصر مثلاً، تمت إذاعة مقولة افتراضية عامة، مضمونها أن الحراك الشعبي يبشربقطيعة تاريخية ليس فقط مع نظام حسني مبارك وخطط الانفتاح الاقتصادي وسياسة اللبرلة المتوحشة كما نهجها أنور السادات، بل ومع الناصرية جملة وتفصيلاً بمبادئها وتوجهاتها. ثم بدأ يتضح شيئاً فشيئاً أن الأحلام الواعدة بربيع أوطان قوية كانت تحجب كوابيسا ظهرت فجأة على الواجهة، بحيث أصبحت عودة العسكر انتخابياً إلى السلطة ضرورة وطنية أساسية. ومع أن صورة الحراك اتسم منذ انطلاقته، لاعتبارات مختلفة سوسيولوجية وتاريخية وثقافية تخص كل كيان وطني على حدة، بمفارقات وإشكالات بليغة، فإن عدداً كبيرا من الدعاة عاد إلى اللازمة القديمة التي أبطلها :كل السلاح صوب العدو ولا صوت يعلو على صوت المعركة. ولعبت التوجهات الغربية والحاجة إلى التكيف معها دور البوصلة الإنقاذية. وسط هذا الحال المتقلب و الهادر، بقي تراجع القضية الفلسطينية وغيابها عن الأجندات الإقليمية والدولية معلماً على نهضة وطنية ترتسم بالنكاية من أنظمة استبدادية ونخب قومية وعسكرية ينسب لها ادعاء الاهتمام المحوري بالقضية الفلسطينية الكبرى. هناك ما يغري بالمناقشة السجالية مع حملة القناديل المضاءة في بياض الصبح. كالقول مثلاً، إن إخراج القضية الفلسطينية من التداول هو،على النقيض، علامة بارزة على ضعف البناء الوطني المرجو لأنه دلالة عن استقالة من مجابهة تحديات وطنية وإقليمية يتحدد بموجبها وجه السياسة الوطنية وصفتها. وهذا أسلوب للقول إن تحديات البناء الوطني السليم تقع في موضع آخر. ولا ننسى أن أهمية القضية الفلسطينية منذ النكبة لا تتعلق بأعداد الضحايا والمهجرين ، وبحجم الدمار والمجازرالتي تعرضوا لها؛ فعلى هذا الشأن، تبدو القضية السورية مثلاً، قتلا ودماراً ونزوحاً وتهجيرا، أشد بكثير من نكبة الفلسطينيين، وينطبق هذا على ليبيا والعراق واليمن . ترجع الأهمية الى البعد الدلالي للقضية الفلسطينية. فهي كانت دائما ولا تزال مجال اختبار لقدرة دول الإقليم على توطيد شرعيات وطنية وسياسية ومستقلة وحديثة، ولم تكن دائما قضية مركزية.