حدثان هامان شهدهما العالم مع بداية سنة 2011 ، سيشكلان قفزة نوعية في تاريخ أمتنا العربية المعاصرة، إذ استطاع الشعبان العربيان العظيمان إجبار حاكمين للتنحي والتنازل عن السلطة، فكان الفرار لبن علي من تونس الخضراء تاركا وراءه إرثا من الفساد وشعبا تواقا للتغيير، أما حسني مبارك فقد هوى رغم تعنته وجبروته، وتخلى عن السلطة بإصرار شعبي معهود لدى أحفاد الفراعنة الذين كانوا أوفياء لقسمهم على عدم ترك ساحة التحرير إلا برحيل النظام المصري . فالثورة المصرية التي أبهرت العالم الغربي والعربي ستكون لها الكلمة الفاصلة في وضع إستراتيجية تنهي بها حقبة ظلامية سادها الاستبداد والفساد، سوف تحدث تغييرا جيوسياسيا في المنطقة . لقد سقط جدار الخوف وتخلص الإنسان العربي سيكولوجيا من عقدة الخوف والخنوع، فأخذ العالم العربي يدخل التاريخ من بابه الواسع بعدما كان خارجه لعقود طويلة. الانتفاضة الشعبية التونسية هي التي كانت سباقة وفعالة في استعادة الشعب العربي الثقة في قدراته وإيقاظ روحه الثورية التي ما فتئت الأنظمة العربية أن أدخلتها في سبات عميق ، بمجرد ما وقعت وثاق الزوجية مع كرسي الحكم . أما الشعب المصري العظيم فقد تشرب الثورة من أسلافه العظماء الذين أدركوا أن الشعب يعد لبنة أساسية في بناء سياسة المجتمع ، فما كان من حل أمام جمال عبد الناصر سوى التنحي من السلطة بعد انهزامه في حرب 1967 تعبيرا عن عدم قدرته الحفاظ على مكتسبات هذا الشعب . ثورة أبناء المحروسة إذن جاءت لتعيد للشعب المصري عظمته وللعرب نخوتهم فصمدت في الميدان إلى أن تحقق لها النصر ، وانقلب الفعل في لافتات المحتجين الثوار من "يسقط " إلى "سَقَطَ "، فتحول الحاضر إلى ماض جرف معه النظام المباركي المستبد والفاسد ، فتنحى وسقط . نعم ، إنها ملحمة شعبية لشعب عظيم يقود التغيير ليفتح بوابة التحرر لباقي الشعوب العربية. لقد ُصنع التاريخ العربي في ميدان التحرير الذي سيعيد للأمة العربية قاطبة حريتها وتحررها ، وسيحقق لها الاستقلال الحقيقي بعدما سُرق منها الاستقلال عن المستعمر ، وعمت المنطقة العربية أنظمة شمولية مارست جمودا سياسيا ارتكز على تدجين النخب السياسية واقتسام كعك الحكم في معظم البلدان العربية. فثورة الشعبين التونسي والمصري جاءت لتضع اللبنات الأولى لاستقلال حقيقي للأمة العربية جمعاء ، وليصبح لهاته الأمة سيادتها وقرارها السياسي بعدما كان يُصنع بأياد غربية قوية . لأن ما يخيف الغرب عامة و يقلق الولاياتالمتحدةالأمريكية بشكل خاص حسب نعوم تشو مسكي " ليس الإسلام الراديكالي، بل الاستقلال "(عن جريدة لوكارديان البريطانية ليومه الجمعة 04/02/2011) ، فمسألة التهديد الإسلامي الراديكالي للغرب ما هي إلا مطية يركبها للحفاظ على مصالحه الإستراتيجية بالمنطقة ، مساندا رموز الأنظمة التسلطية التي تنهج سياسية التبعية المفروضة التي تضع المطالب العادلة للشعوب خارج أجندتها . إن الغرب كان وما يزال يتردد في اختيار دعم الديمقراطية كمنهج في الحياة السياسية في العالم العربي لأن هذا الطرح سينعكس سلبا على خياراته الإستراتيجية ، وهو خيار سيء لأنه يفك الارتباط البنيوي به . فالمنظومة الفكرية للغرب مبنية على معاداة الشعوب العربية لأن هذه الأخيرة تواقة للاستقلال والتحرر. إن ما يحدث في مصر الآن سيؤسس بكل تأكيد ل "نظام عربي جديد "حسب وصف حسين مجدوبي في مقال له بجريدة القدس العربي، وسوف يضع خارطة طريق جديدة للأمة العربية تضع خططا ومشاريع لبناء نهضة عربية شمولية. إنها بحق ثورة شعبية لأنها أخرجت كمًا من الجماهير المتظاهرة ضد نظام مبارك، رغم محاولاته الملتوية من أجل الالتفاف على الانتفاضة كترويجه لمسألة حدوث فوضى،أو ادعائه استيلاء حركة الإخوان المسلمين على السلطة بمجرد انسحابه منها . كل هاته الادعاءات لم تثن الشعب المصري على مواصلة الاحتجاج حتى رحيل نظام مبارك. فالشعب المصري من خلال هاته الثورة سيؤسس لدينامية جديدة وفعالة هدفها استرجاع كرامته التي ضاعت منه لسنوات وعقود عدة ، وتحقيق العدالة الاجتماعية المفقودة، و رفض القهر والظلم اللذين جثما على صدره، ومن جهة ثانية ستعمل ثورة الفراعنة على إعادة مكانة مصر بين الدول وتفعيل دورها الحيوي بالمنطقة مدافعة عن قضايا الأمة العربية ومناصرة لها في المحافل الدولية ومواجهة للقرارات الدولية المجحفة التي من شأنها أن تمس كرامة الأمة العربية ،وهذا ليس بجديد على مصر التي ترأست ولا زالت جامعة الدول العربية لفترات متكررة . شباب 25 يناير/كانون الأول بعد انتصاره بدأ بتنظيف ساحة ميدان التحرير من مخلفات احتياجاته خلال فترة اعتصامه وهو بهذا يبعث رسالة واضحة مفادها أنه عازم على تنظيف بلاده وقطع كل الصلات مع العهد القديم الذي شهد فيه الشعب المصري مرحلة سادها الظلم وغياب الديمقراطية وليبنوا بكل أطيافهم مصر القوية والعظيمة التي ستضع الأسس الأولى لبناء دولة حداثية ديمقراطية عصرية تستمد شرعيتها من الشعب المصري العظيم ، وتطرح تصوراتها لمستقبل المنطقة العربية بشروط تعيد للإنسان العربي كرامته التي سلبت منه مع العهد البائد. [email protected]