تتقافز أمامي السنوات التي تربو على الأربعين عاماً، تستعرض فصول ذكرياتي مع الطفولة والصبا، فأسمع صوت أمي تدللني بين أحضانها بعد أن استفقت ذاك الصباح على عبق قهوتها المطبوخة، المتسللة إلي غطاءي، لتبلغني بداية يوم سعيد. إنها نوستالجيا غريبة تعزف في أدني، هذه الأيام، أجمل ألحان أناشيد الطفولة. قصتي تبتدئ مع أول ثورة أعلنتها في وجه خالاتي اللواتي تجيشن لفطامي بالقوة بعد أن شارفت على الثلاث سنوات، ما استدعى مني إبداء مقاومة شرسة ، و ممانعة مشروطة فصولها الحليب مقابل السلم. لكن تعنتهن أرغمني على إخضاعهن للأمر الواقع، بفرضي ليالي بيضاء لم تنعم فيها أمي بالنوم و الراحة لثلاثة أسابيع، لأنتصر أخيرا بالعودة لامتصاص هذا الأكسجين الذي ينبض به فؤادي. كان فطوري ملكي بنكهة طفل مدلل، حليب ساخن مصفى بعناية، وشفنجتان مطفيتان من صنيع "با الخوخاني" أشهر بائعي الشفنج، في منطقة "الرحيبة". شراء الشفنج من عند هذا الرجل يفرض القيام باكرا. و حجز مكان لك بالطابور أمام حانوته الصغير لا يعني قطعا ضفرك بطلبك. فقد تنفذ العجينة المخمرة في السطل الحديدي الكبير الموضوع بجانب "المقلة" قبل بلوغ دورك. و أنت في الصف يعتريك الترقب، و التخمين و الافتراض. فانخفاض نسبة العجينة المخمرة في السطل يقلل من حظوظك في نيل مرادك، و يجعلك تضرب أخماس في أسداس، بافتراض معادلة حسابية صعبة عناصرها تتوزع بين عدد المصطفين أمامك، و كمية طلباتهم " واش شفنجة و لا نصف كيلو و لا جمع حب و تبن". ولكن السلوك الآدمي للسلاويين الطيبين، يحسم كل السيناريوهات بتقاسم "الشفينجات بين الجميع. صباح ملؤه الدفيء الأسري بين عائلات تقطن نفس الدرب. وجوه مألوفة تتبادل تحية الصباح، تقاطعها أصوات الباعة المتجولين في تناغم ينعش صباحك فتسمع " وا تا دقا تدقا" "عزافات" " أصلح الصينية أصلح البراد" " بالي البيع" " ضو الوالدين على ربي" " نخالة للبيع". يستوقفها صياح البراح الذي لا يفتأ يرفع عقيرته عابرا أصوات المدينة و حاراتها " وا عباد الله ما تسمعو إلا خبار الخير" يستجمع بعدها قواه، و هو بتصبب عرقا من كثرة الترديد الذي حول صوته الجهوري إلى مبحوح.و يسترسل " الحاج فؤاد قنديل رحمه الله، الجنازة فدارهوم بدرب لعلو، و الصلاة عليه فسيدي عبد الله بن حسون مور صلاة العصر" ترتفع بعده أصوات المعزين و المتأسفين و المعددين لخصال هذا الرجل الذي كان من " أهل الله". يقترب منه "الكراب" بعباءته الحمراء، و جرسه النحاسي المتلألئ و الرنان، و هو يحتضن قربته العنزية السوداء، فيمده بكأس ماء في "الطاسة" النحاسية الي تنبعث منها رائحة القطران، شاكرا له حسن تبليغ الخبر. كان البراح يبلغنا كل الأخبارمن مناسبات وطنية و دينية، و بيع العقارات، و صلاة العيد ومكان إقامتها، و صلاة الاستسقاء. "نصلات" الخبز مرصوفة على عتبات المنازل، في انتظار أول مار يحملها لفران الدرب. الساجي فقط من كان يرفض حمل"الميدة" للفران. كنا نتسارع لخطف "ميدة " الحاجة أم هاني لكرمها الطائي، حيث تنعم علينا " ب بعيرد ديال الزميتة" أو " كريصة بالجنجلان و النافع". على نفس العتبات يركن سطل الزبل، الذي أخرج في إبانه، بعد قدوم عامل النظافة بعربته التي يجرها بغل عملاق ضخم. كان محرم علينا ركن الأزبال في الشارع، و الويل ثم الويل لمن يتجرأ على وضع القمامة بجانب الباب قبل قدوم عامل النظافة. لا أنسى هذا الرجل المناضل الذي كان يجمع أكوام أوساخنا المتراكمة خصوصا أيام عيد الأضحى. كنا ننظر إليه باحترام كبير. كان أسمر البشرة، و يكره العسل، فيرافقه أثناء عمله مزاح بعض أقرانه صارخين " و العسل" يرمي بعدها سلات الأزبال على وجوهم، و هو يرغي و يزبد. كلما مر بباب منزل، وجد صينية "الترديدة" مغطاة بمنديل ب"سطوان المنزل" كنا نتباهى بقرب منزلنا من المسجد الأعظم، المعلمة الكبرى بمدينتنا، و منارة العلم و الدين. فقضاء الليلة بمنزلنا له معنى واحد. الاستيقاظ بدخول الهزيع الثالث من الليل على "تهلال الوضوء" بصوت "الهلال" من أعلى صومعة الجامع الكبير، يمتد الذكر لنصف ساعة قبل أن يؤدن للوضوء. يليه بعد ساعة "تهلال المزوار" الذي يستمر لنصف ساعة قبل أدان المزوار، و بعد ساعة يبدأ" تهلال الصبح" قبل آذان الصبح. لم أسمع قط طيلة طفولتي سلاويا يشتكي من إزعاج المهلل و الآذان عبر مكبرات الصوت. كنا نعتز بهذه الطقوس، و نعتبرها مؤنسة لمريضنا، و لموتانا المتراصة قبورهم بباب معلقة، قبالة تلك الصومعة . و على ذكر مقبرة باب معلقة، فباب مدخلها مقابل لمدرسة السور التي درست فيها مرحلة تعليمي الابتدائي، حيث كان الواجب يحتم علينا تلاميذ و معلمين، الوقوف دقيقة صمت احتراما لمرور الجنائز، فتمتد هذه الدقيقة لربع ساعة وقوف، الوقت الذي تستغرقه قدوم الجنازة من بعد عشرات الأمتار لما نسمع أصوات المنعين يرددون "لا إلاه إلا الله محمد رسول الله" ، و مرورهم بجانب المدرسة و الولوج للمقبرة. بل كان الأمر يتطلب بعض المرات نصف ساعة إذا قدر للميت الدفن بمحاداة السور المجاور للمقبرة و الملاصق لنوافذ مدرستي الابتدائية. نعود بعدها لتتمة الدراسة. لكن تباغتنا مرة تلو المرة " لا إلاه إلا الله..." نعم ...جنازة أخرى قادمة. هكذا قضينا خمس سنوات واقفين. و ذكريات باب معلقة لا تنتهي، فقد كنت أهوى صيد السمك في سن مبكرة، و "الضرب" على "الكوال و الروطال و الحلام" يفرض الصيد ليلا في "راس المون" أو "البويير". كنا نحن بعض المولوعين ننضم خرجات صيد ليلية، لهذه "المصايد" قد تستمر حتى الصباح. و قد صادف ذات مرة أن انقلب الجو بهبوب رياح قوية، و هطول أمطار طوفانية و نحن "براس المون" في منتصف الليل، ، اضطررنا معها العودة جريا في اتجاه منازلنا، مختصرين أقرب طريق عبر مقبرة باب معلقة. و نحن مشاة رأينا ما لا يصدقه بشر، ظهر أمامنا على بعد خمسين مترا، شبح إنسان طالع من وسط قبر...فانطلقت من مكاني كالصاروخ مبتعدا لأزيد من مائتي متر، قاطعا المسافة في أقل من عشر ثوان، محطما بذلك الرقم القياسي العالمي لهذه المسافة، و الذي لن يبلغه متسابق مهما طال الزمن. لنكتشف أن الأمر يتعلق ب "شماكري » ينام وسط القبور، و يريد "وقيدة". لقد وصلت منزلنا و سروالي مبلل، لحد اليوم لم أعترف لأحد، ثقوا بي إنها ليست سوى قطرات المطر. ما أحلاك يا طفولتي، و ما أروعك يا سلا.