خوفي عليكم أيها، المتأصلون في حب مدينتكم ، المنتشون بحرارة اللقاء مع أحبابكم، الساعون لربط ماضيكم يحاضركم، المتشوقون لزيارة سلا، و معالمها التاريخية و أسواقها التي قال عنها إبن الخطيب(( أنها تمتلئ بأطيب الشهوات))، المتلهفون لزيارة منازلها العتيقة، المنتشرة بدروبها الضيقة، التي وصفها حسن الوزان ب(( بيوتات سلا مبنية على طريقة القدماء، مزينة كثيرا بالفسيفساء))، خوفي عليكم أن تفكروا يوما في تنظيم خرجة استجمام ، في الصيف القادم ، لشاطئ الأمان" لبلايا" كما يحلو لأهل سلا تسميتها. إياكم و إياكم، إن مغامرة من هذا القبيل ستكون آخر لقياكم، سيتشتت بعدها جمعكم، و تذهب ريحكم، و تكرهوا مدينتكم و دويكم، و تمسحوا بعدها حسابكم على صفحات التواصل الاجتماعي مع أحبابكم. أحذركم ثم أحذركم، و لا لومة بعد كتابي هذا إلا عليكم، و بهذا قلدتكم، و عاري على رقابكم. سأحكي لكم تجربتي المريرة، و قصتي التي تبعث على القشعريرة. فقد قررت ذات صباح يوم أحد في الصيف الماضي، أن أعبر عن مواطنتي، و أدفع عنجهيتي، و أرهن عنصريتي، لأعيش لحظات متعة بقضاء يوم على الرمال الذهبية لشاطئ سلا، اعتبرتها فرصة لربط ماضي بحاضري، و استرجاع ذكريات طفولتي مع أصدقائي بهذا البحر الساحر، الذي ليس له مثل في بلادي، عندما كنا شردمة من"ولاد الحومة" نتسلل بين الأزقة و الدروب المؤدية للبحر، نختصر الطريق عبر عقبة الطالعة، مرورا بقساطلة، و التدحرج حتى مقبرة باب معلقة، مترنحين بين قبورها، متسلقين سورها، الذي نترصد من فوقه حال البحر (واش طالع و لا هابط)، و نمد بصرنا لاستراق نضرة خاطفة "للبرميل" و"الكليتة"، و "البركامة"، و" الساقية"، و" السوير" و "المون لكبير" و "المون الصغير"، نقفز بعدها إلى الرمال الذهبية الساحرة التي لم أصادف مثلها جودة و تلألأ. فنجد زرافات من العائلات و الأصدقاء، يلهون و يمرحون، لا هرج و لا مرج، لا أزبال و لا أوساخ، نعرف هذا و يعرفنا ذاك، و كأننا أبناء منزل واحد. ملابسنا و حاجاتنا في أمان طيلة النهار...أماكن اللعب بالكرة محددة، كل شيء مرتب بالصدفة و السليقة. ما أحلاك تلك الأيام... في ذلك الأحد المشئوم، وضعت سلتي فوق الرمال، مططت فوطتي،و سرعان ما انتابتني حالة" نوستالجا" هستيرية، أعادت بي الذاكرة للطفولة، و تأملت طفلا صغيرا يمر بجانبي، و تصورته شخصي و أنا صغير أتموج في هذا الشاطئ تموج العباب. فشردت متتبعا حركاته و سكناته، و هو يحمل بكفه حفنة رمل و يتركها تنساب بين أصابعه، منتشيا بقوة الريح التي تعصف و ترسل حباتها نحو عيني، على مرأى من أبيه...هنا صحوت من غفلتي، و انتظرت أن ينهاه والده عن هذا الفعل الشنيع، لكن الأمر لم يزده إلا إصرارا في تكرار الحركة، و لم يزد أباه إلا إصرارا في السكوت عن نهيه لفعل مؤدي لغيره. هنا عرفت أنني في زمان آخر، و أن الأمر فقط بداية محنتي في يوم أسود استلقيت فوق فوطتي متأملا هذا الأب الذي لا يفهم في الأصول، متتبعا بفضول حركاته و سكناته، إلى أن فاجئني بفعل شنيع، عندما رغب الابن في قضاء حاجته، فخلع له الأب تبانه ، و قال له" يالاه ديرها هنا على الرملة..." نعم نعم هو كذلك...بعد أن تغوط الطفل، غطى برازه بالرمل، و كأنه يزرع ثمارا للمستقبل. و انصرف لحاله. لم أبدي سخطا، حتى لا تسرق لحظات نوستالجتي فأغمضت عيناني لاسترجاع لذة الذكريات الجميلة المتقطعة...مصمما أن لا يسلب مني استخفاف الناس بالطبيعة لحظات شوق أتيت لأبحث عنها. و بعد هنيهة وجدتني اهتز من من مكاني على وقع شابين أبيا إلا أن يلصقا فوطاتهما بجوار رأسي مطلقين العنان لموسيقى صاخبة منبعثة من مذياع بصوت مرتفع، تقول كلمات الأغنية" دابا ربي يلا إعطاني و نولي صايكاه ثاني...أمشيت انفوج وا رقيتو تزوج" .الشابان عصريان طبعا، بحلاقة لا أفهمها تشبه بكثير ما نسميه" القطيط العيساوي"، فقلت في نفسي" هادو وجوه الخير بداو يبانو". أغمضت جفناي من جديد، فإذا بالموسيقى الهابطة المتسللة إلى أذناي مكرها تتقاسم رائحة براز ذلك الطفل المتسللة إلى خياشيمي ملزما، زادها جمالا و رونقا عبق "الجوانات" التي "يفتخها" الاثنان واحد تلو الآخر...و بدأ المشهد يتأثث أمامي برجل يلبس "سليب" و أعضاءه التناسلية بارزة كيوم ولدته أمه...و سيدة مبللة خارجة توا من الماء مرتدية"كومبينيزو" شفاف يبرز ما تحته بدون خجل أو حشمة أو حياء. و سيدة أخرى تنصب "طاجين تكتوكة" فوق الرمال، و آخر ينهل في أكل دلاحة بكاملها، ملقيا بالفضلات فوق الرمال، و شباب يلعبون كرة القدم فوق رؤوسنا، و كلما ضربتني الكرة، يكتفي بقولة ألفتها ذاك اليوم هي " اسمح لي" دون أن يتعض بتغيير فضاء اللعب. بعد أن اشتدت شمس الظهيرة، قلت " مار أيك يا فؤاد بشي تكليلة فاعلة تاركة"، نزلت الماء بلهفة و ارتميت بفرح كأنني سمكة ألقيت في البحر بعد أن اصطادتها شبكة صياد خطأ، سبحت و سبحت و سبحت دون أن ارفع رأسي، و رسوت بالأفق اللازوردي أتأمل مدينتي و مقبرة باب معلقة بقبورها المتراصة في مفارقة عجيبة، مع المستجمين المتراصين كترام تكدس الناس فيها أسوأ ما تكدست علب السردين. هنا الحياة و هناك الموت، ما أروعك يا مدينتي. انتهى حلمي عندما مر بجانبي فوق الماء شيء غريب يشبه "الفرشية"..نعم هو كذلك... أسرعت التجديف لأبلغ بر الأمان، جريت فوق الرمال قاصدا فوطتي و سلتي، مصمما على المغادرة فورا و بلا رجعة . لم أجد متاعي ضللت أبحث و أبحث، لعلني تهت عن وكري، فأدركت أنني سرقت، و في سلتي توجد مفاتيح سيارتي الراسية بمستودع السيارات بمدخل الشاطئ، حرث رمال البحر طولا و عرضا، و أنا حافي الرجلين لا ألبس إلا تبان السباحة، لعلني أجني نتيجة، و بالفعل جنيت ثمار ما وضعه الصبي من أحشاءه قبل ساعة، و دفنه والده تحت الرمال. نعم" عكرتها" و سرقت ملابسي، و نقودي و مفاتيح سيارتي، و شممت ريحة "الزطلة" حتى أزكم أنفي. و سمعت موسيقى صاخبة أكرهها، و صادفت براز أحدهم مستلق فوق الماء حتى كاد يلمس فمي...هذا هو حال شاطئ سلا.. و هذا حال من يبحث عن العوم في الماء العكر.