كلما أردت أن أسكن دواخلي بطمأنينة، حين يوصد باب بطريقي، أطمئن قلبي و لا أحزن. لأن الله متعني بعلاج روحي و نفسي في عيادة ربانية يزيد عمرها عن ألف سنة. إنه فناء الوضوء بالمسجد الأعظم بسلا. لهذا الجامع محبة كبيرة في قلبي يعجز لساني عن وصفها. فعلى يمين محرابه سجيا آبي و أمي – رحمها الله- و أقيمت عليهما صلاة الجنازة، و على جنبات بلاطاته الثلاثة عشر، و أساكيبه السبعة المحمولة على دعامات و أقواس عالية ضخمة مختلفة الأحجام و الأشكال، جلست القرفصاء للاستماع لكراسي علم الفقيه المريني و الفقيه النجار، و الفقيه المدني، و الفقيه الحصيني. و تحت قبة محرابه المقرنصة، كنا نتسابق نحن أطفال الحي المجاور للجامع لتوزيع نسخ المصحف الكريم على رواد قراءة الحزب بعد صلاتي المغرب و الصبح، في حلقات التلاوة الجماعية التي يتوسط عقدها الفقيه محمد المريني إمام المسجد و خطيبه، و الحزاب الفقيه لمباركي، الذي يحرس على ضبط تناغم أصوات القارئين، و التزامهم بقواعد التلاوة. كان والدي رحمه الله، كلما أحس بشيطان يلهيني عن زيارة المسجد يبادر لعقد صفقة تفاوضية معي، بنودها إدخالي للسينما كوليزي لمشاهدة فيلمين، مقابل الإدلاء بما يثبت تواجدي تحت القبة المقرنصة أثناء قراءة الحزب. فتجدني أترقب دخوله المسجد لأسجل أمامه حضوري. و إن غاب لدافع قاهر أظل أترنح مشيا و جيئا أمام أقرانه، لعلهم يبلغون عني شهادة حق. الراحة و الطمأنينة بفناء المسجد، تبدأ بالوضوء ب"الخصة" التي تتوسط الصحن، و كانت تعلوها قبة بها ساعة قمرية. ثم الصلاة ركعتان لتحية المسجد. فما إن تطأ ناصيتي خلال خشوع السجود الأرض المزركشة بفسيفساء "القراطي و المزيري ، حتى يتملكني سكون يفرغني من الشحنات الموجبة الموجهة إلى الأرض السالبة الشحنة، فيتم تفريغ الهموم و الأحزان و الكرب عن طريق أعضاء جسدي الملامسة للأرض، من جبهة و أنف و كفان و ركبتان و قدمان. هذا "الفيسفاء المزركش بالألوان قد تم إزالته من الفناء، و ركب مكانه زليج رخامي، لا يتناسق مع زركشة المسجد. و قد نفضت زليجات منه و اقتلعت، و هي المركبة قبل أشهر معدودة فقط، و لم يتم ترميمها إالا بعد أشهر. في حين بقي المسجد قائما لأحد عشر قرنا، مرددا قوله تعالى(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) صدق الله العظيم. كل شبر بهذا المسجد يحكي عن تاريخ تشييده و توسيعه، فقد أعاد بناءه، و نقل أحجاره و ترابه أزيد من 700 أسير من الإفرنج مقيدين في أغلالهم على عهد السلطان الموحدي يعقوب المنصور، الذي أجرى الماء للمدرسة المجاورة له من عيون البركة التي بغابة المعمورة على مسافات من مدينة سلا حتى أوصله إليها. إذا صادفت هذه الأيام، يوما ممطرا و أنت بداخل هذا المسجد ، فستندهش بوجود "سطيلات" و ضعت فوق زرابيه لتقي المصلين قطرات الماء المتسربة من ثقوب بالسقف الملاصق للقبة المقرنصة. نعم توضع " سطيلات" حتى لا تتكون أودية و برك مائية و أنهار و بحار، فيصير الركوع غطسا، و السجود سباحة فراشة. و يصبح المسجد الأعظم ثاني معلمة بعد المركب الرياضي بالرباط، التي نمارس فيها نشاطنا عوما. ربما الهدف من عدم إصلاح ثقوب السقف ، هو ثمرة فكرة جهنمية، لا تخطر على بال، وهي تذكير الأجيال المعاصرة بالتاريخ المجيد للمدينة عندما شن الفرنسيون هجوما على ثغر سلا بالكور و البنب (القنابل) التي أصابت المسجد، فتهدمت صومعته، و خرقت سقوفه قذائف الكور. كان ذلك ذات يوم من سنة 1851 م. فإذا كان المانع هو الحفاظ على ثقوب السقف، لإبراز العدوان الذي تعرضت له سلا، في أفق الانتقام للكرامة الشخصية، فلا يسعني من هذا المنبر إلا أن أشكر أصحاب هذه الفكرة الجهنمية، في تقليد العقيد معمر القدافي الذي حافظ على آثار العدوان الأمريكي على قصره، و جعل منه متحفا يزوره ضيوف الجماهيرية. بعد الصلاة ركعتين بالفناء، أسترجع ذاكرة هذا الصحن، الذي تنفتح عليه قاعة الصلاة. فتسرح عيني في تأمل الأقواس المتجاورة فوق أبواب مداخله. تتوسطها في الواجهة عقود مزدوجة تساهم في تحديد موقع المحراب الصيفي أو العترة. ثم أرخي عيني مكان وقوف الإمام، ليصطدم نظري ب" فردتي صندالة ميكة " مقطعة في النصف. و بفضول سألت عن الدافع لذلك، فأخبرت أنها مزقت طوعا حتى لا يطمع فيها و تسرق. فاسترجعت زمن القبقابات الخشبية التي كانت منتشرة بجنبات الفناء دون أن يمسها سوء. و تذكرت سهر "عمي لحسن" و "با محمد" و " با العوفير" و " و با بوشعراء" رحمهم الله، على رعاية و صيانة و تنظيف و حفظ النظام بالجامع الكبير. و أحملق في الساعة الشمسية المقابلة التي توجد في حالة إهمال، إذ تبدو قطرات الجير فوق أرقامها، كما علق فنار بجانبها يسدل ضله عليها عند ميول الشمس جهة الغرب، فيحد من وظيفتها. فأزداد حسرة و ألما و أسفا. إن هذا الجامع الذي يحكى أن أحباسا كثيرة خصصت كوقف لصيانة ابسط شيء فيه، حتى شجيرات الليمون التي تزين صحنه. هذا المسجد الذي كانت تفوح رائحة المسك من جدرانه و سقوفه أثناء كراسي العلم و تلاوة القرآن التي حضرها الأجداد. هذا المسجد الذي دفع غيرة الأجداد إلى الشروع في إعادة بناء صومعته ليلا عندما أصيبت بكور خلال ذلك اليوم المشؤوم، حتى لا يقال أن الإفرنج نجحوا في تحطيم صرح و معلمة يعتز بها أهل المدينة، لفي حاجة ماسة لإعادة ترتيب أوراق تنظيمه، و إعادة الاعتبار له، و إرجاع كراسي العلم له. و الاهتمام بالقيمين عليه، من مؤقتين و منظفين و مؤدنين و أئمة و علماء. رحم الله المؤدنين عبد الهادي و أحمد مبوزيد، و بريطل و الصدراتي و سي علي. و رحم الله المؤقتين من آل الزواوي، و كل العلماء و الفقهاء و المحدثين و الخطباء الذين أحيوا فيه شعائر الله. أرجوكم، لا تقتلوا الطمأنينة التي تسكن بداخلي كلما زرته.