»الديمقراطية هي حكم الشعب، من طرف لشعب، لأجل الشعب « كما قال آبراهام لينكولن. على ضوء هذا التعريف، تظهر جليا خصوصيات النظام السياسي المغربي، كاشفة إلى أي مدى تُخرق المبادئ المؤسسة للديمقراطية. فالمفاوضات بجميع أنواعها، للظفر برئاسة الجهات والجماعات، خير مثال على هذا الانحراف. إذ تُبين المفاوضات عدم اعتبار إرادة الناخبين، الذين تسارع الطبقة السياسية للتنكر لهم بصلافة ما أن تحصل على أصواتهم. فالرأي العام يتفرج عاجزا على سوق الأسهم لكبار الناخبين، حيث يُتفاوض حول كل شيء دون خجل، عن مناصب المسؤولية، عن المقاعد الإضافية، عن التحالفات غير الطبيعية والخيانات. فالناخبون والمناضلون يشاهدون في ذهول كيف يُضحى بالإيديولوجيات، البرامج والتحالفات السياسية على مذبح سياسة الأمر الواقع، الضغوطات، التعليمات والطموحات. هكذا يُسلم مستقبل بلدنا "للكلاب"، الذين يقتسمون وليمة السلطة في إنكار التام للديمقراطية. بدايةً، لنعاين أوجه القصور السياسي عندنا. فالمغاربة ليسوا بعد مواطنين بصفة كاملة، ليمارسوا جماعيا سلطة سياسية من خلال آليات الديمقراطية التمثيلية. إنهم مجرد ناخبين ليس إلا، لا يُعتد بآرائهم لدى طبقة سياسية لا تخجل وتستلم شيكا على بياض. فرأي المواطنين حول السياسة الوطنية والترابية لا تؤخذ بعين الاعتبار إلا مرة كل خمس سنوات، على افتراض أن الأمر هو كذلك حقا خلال الحملات الانتخابية. وخلال فترة مابين استفتاءين، يظل كل شيء مباحا. فلا وجود لاستطلاعات للرأي، رغم أهميتها في الممارسة الديمقراطية. وفي ظل تقنينات بدائية وانعدام الاستقلال المالي لوسائل الإعلام، تبقى هذه الأخيرة ذات أثر محدود. ولا يمكن إجراء الاستفتاء إلا بمبادرة حصرية من رئيس الدولة. كما أن حق المواطنين في تقديم الملتمسات والعرائض التشريعية، طبقا للفصلين 13 و14 من الدستور، غير مفعل في غياب قانون تنظيمي. وليس من حق الشعب قانونيا أن يحتج على القرارات السياسية، ماعدا عن طريق الطعن من أجل عدم دستورية القوانين أمام المحكمة الدستورية، التي لا يعلم أحد هوية رئيسها ومضمون الاجتهاد القضائي بها. ثم إن انتدابات النواب البرلمانيين وكذا المستشارين الجماعيين والجهويين ليست إلزامية، نظرا لكون برامج المرشحين ليست وعودا لا رجعة فيها، يترتب عن عدم تنفيذها الاستقالة أو عند الاقتضاء، الإعفاء. فكل نواقص النظام السياسي المغربي، كما هي موصوفة، مضمنة بالدستور. وإذا كانت هناك إرادة حقيقية لتنظيم أحسن للسلط السياسة وحماية أفضل للمغاربة من تعسفات ديمقراطية منحرفة، فلا بد من مراجعة للقانون الأسمى للمملكة. لنتأمل بكل وضوح انحرافاتِ المنافسة السياسية، حيث يُسمح بكل الضربات، حتى تلك التي تحت الحزام، وحيث يُقبل بكل التنازلات، حتى الأكثر جبنا، وحيث نرى جميع مظاهر الخبل الغريبة، حتى الأكثر سخافة. ولنوضح كلامنا. أولا، التحالف السياسي مفهوم ذو هندسة متغيرة، حسب نوعية القضايا المعالجة، وطنيا، جهويا أو محليا. فالتحالف الحكومي، المُشكل من الرباعي، العدالة والتنمية، التجمع الوطني للأحرار، التقدم والاشتراكية والحركة الشعبية، قد يكون فعالا للبلاد ولكنه غير ناجع في الأقاليم. وهذا مفهوم غريب للانسجام والإخلاص في السياسة ! ثم لنتساءل: أي التقاء إيديولوجي أو تقارب في البرامج قد نجده بين حزب إسلامي، يدعو للرجوع إلى المنابع الدينية لإعادة تشكيل المجتمع وإعادة صياغة القانون الوضعي، وبين حزب شيوعي يشهر علمانيته وتقدميته، اللهم ما كان من مصلحة ظرفية ؟ ثم إن الظروف التي مرت فيها مفاوضات الدوائر الحزبية العليا تشبه حلقات المزايدات العلنية أكثر مما تحيل على نقاش سياسي رصين. فماذا نقول عن رئيس مجلس النواب، المنتمي للتجمع الوطني للأحرار، الذي صرح بأنه لن يترشح لعمودية تطوان، ثم هاهو يضع ترشيحه على عجل لعدم وجود اتفاق مع العدالة والتنمية، ليعود لسحبه يوم الاقتراع ؟ وماذا عن الأمين العام لحزب الاستقلال، الذي أثار ضحك الجميع بعدم احترامه التزامه بتقديم استقالته، وترشحه لرئاسة جهة فاسمكناس، رغم هزالة نتائجه، ملقيا بتصريحات نارية عن نجاح مزعوم لحزبه، في إنكار مطلق للحقيقة، ثم يقرر لوحده الانسحاب من المعارضة في رد فعل بافلوفي ذي مزاج مدمر، تجاه حزب الأصالة والمعاصرة ؟ ثم ماذا عن الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي لم يجد أمام مناضليه من كفّارة إلا خرَسه وسلبيته ؟ وما القول في زعيم الأصالة والمعاصرة، الياس العماري، الذي لا يجد حرجا في فك التحالفات السياسية الوطنية ليبتكر تحالفات محلية، كل واحدة أكثر شبهة من الأخرى ؟ وماذا عن منتخبي وجدة ال39، من ضمنهم 30 من الأصالة والمعاصرة، 7 من الاستقلال و2 من العدالة والتنمية الذين يعرقلون بغيابهم انتخاب عمدة المدينة بذريعة عدم اكتمال النصاب ويرهنون بذلك الديمقراطية المحلية ؟ الخ ... بدل أن تخدم الأحزاب السياسية المصلحة العامة، تنساق لمنطقها الداخلي في الفوز بالسلطة من أجل صلاحيات وامتيازات السلطة. أكيد أنهم يضمرون هذا الهدف المكنون بعناية، من خلال شبه برامج للحكامة السياسية، ليس لها من البرامج إلا الاسم. فلا يعدو الأمر غالبا أن يكون مُجرد اقتراحات ساذجة، خجولة، مغرية أحيانا ولكن غير قابلة للتطبيق عمليا. وكل اللغط الدائر بعد الانتخابات هو مجرد وسيلة لإخفاء هذا الفشل. على المغاربة أن لا يستمروا في تحمل عبء أوليغارشيا سياسوية، عليهم أن يفرضوا إعادة تركيز النقاش حول صلب الأفكار السياسية والمشاريع والحلول الاقتصادية. وما عدا ذلك، لا يعدو أن يكون إلا بهرجة، لاغير.