"استعمال إسهالي مفرط، ألفاظ فاسدة، عزوف عصابي، محارة فارغة، خطابات البارانوريا والانطواء الفصامي، يتعبدها الكثيرون ويتلهجون بها، الخراق الملئ بالشقوق والفتوق، إعلاميون ومثقفين من هواة التبرج والطبخات الملفقة، المسخ والعناصر المرضية، زمر بئيسة متسلبة..."، تلكم بعض العبارات والألفاظ التي جادت بها قريحة السيد بنسالم حميش في مقاله الأخير – ينظر المقال على الرابط: http://www.hespress.com/orbites/276619.html- حيت تفتقت ملكته في ابتداع الكلام وإِبداء الرأي، فبحث في معاجم الألفاظ والمعاني، وفي قواميس الهجاء والطب الإكلينيكي، وفي سجلات الذم وأحكام القيمة، واستنفر وحشد كل ما تيسر له من اصطلاحات ومقولات، واستحدث أخرى، وحشر كل ذلك بكثير من التعسف، فدبج مقالاً مليئاً بأحكام عنيفة وعبارات متوقحة ينتقد فيه ما اعتبره "ألفاظاً فخاخاً". والخلاصة التي سعى وزيرنا السابق في الثقافة، للأسف الشديد، إلى تثبيتها في مقاله عبر ترصيع الذم والازدراء واختلاق صكوك الاتهام وأحكام القيمة هي ببساطة أن مفاهيم ومبادئ "التنوع الثقافي والفكري" لا تعدو كونها ضلالةً ومدعاة نكوص وكراهية، وأن "التعدد" ليس أكثر من مفسدة ومنزلق للتشتت والتشرذم، و"الاختلاف" مجرد محارة جوفاء، و"الانفتاح" افتتان بالمتغلب، وهلم جراً... اللهم إذا ما تمت مراقبتها والتحكم فيها وتزكيتها من داخل آليات "الوحدة" و"الإجماع" بالكيفية التي تقتضيها إيديولوجية بنسالم حميش الفاشلة وولاؤه القومي والمشرقي المعروف ! لا شك أننا، أمام مقال السيد حميش، إزاء بيان لا عقلاني يتسم بكثير من النزق والتعنت وبغير قليل من التحامل الغير المؤسس على حجج مقنعة، أكثر مما نحن أمام مقال فكري رصين كما أراد لنا الكاتب أن نعتقد. والملاحظ المتتبع لكتابات بنسالم حميش وردوده خلال السنوات الأخيرة كلما تعلق الأمر بأسئلة وقضايا التعدد الثقافي واللغوي بالمغرب وبالأمازيغية على وجه التحديد، لن يفاجئه مقاله الجديد، ذلك أننا ألفنا كيف ينتفض ويشحذ لغته ومعجم ألفاظه ويتسلح بأحكامه القيمية ويزيغ عن جادة صوابه الفكري، وتعودنا كيف أنه لا يتوانى عن توسل العنف والإساءة في النقاش والتعبير عن الرأي مفصحاً عن حساسية مفرطة اتجاه كل الألفاظ والمفاهيم والأفكار التي حاولت مساءلة "البراديغم" القومي الذي هيمن على الفكر والثقافة المغربيتين لعقود طويلة، بما في ذلك مفاهيم التنوع، والتعدد، والاختلاف، والنسبية، والانفتاح... وبخاصة لفظ الأمازيغية وخطابها الجامع الذي صار فعلا عقدة وزيرنا السابق التي تفقده رزانته واتزانه. فهو يأبى أن يزعزع أحد يقينه الأبدي بسمو مرجعيته وأفضليتها على باقي التعابير الثقافية واللغوية المغايرة، ويتنمر في مهاجمة كل من ناقشه في تعلقه الدوغمائي بحقه الإلهي في الوصاية والريادة...حتى لو مل الجميع من هذا الخطاب المتقادم، وحتى لو انتهى به الأمر وحيداً في معركته الدونكيشوتية. بل أن مثقفنا لا يتورع عن توظيف كل رصيده الاصطلاحي والمعرفي في محاولة لتبخيس أفكار ومفاهيم متسامية في أصلها ومعانيها، والتضحية بها على مذبح تطلعاته الإيديولوجية المتكلسة... وهو النهج التهجمي نفسه الموسوم بالعنف اللفظي والقول المسيء الذي توسله في مقال آخر -ينظر المقال على الرابط: http://www.hespress.com/orbites/261294.html- يرد فيه على كتابات وأراء الأستاذ حسن أوريد بشأن موضوع الأمازيغية، مغرقاً في غلوه وتعاليه الأجوف ومبحراً في قاموسه البذيء: "إنه كلام سائب ممجوج؛ كلام أدمن على ترديده عبيد المقولات العرقية والانتماءات العصبية الطهرانيةِ الميثي، زعم مشروخ، ميولات الإثنية و"العربوفونية، جنوح الغلاة التنصلي عربياً وحجاج إسرائيل، عقلية الغلِّ والحسيفة وسلوك الإثئار...". كذا، يا بنسالم!؟ والخلاصة أننا إزاء مثال فاضح ومزر على تشوهات اللاشعور السياسي والعقد الإيديولوجية لدى البعض، وقدرته على قرصنة ملكتي الفكر والثقافة، وتسخيرهما لإشباع النزعات والتطلعات النرجسية الفردية والجماعية الجامحة وحب الاستعلاء وإرادة الهيمنة. أما إذا ما أردنا مناقشة السيد حميش في مضمون كلامه، رغم كل شيء، فيكفي تذكيره بأن محاولة تبخيس مفاهيم التعدد والتنوع والنسبية والاختلاف والانفتاح... بكل حمولاتها الفلسفية والمعرفية والثقافية وأبعادها الحقوقية والديمقراطية، واعتبارها مجرد "ألفاظ فخاخ تثير الفساد والخراق والانهزامية"، والدعوة إلى تقنينها وإدارتها والتحكم في تداولها ! إنما هو مسعى تعوزه الحجة العلمية وموسوم بالتعنت المعرفي لخدمة الإيديولوجي، وتعبير جلي عن إسقاطات مغرقة في الذاتية، وإفصاح عن خيارات سياسية واضحة لا تجدي مساحيق التخريج الثقافوي واللغة المتعالمة كثيراً في التمويه عن نكوصيتها وإخفاء تقليدانيتها. فهدف الكاتب ليس سوى التكريس لنقيض هذه الألفاظ المفاهيمي والقيمي ومحاولة لبعثه والإعلاء من شأنه، وهو النقيض الذي يتلخص في ألفاظ التشابه والتنميط في مقابل التنوع، والتوحيد والتأحيد مقابل التعدد، والتماثل والتطابق مقابل الاختلاف... ناهيك على أن تسفيه مفاهيم وقيم الحداثة والنسبية والتشكيك في دلالاتها وأثرها الثقافي والحقوقي أو الدعوة لاحتكارها وتقنينها حسب ما تمليه المصلحة الإيديولوجية هو ببساطة إما تعبير عن تخبط وتناقض فكري مؤسف، أو ببساطة رفض صريح للمنظومة الفكرية التي أنتجتها، وتشكيك وتنقيص من أبعادها التحديثية وامتداداتها الحقوقية والديمقراطية، أي أن الأمر لا يعدو، في حقيقته ومجمله، سوى محاولة جديدة للانتصار لأنساق الفكر الأحادي العتيق وثقافة التنميط والاستبداد، ومسعى لبعث الروح في اختيارات إيديولوجية عنوانها الكبير الهيمنة الثقافية والسياسية والاستيعاب القسري للآخر. ويتأكد هذا النزوع الثقافوى المنافي للموضوعية والنزاهة المعرفية في توسله المتناقض والمزاجي لمفاهيم التعدد والاختلاف حسب السياقات وما تقتضيه ميولاته ومصالحه، فنجده يستنجد بهذه المفاهيم ويوظفها عندما يتعلق الأمر بدفاعه عن الثقافة العربية، أو بالأحرى المنظومة القومية العربية، في مقابل الثقافات الأخرى خاصة الغربية، فيجتهد في إبراز اختلافها ومغايرتها، فيما يرفض وينتقص من قيمة ذات المقولات والمفاهيم والمقاربات المعرفية عندما يتعلق الأمر بتناول واقع التعدد اللغوي والثقافي في المغرب، حيث لا يرى أي إمكانية للإقرار بذلك إلا من داخل محارة ثقافته الوصية وبرديكمه الإيديولوجي المستوعب والمهيمن. إن السيد بنسالم حميش، ورغم كل التطور الحثيث الذي تعرفه المجالات المعرفية، وبروز مفاهيم مستجدة كل يوم ترسخ لمبادئ التعدد والنسبية حتى في الحقول العلمية الدقيقة كالكيمياء والفيزياء...، ورغم أن التطور العلمي والمعرفي المضطرد في مختلف مجالات العلوم والمعارف، الحقة والإنسانية، مسار تأكيدي متواصل للقيمة النسبية للتجربة وللطبيعة الإنسانيتين ولطبيعة المعرفة وحدودها، وتوكيد على للطابع المتنوع والمنفلت للعالم بامتداداته سواء المتناهية في الصغر أو في الكبر، وانتصار "للعدالة الوجودية" بين مختلف أشكال الكائنات والبنى الطبيعية والثقافية مهما تباينت في أبعادها ودرجات حضورها، وتثمين للتنوع باعتباره شرطاً للتكامل والتدافع وضماناً للتوازن ومحركاً لمزيد من التطور والكمال... رغم كل هذا يبقي السيد حميش للأسف حبيس خلفيته الإطلاقية التقليدية ومنظوره الإيديولوجي، ربما لأنه وحده الكفيل بدغدغة نرجسيته وإشباع أناه، ولأن لا شيء غيره، على ما يبدو، يستجيب لنزوعه الاستعلائي ونفوره من كل حس نسبي أو إقرار باختلاف المقاربات وتعدد المنظورات في التحليل والسجال والحوار.